أقبل رمضان فاغتنموا – خطبة الجمعة 29-8-1443هـ

الجمعة 29 شعبان 1443هـ 1-4-2022م

 

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ على نعمةِ بلوغِ شهرِ رمضانَ، شهرِ الرحمةِ والغفرانِ، والتوبةِ والرِّضوانِ، والعتقِ من النيرانِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ قدوةُ الأنامِ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ، فالعزُّ والشرفُ والفخرُ لأهلِ التُّقى، فهي كنزٌ عظيمٌ، وجوهرٌ ثمينٌ، يقولُ عنها ربُّ العالمين:{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[البقرة:197]، والقبولُ معلَّقٌ عليها {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِين} [المائدة:27]، والغفرانُ والثوابُ الموعودُ يُعطى لأهلِها، وهم الأعلونَ في الأولى والآخرةِ {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص: 83].

أيُّها المؤمنونَ: ساعاتٌ قليلةٌ ويظلَّكم شهرُ رمضانَ المباركُ؛ فها هو أقبلَ ونسيمُ نفحاتِه العبقةِ قد هلَّت، شهرٌ تسمو فيه أرواحُ المؤمنينَ لأعلى درجاتِ النقاءِ والصفاءِ، ويستعدِّون فيه للاجتهادِ في أيَّامِه محبةً وطاعةً لربهم، واقتداءً بسنةِ نبيِّهم  ، لتزكوَ نفوسُهم وتَطْهرَ قلوبُهم وتسموَ أرواحُهم، يقولُ نبيُّنا :(أتاكم شهرُ رمضانَ، شهرٌ مبارَكٌ، فَرَضَ اللهُ عليكم صيامَه، تُفتحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، وتُغلَقُ فيه أبوابُ الجحيمِ، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ) رواه النسائي (4/129)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (55). فيا مَن طالَتْ غيبتُه عنَّا، قد قرُبت أيَّام المصالحةِ، ويا مَن دامت خسارتُه قد أقبلتْ أيَّامُ التجارةِ الرابحةِ، فمَن لم يربحْ في هذا الشهرِ العظيمِ ففي أيِّ وقتٍ يَربحُ؟! ومَن لم يَقْربْ فيه مِنْ مَوْلاه فهو على بُعدِه لا يبرحُ.

عِبادَ اللهِ: إنَّ من فضلِ اللهِ على عبادِه أَنْ جَعَلَ في هذا الشهرِ الكريمِ أعمالاً صالحةً تَجعلُ النُّفوسَ مقبلةً على مولاها، منقادةً إلى ربِّها وخالِقها، والله جلَّ وعلا جَعَلَ هذا الشهرَ تطهيرًا لقلوبٍهم من أدرانِها، وجوارحِهم من ذُنوبِها وخطاياهَا، ونفوسِهم من اتِّباعِ أهوائِها، وهو طريق العبادِ إلى الجنانِ، والفوزِ بالرضوانِ، والدخولِ من بابِ الريَّانِ.

عبادَ اللهِ: ومن أسمى أهدافِ صيامِ شهرِ رمضانَ وقيامِه ما يلي:

أولاً: تربيةُ النَّفسِ على تحقيقِ التَّقوى والخوفِ من اللهِ وتَجنُّبِ مساخطِه والالتزامِ بطاعتِه؛ فهو يُورثُ التَّقوى لما فيه من انكسارِ الشَّهوةِ وانقماعِ الهَوى؛ ويردعُ عن الأَشَرِ والبَطَرِ والفَواحشِ، ويُهوِّنُ لذَّاتِ الدنيا والتعلِّقِ بها، ويُعطي القلبَ والنفسَ والجوارحَ قوةً على حُبِّ الطاعةِ والإقبالِ عليها والتلذذِ بها، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

ثانيًا: مَنْ صامَ شهرَ رمضانَ إخلاصًا ومتابعةً نالَ عظيمَ الأجرِ من اللهِ، قال : (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إلى سَبْع مِائَة ضِعْفٍ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِي. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فيه أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِن رِيحِ المِسْكِ) رواه مسلم (1151).

ثالثًا: يُستحبُّ في هذا الشهرِ الإقبالُ على اللهِ والتَّوبةُ إليه من جميعِ الذنوبِ، حتى يَخرجَ منه العبدُ وقد غُفِرتْ جميعُ ذنوبِه، قال :(.. ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضانُ ثُم انْسَلَخَ قبلَ أن يُغفرَ لهُ..) رواه الترمذي (3545)، وصححه الألباني في صحيح الجامع  (3510).

رابعًا: على المسلمِ أَنْ يجتنَّب أذى إخوانِه بلسانِه ويدِه، فهي تجرحُ صومَه وتُضِعفُ أجرَه؛ قال : (مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجَهْلَ، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ) رواه البخاري (6057)، وقال :(الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فلا يَرْفُثْ يَومَئذٍ وَلَا يَسْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) رواه مسلم (1151).

