القنوات الفضائية وأثرها على المسلمين (1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، قيوم السماوات والأراضين، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، وناصر المستضعفين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قدوة الخلق في كل خُلقٍ كريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنكم ملاقوه، فمن أطاعه فاز بالحسنى، ومن عصاه باء بالخسران المبين. [وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ](البقرة).
عباد الله: إن من المؤسف المحزن أن يعيش المسلمون الآن في وسط دوامة أمواج عاتية من مفسدات الدين والأخلاق، وما ذاك إلا بسبب تسلط أهل الباطل على أهل الإسلام، وبسبب ضعف الإيمان في قلوب المسلمين، وبسبب انفتاح الدنيا على الناس، وإدخال أسباب الشر في البيوت وسائر أماكن حياة الناس.
وإن مما يعيشه المسلمون في هذه الأيام حرباً ضروساً لا تقوم على القتال بالطائرات، أو القاذفات، أو الصواريخ، أو البنادق، أو سائر مقومات القتال، إنما تقوم على حرب شعواء تنال العقيدة، والأخلاق، وسائر المعاملات، وهذا لم يتأتَّى إلا لما فرَّط المسلمون في دينهم، وفتحوا أبواب الشر على مصراعيها يستقبلونها عن طريق أجهزة صُنعت خصيصاً من أجل أن تصل لكل بيت، وإن أعداء الملة والدين نجحوا نجاحاً كبيراً في إيصال ما يريدون للمسلمين عبر القنوات الفضائية التي يربو عددها على الآلاف، وعبر شبكات الإنترنت وغيرها من الوسائل الهدامة التي تنشر الشر وتعين أهله، وتحارب الخير وأهله
لذا وجب علينا جميعاً الوقوف أمام هذا المد الجارف الذي لا يترك صغيراً ولا كبيراً إلا أثَّر عليه وجرفه حيث يشاء، وأينما يريد.
عباد الله: إن القنوات الفضائية، والتي استعملت استعمالاً يغلب عليه
المخالفة لدين الله تعالى تعظم المشكلة أمامها حينما نقف أمام هذا الكمٍّ الهائل من البرامج والأخبار والقيم والأخلاقيات والسلوكيات التي تُعرض على المسلمين كموج عات كاد أن يقتلع قارب النجاة لولا بقية مما نستمسك به من ثوابتِ الدين، وتوجيهِ العلماء العاملين الصادقين.
فالقنوات الفضائية التي تُقدّم من خلالها البرامجُ المتعددةُ؛ العلميةُ والعمليةُ، الجديةُ والهزليةُ، التربويةُ والتعليميةُ، السياسيةُ والاقتصاديةُ وصل الحال بها أن تبث من خلالها ما تريد من خلال بث مباشر على الهواء، فاطلع عليها غالب المسلمين، ووصل أثرِها إلى العقول والأفكار، وتمكنت من الدخولِ إلى المساكن والبيوتِ، تحمل نتنها وسمومها، وتبث مجونها، وتنشر رذائلها وحقاراتِها وفجورهِا في مشاهدِ زورٍ، ومدارسِ خنا وفجور، تطبع في نفوس النساء والشباب محبةِ العشقِ والفسادِ والخمورِ، بل إنها بمثابة الشَّرَك وحبائل الصيد تقتنص القلوب الضعيفة وتصطاد النفوس الغافلة، فتفسد عقائدها، وتحرف أخلاقها وتوقعها في الافتتان والانحراف عن دين الله.
ولا أشد من الفتنة التي تغزو الناس في عقر دورهم ووسط بيوتهم محمومة مسمومة محملة بالشر والفساد. فتأثر بذلك هذا النشء الطاهر وتلطخ بسوء نتنها الكبير والصغير، بل وأصبحت هذه القنوات الفضائية هي المعلمة والموجهة والغارسة لكثير من القيم النشاز المخالفة لصحيح القيم الفاضلة بل وأصبحت هي المصدر الرئيسي للمعرفة والتلقي في ظل غياب الدور المؤثر لجهات الإصلاح في مواجهة مثل هذه القنوات ذات المنهج التراكمي في التغيير والممنهج على نزع الفضائل وتسطيح المجتمع وهتك سواتر الأدب في حياة الشعوب المسلمة.
