متى يكون الحج مبرورًا؟ خطبة الجمعة بتاريخ 23-11-1440هـ

السبت 24 ذو القعدة 1440هـ 27-7-2019م

الخطبة الأولى :
إنّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شُرورِ أنفسِنَا ومِنْ سَيّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلَا مُضِلّ لَهُ، ومنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].

عبادَ اللهِ: شُرعَ الحجُّ لمصالحَ كثيرةٍ وعطايا جزيلةٍ، وأهمُّها عبوديةُ اللهِ جلَّ وعلا وتوحيدُه وتعظيمُه وإجلالُه، وهو منسكٌ عظيمٌ، فَرضَهُ اللهُ تعالى على عبادِه تكفيرًا لذنوبِهم، وتكثيرًا لحسناتِهم، ورفعةً لدرجاتِهم، قال تعالى: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:97]، وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا)(رواه مسلم).

وهذا الحجُّ يتفاوتُ فيهِ الناسُ تفاوتًا عظيمًا، فبعضُهم يأتي به على الوجهِ المطلوبِ، ومنهمْ منْ يحصلُ عنده نقصٌ، والقليلُ مَنْ يرجعُ وليسَ لهُ حجٌ.

وكفى بالمسلمِ شرفًا وفخرًا أنَّه إذا أدَّى هذا الركنَ العظيمَ على الوجهِ المطلوبِ نالَ الجزاءَ الحسنَ مِنْ ربِّه، قال صلى اللهُ عليه وسلم:(الحَجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جَزاءٌ إلا الجنَّة)(رواه البخاري ومسلم).

وأيَّ نعمةٍ ينالُها العبدُ إذا ذهبَ إلى هذهِ البقعةِ المباركةِ ثم رَجعَ وقد قُبِلتْ عبادتُه، وغُفِرتْ ذنوبُه، ونالَ جنَّة ربِّه جلَّ وعلا.

وحقيقةُ الحجِّ المبرورِ هو الذي اسْتكملتْ أحكامُه، ولم يخالطُه شيءٌ من الإثمِ، فأخلصَ العملَ لربِّه، وأدَّاهُ على الوجهِ الذي سَنَّهُ رسولُه صلى اللهُ عليه وسلم، وسَلِمَ قلبُه لإخوانِه بحُسنِ أخلاقِه وتعاملِه، وابتعدَ عن ظلمِهم وإيذائِهم.

عبادَ اللهِ: ومَنْ أرادَ أن يكونَ حجُّه مبرورًا وسعيُه مشكورًا وذنبُه مغفورًا فعليهِ أن يأتي به على الوجهِ المطلوبِ كي يتحقَّق لهُ ما يريدُ، ومن ذلك:

أولاً: إخلاصُ العملِ للهِ جلَّ وعلا، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ..}[البينة: 5]، وقال صلى الله عليه وسلم:(إنَّما الأعمالُ بالنِّياتِ وإنَّما لكلِ امرىءٍ ما نوى)(متفق عليه)، فلا يَقصدُ بحجِّه رياءً ولا سمعةً، ولا فخراً ولا خيلاءً.

ثانياً: المتابعةُ للنَّبي صلى الله عليه وسلم، قال اللهُ جلَّ وعلا:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا..}[الحشر:7]]، وقال صلى اللهُ عليه وسلم: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ)(رواه مسلم).

ثالثاً: أن تكونَ نفقتُه من مالٍ حلالٍ؛ لقولِه صلى اللهُ عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا)(رواه مسلم) ولقوله صلى الله عليه وسلم:(وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ) (متفق عليه).

رابعاً: أن يكون حجُّه خاليًا من الجدلِ والرفثِ والفسوقِ: امتثالاً لقولهِ تعالى:{فَمَنْ

فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة: 197].

خامساً: أنْ يخلُوَ حجَّه من خوارمِ المروءةِ: بحرصِه على حسنِ التعاملِ والالتزامِ بمكارمِ الأخلاقِ، والتعاونِ على البرِّ والتَّقوى، والتناصحِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، وعدمِ إيذاءِ إخوانِه المسلمينَ بالدفعِ والمزاحمةِ؛ والتيسيرِ عليهِم بالإفساحِ لهم أثناءَ أداءِ العباداتِ، وخاصةً الضعفاءَ من كبارِ السنِّ، والنساءِ والأطفالِ.

سادساً: الإكثارُ من ذكرِ اللهِ تعالى؛ بالتلبيةِ والتكبيرِ والتسبيحِ والتهليلِ، استجابةً لقولهِ جلَّ وعلا:{وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أيام مَّعْدُودَاتٍَ}[البقرة: 203]، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أو أَشَدَّ ذِكْرًا}[البقرة:200]، وقولِه:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أيام مَّعْلُومَاتٍَ}[الحج:27].

سابعاً: العجِّ والثجِّ: وهي من أفضلِ الأعمالِ وأحبِّها إلى اللهِ تعالى، يقولُ صلى اللهُ عليه وسلم:(أَفضلُ الحَجِّ العَجِّ والثَّجِّ)(رواه الترمذي وحسنه)، والعَجِّ معناهُ: رفعُ الصوتِ بالتكبيرِ والتلبيةِ، والثَّجِّ معناهُ: إراقةُ دماءِ الهدايَا والنُسكِ. قال اللهُ تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}[الحج: 36].

أعوذُّ باللهِ من الشَّيطانِ الرَّجيمِ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين}[آل عمران:96، 97].

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والعظاتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفر لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على فضلهِ وإحسانهِ، والشُّكرُ لهُ على تَوفيقهِ وامتنانهِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه ومن سارَ على نهجِه إلى يومِ الدين، أما بعد:

فاتقوا اللهّ عبادَ اللهِ: واعلموا أنَّ من الفضائلِ العظيمةِ التي تترتَّبُ على الحجِّ المبرورِ ما يلي:

أولاً: أن جزاءَهُ الجنَّةُ: فعن أبي هريرة رضي اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: (..وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ) (رواه البخاري ومسلم).

ثانياً: أنَّه يهدمُ ما كانَ قبلَه: فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرُو بنِ العاصِ قال: لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي. قَالَ: مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ

وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ)(رواه مسلم).

ثالثًا: أنَّه من أسبابِ المغفرةِ: فعن أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: سمعت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول:(مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)(متفق عليه).

رابعاً: أنَّه من أفضلِ الأعمالِ عندَ اللهِ: فعن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قال: سُئلَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فذكر منها: (حَجٌّ مَبْرُورٌ)(متفق عليه).

وعن عائشةَ رضي اللهُ عنهَا أنَّها قالتْ: يَا رَسُولَ اللهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ: (لاََ لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ)(متفق عليه).

خامسًا: أنَّهُ ينفي الفقرَ والذنوبَ: فعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: (تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ؛ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الجَنَّةُ)(رواه الترمذي).

فليحرصْ كلُّ حاجٍ أن يؤديَ حجَّه على الوجهِ المطلوبِ، وليحذرْ من التحايلِ والكذبِ والذهابِ من دونِ تصريحٍ، وبذلكَ عسى أن يكونَ حجُّه مبرورًا.

أسأل اللهَ جلَّ وعلا أنْ يُيَسِّرَ على الحجيجِ حجَّهم، وأن يثيبَهم جزيلَ الثوابِ، وأن يرجعوا بفضلِ اللهِ وكرمِه مقبولاً حجُّهم مغفورًا ذنبُهم.

هذا وصلُّوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم اللهُ بذلكَ فقال جلَّ من قائلٍ عليمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).                                                                    

الجمعة: 23-11-1440هـ