خامسًا: مما يَستجِلبُ عفوَ اللهِ عن العبدِ عَفوهُ عن إخوانِه، وخفضُ الجناحِ، ولينُ الجانبِ، ومن أجملِ دَعَواتِ العفوِ الواردةِ ما روتُه أمُّنا عائشةُ رضي اللهُ عنها أنَّها قالت: (يا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ إن وافقتُ ليلةَ القدرِ ما أدعو قالَ تقولينَ اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي) رواه ابن ماجه (3850)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3119).

سادسًا: علينا أَنْ نتذكَّرَ ونحنُ بعافيةٍ وسترٍ وأمْنٍ وأمانٍ ورغدِ عيشٍ ما يُعانيهِ إخوانُنا في بلادِ كثيرةٍ من الفقرِ وقلِّةِ الأرزاقِ وشدَّةِ الخوفِ والغُربةِ عن أوطانِهم، فنشكرُ اللهَ ونحمدُه على ما أولانا، ثمَّ نذكرُهم بدعوةٍ صادقةٍ من قلوبِنا، عسى الله تعالى أَنْ يفرَّجَ عنهم بها كربتَهم ويُهوِّن بها عليهم شدَّتهَم ومعاناتَهم.

أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}[البقرة:183].

باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيم ونفعنِي وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ إنَّهُ هو الغفورُ الرّحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أمتَه كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين. أما بعدُ:

فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ، واعْلموا أنَّ شهرَ رمضانَ فرصةٌ عظيمةٌ، ومنْحةٌ جليلةٌ أَكْرمَنا اللهُ بها، فعلينا أَنْ نستغلَّ أيامَه في الحرِصِ على التزوِّدِ من الطاعاتِ والإكثارِ من الحسناتِ، فهو غنيمةٌ عظيمةٌ لمن عَرَفَ قَدْرهَا، ومن الأعمالِ المهمةِ في هذا الشهرِ الكريمِ ما يلي:

أولاً: صيامُ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، رغبةً في غفرانِ الذنوبِ، وتحصيلِ الأجرِ الوفيرِ والثوابِ الجزيلِ، قال : (مَن صَامَ رَمَضَانَ، إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ) رواه البخاري (38).

ثانيًا: الحرصُ على صلاةِ الجماعةِ، وعدمُ التفريطِ فيها، والنومِ عنها.

ثالثا: الحرصُ على صلاةِ التراويحِ وحضورِها مع جماعةِ المسلمينَ، قال : (مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ)(رواه البخاري(37) ومسلم(759).

رابعًا: الحرصُ على ختْمِ القرآنِ في رمضانَ أكْثرَ من مرةٍ، وكلَّما زادَ المسلمُ من خَتَماتِه حصَّل أجرًا عظيمًا وثوابًا جزيلاً.

خامسًا: البذلُ والإنفاقُ في رمضانَ، كإخراجِ الزكاةِ، والإكثارِ من الصدقاتِ، وإفطارِ الصائمينَ، والسعيِ في حوائجِ المحتاجينِ، وإدخالِ السرورِ على الفقراءِ والمساكينِ، فقد كانَ أجودَ النَّاسِ في رمضانَ، وكان أجودَ النَّاسِ حينما يُدارسُه جبريلُ القرآنَ.

سادسا: أداءُ العمرةِ في هذا الشهرِ، فقد وَرَدَ عنه أنَّه قال: (فإنَّ عُمْرَةً في رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أوْ حَجَّةً مَعِي) رواه البخاري (1863).

سابعًا: الإكثارُ من التَّوبةِ والاستغفارِ، فهي مرغوبةٌ في هذا الشهرِ أَكْثرَ من أيِّ شهرٍ آخرَ. قال :(إنَّ للهِ تعالى عتقاءَ في كلِّ يومٍ وليلةٍ، لكلِّ عبدٍ منهم دعوةٌ مُستجابةٌ) رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2169).

ثامنًا: الإكثارُ من الدعاءِ وخاصةً عندَ الفطرِ، وعندَ الأذانِ وبينَ الأذانِ والإقامةِ، وفي الأسحارِ.

تاسعًا: إحسانُ الظَّنِّ باللهِ تعالى وتغليبُ جانبِ العفوِ والرَّحمةِ، مع الاجتهادِ في العملِ الصالحِ لنيلِ رحمةِ اللهِ في هذا الشهرِ المباركِ.

عاشرًا: تحرِّي ليلةِ القدرِ: وذلك بالحرصِ على القيامِ مع الإمامِ في صلاةِ التراويحِ والتهجِّدِ، وكذلكَ بالاعتكافِ في العشرِ الأواخرِ لمن تيَّسرَ له ذلك؛ قال : (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ) رواه البخاري (2017).

وختامًا أيُّها المؤمنونَ: رمضانُ فرصةٌ لا تُعوَّضُ، فهو نفحةٌ من نفحاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والسعيدُ مَنْ استغلَّها وفازَ بها، فاستَعدَّ له أيُّها المؤمنُ، ورتِّبْ أوقاتَكَ وأعمالَك حتَّى تنالَ إعانةَ اللهِ وفضلَه في تحصيلِ الأجورِ العظيمةِ.

هَذا وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى محمدِ بنِ عبدِ اللهِ فقدَ أَمَركَم اللهُ بذلكَ فقال جلَّ من قائلٍ عليمًا: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب:٥٦).

29/8/1443هـ