الشكاوى الكيدية والدعاوى والباطلة – خطبة الجمعة 2-6-1442هـ

الثلاثاء 13 جمادى الآخرة 1442هـ 26-1-2021م

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، معزِّ من أطاعَهُ واتقَاهُ، ومذلِّ من خالفَ أمرهُ وعصاهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ المستحقُّ للثناءِ والمجدِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلى آلِه وصحبِه إلى يومِ الدينِ. أما بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}[الحشر:18].

أيُّها المؤمنونَ: جاءتْ الشريعةُ آمرةً بالإنصافِ والعدلِ، وحرَّمت الظلمَ والعدوانَ، ومن الظلمِ الإضرارُ بالآخرينَ عن طريقِ المخاصمةِ بالباطلِ والإدعاءِ عليهم بغيرِ وجهِ حقٍّ كذبًا وزورًا وبهتانًا، قال تعالى:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون}[النحل:90]، وقال صلى اللهُ عليه وسلم فِيما رَوى عَنِ اللهِ تَبارَكَ وَتَعالى أنَّهُ قالَ: يا عِبادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظالَمُوا (رواه مسلم).

ومن صورِ الظلمِ المحرمةِ شرعًا الشكاوَى الكيديةُ والدعاوَى الباطلةُ، وهي مطالبةُ المدعي غيرَه بأمرٍ لا حَقَّ له فيه وبغيرِ وجهِ حقٍّ، مع علمِه بذلكَ في مجلسِ القضاءِ، والمدعي يقصدُ الإساءةَ وإلحاقَ الضررِ بالمدعَى عليه، ويَظْهرُ فيهَا الظلمُ والبهتانُ، قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:( مَن حالَت شفاعتُهُ دونَ حدٍّ من حدودِ اللَّهِ فقَد ضادَّ اللَّهَ، ومَن خاصمَ في باطلٍ وَهوَ يعلمُهُ، لم يزَلْ في سَخطِ اللَّهِ حتّى ينزِعَ عنهُ..)(رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (مَن أعانَ على خصومةٍ بظُلمٍ، أو يعينُ على ظُلمٍ، لم يزَلْ في سخطِ اللَّهِ حتّى ينزعَ)(رواه ابن ماجة، وصححه الألباني).

فهذه النصوصُ تدلُّ على الوعيدِ الشديدِ لمن أنشأَ خصومةً في باطلٍ، أو أعانَ على خصومةٍ وظلمٍ مع علمِه بذلكَ، مما يجعلُ هذَا الفعلَ كبيرةً من كبائرِ الذنوبِ.

عبادَ اللهِ: وممَّا كَثُرَ في هذهِ الأوقاتِ الشكاوَى الكيديةُ والدعاوَى الباطلةُ في المحاكمِ الشَّرعيةِ، ويُقصدُ منهَا الكيدُ بالخصمِ لأخذِ مالِه ظلماً، أو إلحاقِ الضَّررِ والأذى بهِ، ومِنْ صُورِ هذهِ الشكاوَى: مطالبةُ المرأةُ بالخلعِ من زوجِها بدونِ سببٍ شرعيٍ، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (أيُّما امرأةٍ سألتْ زوجَها طلاقًا من غيرِ بأسٍ، فحرامٌ عليْها رائحةُ الجنَّةِ)(رواه أبو داود وصححه الألباني).

وكذَا إقامتُها دعوَى تفريقٍ قضائيٍ حينَما يقيمُ الزوجُ دعوىَ لرجوعِها لبيتِ الزوجيةِ.

ومن ذلكَ إقامةُ الزوجِ دعوىً كيديةٍ ضدَّ زوجتهِ حينمَا تقيمُ عليهِ دعوىً للمطالبةِ بالنفقةِ.

ومن ذلكَ إقامةُ دعوىً على المدينِ المعسرِ العاجزِ عن السدادِ والوفاءِ، والمطالبةُ بحبسِه، واللهُ جلَّ وعلا يقولُ: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ..}[البقرة:280].

