لا تحزن .. إن الله معك – خطبة الجمعة 14-4-1443هـ

الجمعة 14 ربيع الثاني 1443هـ 19-11-2021م

 

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أكرمنا بنعمةِ الإسلامِ، وشَرَحَ صُدورَنا بالإيمانِ، وهدانَا لأحسنِ الأخلاقِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، زَرَعَ اليقينَ في قلوبِ عبادِه فزادَهم إيمانًا وأذْهبَ عنهم الكدرَ والأحزانَ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، أطيبُ الناسِ عيشًا في طاعةِ الرَّحمنِ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].

عبادَ اللهِ: الدُّنيَا دارُ ابتلاءٍ وامتحانٍ، وحَزْنٍ وهمٍّ وغمٍّ إلا ما كانَ فيها من محبةِ اللهِ والإيمانِ به وتعظيمِه وإجلالِه وطاعتِه والتعلُّقِ به وحسنِ التوكُّلِ عليه، وتفويضُ كلِّ الأمورِ إليه، ومَنْ كانَ اللهُ معه في كلِّ حالِه كانَ أطيبَ النَّاسِ عيشًا، وذَهَبتْ عنه الهُمومُ والغمومُ والأحزانُ، ومَنْ كانَ بعيدًا عن اللهِ كَانَ أشْقَى النَّاسِ.

أيُّها المؤمنونَ: بعضُ النَّاسِ تَراهم دائمي الحَزْنِ، عمَّت حياتَهم الكآبةُ وأصابتْهُم الأمراضُ العضويةُ والنَّفسيةُ، والحَزنُ مرضٌ عضالٌ، وداءٌ خطيرٌ يَضرُّ القلبَ، ويُضعفُ الإيمانَ واليقينَ، وهو مرضٌ من أمراضِ القلبِ، يَمْنَعُه من نهوضِه وسيرِه وتشميرِه، ويُضعفُ العبدَ عن القيامِ بأمرِ اللهِ، والمسارعةِ إلى طاعتِه ومرضاتِه، ويُسبِّبُ ضيقَ الصدرِ، ويُورثُ الهمَّ والقلقَ، ويُوردُ صاحبَه مواردَ الهلاكِ، وقد كانَ نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يستعيذُ باللهِ من الحَزْنِ فيقولُ:(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) (رواه البخاري (6369). قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: «ولم يأتِ الحَزَنُ في القرآنِ إلا منهيًّا عنه، أو منفيًّا، فالمنهيُّ عنه كقولِه تعالى:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139]، وقوله:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}[النحل: 127]، وقوله:{لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة: 40]، والمنفيُّ كقوله:{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وسرُّ ذلك: أنَّ الحَزَنَ يقطعُ العبدَ عن السيرِ إلى اللهِ، ولا مصلحةَ فيه للقلبِ، وأحبُّ شيءٍ إلى الشيطانِ أن يُحْزنَ العبدَ ليقطعَه عن سيرِه، ويُوقفَه عن سلوكِه» انتهى كلامه (مدارج السالكين (3/377ـ378).

عبادَ اللهِ: والْحَزَنُ ينقبضُ منه القلبُ، ويَعبسُ له الوجهُ، وتَشْقى منه الروحُ، وهو يأسٌ جاثمٌ، وفقرٌ حاضرٌ، وقنوطٌ دائمٌ، وإحباطٌ مُحقَّقٌ، وفشلٌ ذريعٌ، وهوَ من الشيطانِ الرجيمِ. وهذا الحَزَنُ لا يَردُّ مفقودًا، ولا يَجلِبُ نفعًا، ولا يَبْعثُ ميتًا، ولا يَردُّ قضاءً ولا قدرًا، بل يَسرُّ العدوُّ، ويُشمتُ الحاقدَ والحاسدَ، ويُذكِّرُ بالماضي الأليمِ.

فيا أيُّها الحَزينُ إنْ كنتَ ضعيفًا فغيرُك سقيمٌ، وإنْ كنتَ فقيرًا فغيرُك محبوسٌ في دَيْنٍ، وإنْ كنتَ لا تملكُ بيتًا فغيرُكَ لا يَجدُ مكانًا يَسكنُ فيه، وإنْ كنتَ لا تملكُ سيارةً فسواكَ مبتورُ القدمينِ، وإنْ كنتَ تَشْكُو بعضَ الآلامِ فهناكَ آخرونَ يتوسَّدون الأسرَّةَ البيضاءَ لا يستطيعونَ القيامَ، وإنْ فَقَدتَ ولداً فسواكَ فَقَدَ الكثيرَ، وإنْ كُنتَ لا تجدُ بعضَ الطعامِ فغيرُك لا يَجدُ كِسْرةَ خُبزٍ يأكُلها.

أيُّها المؤمنونَ: اعلموا رَحمَِكُمْ اللهُ أنَّ من أعظمِ الأسبابِ الجالبةِ للْحَزَنِ الإعراضَ عن طاعةِ اللهِ تعالى ومعصيتَه، فالبعيدُ عن اللهِ، والعاصي له قلبُه قاسٍ، وصدرُه ضيقٌ وحُزْنُه مُستَمرٌ، ومن الأسبابِ الجالبةِ لِلْحَزَنِ المصائبُ في الدنيا، كفقدِ عزيزٍ، أو حبيبٍ، أو فقرٍ، أو مرضٍ، أو ظُلمٍ، أو غيرِ ذلك، ومن الأسبابِ أيضًا عدمُ القدرةِ على مواجهةِ الضغوطِ الحياتيةِ واليوميةِ، وعدمُ تحديدِ الهدفِ والغايةِ التي خُلِقَ من أجْلِها الإنسانُ، والمبالغةُ في الاهتمامِ بصغائِر الأمورِ وسفاسِفها.