عباد الله: هذا الهدر الأخلاقي من سيتصدى له؟ وكيف لأصوات المصلحين أن تقف في وجه هذا السواد القاتم والكالح الذي يضج فيه عالمنا.. فتراكمت الأخطاء وأصبح لها المنافحون عنها؟!
هل هذا هو الزمان الذي يحق للمرء فيه أن يغلقَ عليه بيتَه ويغلقَ عنه منافذَ
العالم كله ليأمن على نفسه من الفتنة والأذى..؟ كما قال صلى الله عليه وسلم (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)(رواه البخاري).
عباد الله: إن هذا الخطر المحدق بالجميع قد بدا أثره بين الناس في مجتمعنا المحافظ، حتى رأينا بأعيننا ما يعانيه شبابنا وبناتنا من الاقتداء بأهل الغرب والشرق في كل صغيرة وكبيرة، وأصبحت القنوات الإباحية وقنوات السحر والشعوذة، وقنوات التنصير، وقنوات القمار، وقنوات المجون والشذوذ، وقنوات اللهو والعبث، وغيرها كثير تؤثر سلباً على الجميع حتى تأثر بها بعض الصالحين. نعم حتى بعض الصالحين، وكيف لا وهي أشد على القلوب من ضرب بالسيوف، لأن هذه المؤثرات تخاطب النفس البشرية بكل ما تهواه وتريده، فترغب لها الشر والفساد، وتعلقها بشهوات الدنيا الفانية.
ولقد وقفت على وقائع أشخاص تحولوا من الصلاح إلى الفساد وهجروا ما حفظوا من القرآن وما كان معهم من العلم بسبب كثرة مشاهدتهم لتلك القنوات، ومعلوم أن كثرة الإمساس تقلل الإحساس.
إن خطر القنوات الفضائية من أشد أخطار هذا الزمان الذي نعيشه، فهي تبث سموماً في صورة حسنة حتى يستسيغها الناس ويقبلون عليها، ويتأثرون بها، وأنتم ترون حال كثير من المسلمين عندما يقفون مشدوهين بما يرونه من الإباحية والمحاربة لكل فضيلة حتى بزغ نفر من بني جلدتنا يفتخرون بهذه الخبائث ويشجعونها ويدَّعون أنها من سبل التحرر من الماضي.
نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشاد.
عباد الله: إن أعداء الله تعالى في كل حدب وصوب يوجهون كل ما يملكون من وسائل دعائية مصورة ومسموعة ومقروءة عن طريق صرف المليارات من الدولارات لجلب المسلمين إلى محبتهم وتعظيمهم والاقتداء بهم، [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ](الأنفال)، وهذا هو المشاهد الآن، وهذا هو المطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم . قيل يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال فَمَنْ؟)(متفق عليه).
عباد الله: إن أثر القنوات الفضائية في الانفلات العقائدي والأخلاقي في غالب الأفلام والمسلسلات والبرامج المستوردة لم يعد يخفى على أحد، كما لم تعد
حُجَّة تجنب المشاهد الإباحية مقنعة لكل من بقيت لديه مُسكة من عقل، فالإباحية لا تُنقل اليوم بشكلها السافر، بل من خلال أفلام وحلقات كاملة تُبث على مدار الساعة ويدور محورها الرئيس حول العلاقات الجنسية التي تجري بكل سهولة خارج إطار الزواج، وهو ما يسمى عند المسلمين الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من المشاهدين بالزنا، والذي يُعد من أكبر الكبائر في الإسلام كما لا يخفى على أحد.