ومن ذلك إقامةُ دعوىً في الأملاكِ والأراضي مع علمِ المدعيْ أنَّه لا حقَّ له فيها، ولكنَّه يأخذُ ذلكَ بقوةِ لسانِه وتدلِيسه في خصومتِه وتغييره للحقائقِ.

عبادَ اللهِ: إنَّ تلكَ الشكاوَى الكيديةَ والدعاوَى الباطلةَ لهَا آثارٌ سلبيةٌ كثيرةٌ ومن ذلكَ أنَّها تكرِّسُ الظلمَ وتُوطِّدُه رسميًّا وتجعلُه كأنَّه حقيقةٌ قائمةٌ، فيخفى الحقُّ ويعلو الباطلُ حتَّى يظنَّ الكائدُ أنَّه انْتصرَ، ويَظنُّ المدعي أنَّه استطاعَ أن يدلِّسَ على الحاكمِ أو القاضي أو المسؤولِ، حتَّى يَحكمَ له على صاحبهِ المدعى عليه، وقد قال رسولُنا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم:(إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي على نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النّارِ)(رواه البخاري).

ومِنْ آثارِها أيضًا أنَّها تُشْغِلُ المسؤولينَ بالبحثِ والتقصيِّ، وتُشغلُ المحاكمَ والقضاةَ بالجلساتِ الكثيرةِ، وتَتَسبَُّ في هدرِ موارِد الوطنِ وأوقاتِ قياداتِه، وحرمانِه مِْ نتاجِ المخلصينَ، وتُوقعُ مَنْ يقعُ في هذهِ الجريمةِ الكيديةِ في إثمٍ عظيمٍ أمامَ اللهِ جلَّ جلالُه، ففي الحديثِ:(اتَّقوا دعوةَ المظلومِ، فإنَّها تُحمَلُ على الغَمامِ، يقولُ اللهُ جلَّ جلالُه، وعزَّتي وجلالي لأنصُرنَّك ولو بعد حينٍ)(رواه الطبراني، وحسنه الألباني).

وكذلكَ من آثارِ هذِه الشكاوَى أنَّه ينشأُ بسببِها صراعاتٌ إداريةٌ، ويَحُصلُ بسببِها فتنٌ ومهاتراتٌ تُربكُ منظومةَ العملِ، حتَّى تعصفَ بهَا رياحُ التوتّرِ ويشعُر الموظفونَ بانعدامِ الأمنِ الوظيفيّ، وخاصةً إذَا شَعرَ المحترفُ للشكاوَى الكيديةِ أَنَّه مصدَّقٌ عندَ مسؤولِيه بسببِ كيدِه ومكرِه، مما يجعلُه يتمادى في تهديدِ الآخرينَ والنيلِ من كرامتِهم، وكلَّ ذلكَ يتركُ أثرَه على الإنتاجيةِ والأداءِ.

أعوذُ باللهِ من الشَّيطانِ الرجيمِ:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين}[الأنفال:30].

باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:  

فلا يحسبنَّ أصحابُ الشكاوَى الكيديةِ والدعاوَى الباطلةِ أنَّهم بعيدونُ عن رقابةِ اللهِ واطِّلاعِه على ما يفعلونَ، كلَّا واللهِ؛ فاللهُ جلَّ وعلا يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصدورُ، ويمكرُ بهؤلاءِ كما يمكرونَ بخلقِ اللهِ، قال تعالى:{اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ..}[فاطر:43]، وسوفَ يحاسبُهم حسابًا عسيرًا يومَ يلقونَه بتلكَ المظالمِ العظيمةِ التي ارتكبوهَا في حقِّ أناسٍ أبرياءَ، قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم:(كُلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرامٌ: دَمُهُ ومالُهُ وعِرْضُهُ) (رواه البخاري ومسلم). قَالتْ أعرابيةٌ لرجلٍ تخاصمُه: “خَفِ الله، واعلمْ أنَّ مِنْ ورائكَ حكمًا لا يحتاجُ المدعي عندَه إلى بينةٍ”.