عبادَ اللهِ: لِلْحَزَنِ آثارٌ وأضرارٌ على النَّفسِ والبدنِ ، ومن ذلك:

1ـ أنَّه يُضعِفُ الإيمانَ واليقينَ، ويَصرفُ القلبَ عن التعلُّقِ باللهِ جلَّ وعلا.

2ـ أنَّه يُسبِّبُ لصاحبِه ضيقَ الصدرِ، وكثرةَ التفكيرِ والوساوسِ والخطراتِ المضرَّةِ.

3ـ أنَّه يُهلكُ نفسَ صاحبِه، فكلَّما تكالبَ الحَزَنُ على قلبِ العبدِ ضَاقَ ذرعًا بحياتِه.

4ـ  أنَّه يُفتِّرُ العزائمَ، ويُسبِّبُ الضعفَ، ويُثبِّطُ صاحبَه عن السعْيَ في مصالحِ أمورِ دينِه ودنياهُ وآخرتهُ.

5ـ أنَّه يُسبِّبُ الكثيرَ من الأمراضِ النَّفسيةِ والعُضويةِ، التي تَضرُّ البدنَ وتُضعفُ العقلَ، وتَقلبُ الحياةَ الطيبةَ إلى حياةٍ تعيسةً؛ كالصداعِ، وآلامِ الظهرِ والرقبةِ وغيرِهَا، واضطراباتِ النومِ، وفقدانِ الشَّهيةِ، وضعفِ الجهازِ المناعيِّ، والتعبِ والإرهاقِ، والخمولِ، وبعضِ أمراضِ القلبِ، وبعضِ مشاكلِ الجهازِ الهضميِّ، والقُولونِ العصبيِّ، وبعضِ الأمراضِ العصبيّةِ، كالاكتئابِ واللامبالاةِ.  

6ـ أنَّه يُرْضِيْ الشَّيطانَ، ويُحْزِنُ المؤمنَ، قال تعالى:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[المجادلة: 10]

باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ: 

فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنون، واعلموا أنَّ كلَّ حُزْنٍ مذمومٌ إلا ما يُثابُ عليه صاحبُه، ويُحمدُ عليه، كمن يُصابُ في دينِه، أو يَحْزنُ على مصائبِ المسلمينَ عمومًا، لما في قلبِه من حبِّ الخيرِ، وبُغْضِ الشرِّ ، فهذا الحَزَنُ محمودٌ لما فيه من الغيرةِ على دينِ اللهِ تعالى.

عبادَ اللهِ: لا تَحزنُوا على ما فاتَكمْ، ولا ما أصابَكُم فإنَّ ذلكَ لا يَردُّ قضاءَ اللهِ، فكلُّ بلاءٍ يَمضيْ، وكلُّ مرضٍ يزولُ، وكلُّ سقيمٍ يُعافَى، وكلُّ مصابٍ يُؤْجرُ، وكلُّ دَّيْنٍ يُقضى، وكلُّ محبوسٍ يُفكُّ أَسْرُه، وكلُّ غائبٍ يَقدمُ على أهلِه، والذي خَلقَ العبادَ، هو الذي يَملكُ لهم السعادةَ والشقاءَ، فلا تَحْزَنْ أيُّها المسلمُ ما دَامَ أنَّ اللهَ معكَ، يقينًا وثقةً وإيمانًا جازمًا، فَمَنْ غيرُ اللهِ يُنفِّسُ كربَكَ، ويُذْهبُ همَّكَ وغمَّكَ، ومَنْ الذي يَتولَّى جميعَ شأْنِكَ، ويُحوِّلُ حُزْنكَ إلى فرحٍ، وضِيْقَكَ إلى فرجٍ، ومَنْ غيرُ اللهِ يَقْدِرُ على تغييرِ مُجرياتِ حياتكَ، فعلِّقْ قلبكَ بربِّكَ، ولا تَلْجأْ لأحدٍ غيرَه، واعْلمْ أنَّ اللهَ هو الغنيُّ الحميدُ.

ولقدْ أَرْشَدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مَنْ أصابَه الحَزْنُ إلى هذا الدعاءِ الجميلِ، فقال عليه الصلاةُ والسلامُ: (مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا)، قَالَ: فقيل: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَتَعلمُهَا؟ قَالَ: (بَلْىَ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا)(رواه أحمد (3712).

فكنْ يا عبدَ اللهِ واثقًا في اللهِ، مُحْسِنًا الظنِّ بهِ فيما يُقدِّره عليكَ مِنْ المصائبِ والمحنِ والابتلاءاتِ، وكُنْ راضيًا بِحُكمِه، ولا تَجعلِ الدُّنيَا أكْبرَ همِّكَ، ولا مَبْلغَ عِلْمِكَ، بلْ قدِّمْ لنفسِكَ من الأعمالِ الصالحةِ التي تُرضي عنْكَ ربَّكَ، واعلمْ أنَّه إذَا رَضَيَ عنَّكَ سَعِدْتَ سعادةً ما بعدهَا شقاءٌ أبدًا.

أسألُ اللهَ تعالى أَنْ يُذْهبَ عنَّا وعَنْكُم وعن المسلمينَ كُلَّ حَزَنٍ، وأَنْ يملأَ قُلوبنَا بنورِ الإيمانِ واليقينِ.

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56].              

الجمعة:  14 / 4 / 1443هـ