هذا فضلا عن تشجيع الشباب والفتيات على التمرد وخرق الثوابت الإسلامية والأعراف الاجتماعية، والمشكلة أن ذلك لا يتم من خلال حوار حضاري يناقش مفاهيم الشباب وقناعاتهم، بل عبر السرد المستمر للقصص المثيرة للعواطف والغرائز تحت شعار الانفتاح تجاه الآخر والحرية الفردية!
بل ووصل الحال في بعض القنوات إلى خرق ثوابت الدين والأمن والوطن والوحدة في تشجيع سافر للإنفلات وتهجم على العلماء والحكام، وذلك كله عمل مأجور ويخدم جهات مشبوهة حاقدة على بلادنا، أقضت مضجعها ما ننعم به من أمن ورغد عيش وتلاحم بين القيادة والشعب.
عباد الله: إن الأثر الكبير والخطير لهذه البرامج التي يتم بثها على مدى أربع وعشرين ساعة لا يقتصر على بعض المشاهد غير المهذبة، بل في الثقافة التي يتشبع بها والتي تحمل في كل ثانية من ثواني البث رسائل مؤدلجة تترسخ في ذهن المشاهد العربي المسلم، والذي غالباً ما يكون في سن الشباب أو الطفولة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ](البقرة).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً، أمــــــا بــعــــد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن أعداء الملة يريدون لنا الهلاك والدمار، وما تلك المظاهر السيئة التي بدأت تظهر في أوساط المسلمين إلا بسبب ضعف الإيمان والتأثر بقنوات شياطين الإنس والجان. قال تعالى وتقدس[وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً](الكهف).
لذا فنحن نحتاج لوقفة قوية لكي نصلح ما أوقعنا أنفسنا فيه، ونخرج من دوامة التعاسة والشقاء إلى سعادة الدارين، وأنتم تعلمون ما كان عليه آباءنا وأجدادنا فقد كانوا يعيشون حياة إيمانية كريمة طيبة، يتقلبون فيها بين قيام الليل وصيام النهار، وتلاوة القرآن ونشر الخير بين الناس، أما الآن فالعكس هو الصحيح، لقد أصبح الناس يسهرون على المعاصي والمنكرات، وينامون غالب أوقات النهار معتمدين في ذلك على العمالة التي بين أيديهم في تيسير أعمالهم، وأيضاً استغناء البعض عن كتاب الله العظيم بتوافه الأمور عن طريق وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والتي يكون غالبها كذباً وبهتانا وزورا، وترويجاً للشر والسحر والمجون.
عباد الله: انظروا كيف كان سلفنا الصالح ــ رضوان الله عليهم ــ يغارون على أعراضهم، ويحرصون على بيوتهم، فهذا الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه يقول:(لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرَّم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن)(متفق عليه)، فكيف لو رأى سعد بن عبادة وغيره من الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ أحوالنا في إدخال الرجل أبواب الشر على أهله، فيفسد عليهم دينهم وأخلاقهم وسلوكهم، ويجلس الرجل مع زوجته وأولاده ذكوراً وإناثاً يشاهدون ويسمعون المنكرات ولا يتأثر ولا يغار ـ فإنا لله وإنا إليه راجعون ـ.
عباد الله: يجب على الجميع التعاون على الخير ونشره، وصد الفساد والوقوف أمام أهله، والحرص على أهلينا وأولادنا من دخول النار والعياذ بالله، وهذه وصية الله لكم لكي تنتبهوا، قال تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ](التحريم).
عباد الله: ولنا وقفة أخرى في جمعة قادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ حول آثار القنوات الفضائية على المجتمع المسلم عقائدياً، وأخلاقياً، وسلوكياً.. وكيفية الوقوف أمامها، وسبل العلاج منها.
أسأل الله تعالى أن يحفظ علينا ديننا، وأن يجنبا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم أدم علينا نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الموافق: 28/3/1429هـ