عبادَ اللهِ: وإذا تبيَّن للقاضي أنَّ دعوى المدعي كيديةٌ يريدُ بهَا مجرَّدَ الإساءةِ والظلمِ والتَّعدي وإلحاقِ الضَّررِ بالمدعَى عليه جازَ لهُ تعزيرُ المدعي، وإنزالُ العقوبةِ عليهِ بمَا يردِعُه ويزجرُه ويكفُّ أذاهُ، ويمنعُ غيرَه من الإضرارِ بالناسِ، وعليه مراعاةُ أحوالِ المدعَى عليهم، فقد يكونونَ من أهلِ الصلاحِ والتُّقى، ولا سيَّما في دعاوَى التُّهمُ التي لمْ تَثْبت.

وإذا تكبَّدَ المدعى عليه أضرارًا ماليةُ تتطلَّبُها المرافعاتُ القضائيةُ من نفقاتٍ أو مصروفاتٍ أو أضرارٍ معنويةٍ، جازَ له المطالبةُ بالتعويضِ عمَّا لَحَقَ به من أضرارٍ. قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمَه الله: “من غَرِمَ مَالاً بسببِ كذبٍ عليه، عند وليِّ الأمرِ فله تضمينُ الكاذبِ عليه بما غَرِمَه”.

وجاءَ في فتاوى الشيخِ محمدِ ابنِ إبراهيم رحمه اللهُ حولَ هذهِ المسألةِ ما نصَّه: “إنَّ للحاكمِ الشرعيِّ الاجتهادَ في مثلِ هذهِ الأمورِ وتقريرَ ما يراهُ محقِّقًا للعدلِ، ومزيلاً للظلمِ والعدوانِ، زاجرًا من يتعمَّدُ الإضرارَ بإخوانِه المسلمينَ، رادعًا غيرَه ممن تُسوَّل لهم أنفسُهم ذلك”. وقالَ في موضعٍ آخرَ: ” وذلكَ أنَّ العلماءَ رحمهم اللهُ نصُّوا على أنَّ كلَّ مَنْ غَرمَ بسببِ عدوانٍ شخصيٍ آخرَ، أَنَّ ذلكَ الشخصَ هوَ الذي يتحمَّلُ تلكَ الغرامةَ.

وقد جاءتْ نصوصُ الشريعةِ دالةً على مشروعيةِ جرِّ الأضرارِ الماديةِ بالتعويضِ المالي، وذلكَ لأنَّ مَنْ ألحقَ ضررًا بغيرِه فهوَ ضامنٌ لذلكَ، والضَّررُ سببٌ من أسبابِ الضَّمانِ، قالَ تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ..}[البقرة:194]، وقالَ تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ..}[النحل:126].

وروى أنسُ بنِ مالكٍ رضي اللهُ عنه قالَ: كانَ النبيُّ ﷺ عِنْدَ بَعْضِ نِسائِهِ، فأرْسَلَتْ إحْدى أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ بصَحْفَةٍ فِيها طَعامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتي النبيُّ ﷺ في بَيْتِها يَدَ الخادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فانْفَلَقَتْ، فَجَمع النبيُّ ﷺ فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيها الطَّعامَ الذي كانَ في الصَّحْفَةِ، ويقولُ: غارَتْ أُمُّكُمْ ثُمَّ حَبَسَ الخادِمَ حتّى أُتِيَ بصَحْفَةٍ مِن عِندِ الَّتي هو في بَيْتِها، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إلى الَّتي كُسِرَتْ صَحْفَتُها، وأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ في بَيْتِ الَّتي كَسَرَتْ)(رواه البخاري). فاحذروا عبادَ اللهِ من الظلمِ بجميعِ أشكالِه، فهوَ سبيلُ أصحابِه إلى عذابِ اللهِ وبئسَ المصيرِ، أعاذنَا اللهُ وإيَّاكُم من ذلكَ.

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].

الجمعة:  2/6/1442هـ