ترائي الهلال وبيان ما يثبت به دخول شهر رمضان
يقول المولى جل وعلا:[ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ](سورة البقرة: الآية 185).
في هذه الآية إيجاب صيام رمضان من أوله إلى آخره، ومعرفة أوله وآخره تتم بأحد أمرين:
أولاً: رؤية هلال شهر رمضان، فمتى ثبتت رؤية هلال شهر رمضان وجب الصيام سواء رآه بنفسه أو رآه غيره وصدق خبره، ودليل ذلك:
ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: (لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غمَّ عليكم فاقدروا له…)(رواه البخاري ومسلم).
وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين..)(رواه البخاري ومسلم).
بهذه الأدلة يتضح أن الشارع علَّق حكم دخول شهر رمضان بأمر محسوس للناس ليس عليهم فيه مشقة ولا كلفة، بل يرون القمر بأعينهم وهذا من تمام نعمة الله على عباده.
وقد اختلف الفقهاء في إثبات هلال رمضان على أقوال، والذي نراه راجحاً أنه يكفي في إثبات هلال رمضان شهادة الواحد وفي هلال شوال شهادة الاثنين، وأنه يشترط لقبول الشهادة بالرؤية أن يكون الشاهد بالغاً عاقلاً مسلماً موثوقاً بخبره لأمانته وبصره.
فأما الصغير فلا يثبت الشهر بشهادته لأنه لا يوثق به وأولى منه المجنون.
والكافر لا يثبت الشهر بشهادته لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: (أتشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله)، فعلق قبول شهادته على إسلامه ومن لا يوثق بخبره لكونه معروفاً بالكذب أو بالتسرع أو كان ضعيف البصر بحيث لا يمكن أن يراه فلا يثبت الشهر بشهادته للشك في صدقه أو رجحان كذبه.
قال النووي رحمه الله: (.. المراد رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان، بل يكفي جميع الناس رؤية عدلين، وكذا وعدل على الأصح. هذا في الصوم. وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوَّزه بعدل…)(رواه مسلم).
وقال ابن القيم رحمه الله: (وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية محققة أو شهادة شاهد واحد كما صام بشهادة ابن عمر وصام مرة بشهادة أعرابي واعتمد على خبرهما…)(زاد المعاد).
وقال ابن حجر رحمه الله: (.. ليس المراد تعليق الرؤية في حق كل أحد بل المراد بذلك رؤية بعضهم وهو من يثبت به ذلك، إما واحد على رأي الجمهور أو اثنان على رأي آخرين…)(فتح الباري).
ثانياً: يثبت دخول شهر رمضان بإتمام شعبان ثلاثين يوماً كما يثبت خروج رمضان بإكماله ثلاثين يوماً، وهذا في حالة عدم رؤية الهلال في دخول رمضان وخروجه.
يدل على ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين..)(رواه البخاري ومسلم).
ولا يجوز صيام يوم الشك وهو اليوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو غيره، فلا يعلم هل يكون اليوم الأول من رمضان أم اليوم الآخر من شعبان. وهذا ما عليه الجمهور. لحديث عمار رضي الله عنه قال (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم)(رواه أبو داود).
وإذا ظهر الهلال في بلد هل يصوم أهل البلاد الأخرى؟ فيه خلاف بين الفقهاء:
فقيل: إذا رآه أهل بلد لزم أهل البلاد الأخرى الصوم، لقوله صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته) والخطاب للمسلمين.
وقيل: أن لكل بلد رؤيتهم.
وقيل: أن الحكم باختلاف المطالع وأنه لا يجب الصوم إلا على من وافقهم بالمطالع.
وقيل: أن الحكم يتبع لولي الأمر (وهو المعمول به الآن).
ولا يجوز العمل بالحساب الفلكي، وقد نقل شيخ الإسلام الإجماع على ذلك حيث قال: (وقد أجمع المسلمون على ذلك ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غمَّ الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام، وإلا فلا. وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب نفسه فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه، وأما اتباع ذلك ـ يعني الحساب ـ في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم…)(مجموع الفتاوى) إلى آخر ما قاله رحمه الله.
ويمكن أن يستفاد مما يقوم به الفلكيون من مراصد وغيرها شريطة ألا يتعارض مع الرؤية الشرعية، ذلك أن علم الفلك في الوقت المعاصر أصبح من الدقة والتنظيم مما يدعوا إلى الاستفادة منه كما في أوقات الصلاة والقبلة ونحوها.
نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يمن علينا بالتوفيق والسداد، وأن يبلغنا رمضان ونحن في صحة وعافية وأمن وأمان.