فطرة الله التي فطر الناس عليها – خطبة الجمعة 14-1-1444هـ

الجمعة 14 محرم 1444هـ 12-8-2022م

 

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ العزيزِ العليمِ، فاطرِ السمواتِ والأراضين، صوّر الإنسانَ وَخَلَقَهُ في أحسنِ تقويمٍ، وَفَطَرَهُ على التوحيدِ، وَجَعَلَهُ من المكرَّمين، وهَدَى من شاءَ بفضلِهِ إلى صراطِهِ المستقيمِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُهُ، المبعوث رحمةً وهدايةً للعالمين، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا إِلى يومِ الدِّينِ، أمّا بعدُ:

فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [آل عمران:102].

عباد الله: منَ النِّعمِ التي امتنّ اللهُ عزَّ وجلَّ بهَا على بني آدم أنْ فَطَرَهُمْ على التوحيدِ والإسلامِ، قال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]. والفِطرةُ هي: الخِلقةُ الأصيلةُ التي خَلَقَ اللهُ الناسَ عليها، من الإيمانِ بهِ سبحانَه، ومعرفتِهِ، والإقرارِ بربوبيتِهِ، وألوهيّتِه.

جاءَ في الصحيحينَ وغيرَهما من حديثَ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنهُ أنَّ النبيَّ ﷺ قال:{مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ} [ أخرجه البخاري (١٣٥٨) واللفظ له، ومسلم (٢٦٥٨].

 

أيُّهَا المؤمنون:  جاءتْ الشريعةُ الإسلاميةُ موافقةً للفطرةِ التي فَطَرَ اللهُ الناسَ عليهَا؛ لأنّ اللهَ عزَّ وجلَّ الذي أنزَلَ الشرعَ، هو الذي خلَقَ الطَّبعَ، وَجعَلَ طبائعَ الإنسانِ التي لم تتبدَّل، تتوافقُ كتوافُقِ كَفَّيِِ الرَّجُلِ الواحدِ، وتتطابقُ الفطرةُ السليمةُ مع الشريعةِ الإسلاميةِ كتطابُقِ أسنانِ التُّرْسِ حينما يُقابِلُ مِثْلَه، فيَدُورانِ بانتظامٍ ودقةٍ لا مثيلَ لها.

عبادَ اللهِ: لَقَدْ خَلَقَ اللهُ عزّ وجلّ الإنسانَ على الفطرةِ في باطنِهِ وظاهِرِهِ، فَفَطَرَهُ على التوحيدِ، ونقاءِ السريرةِ، وخلوِّ القلبِ من الشركِ باطنًا،  ولذا كانَ النبيُّ ﷺ  يقولُ إذا أَصْبَحَ أَوْ أَمْسَى: (أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ)  وَفَطَرَهُ على النظافةِ والجمالِ ظاهرًا، قالَ ﷺ: (عَشْرةٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّاربِ، وقَصُّ الأظْفَارِ، وغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ والسِّواكُ، والاسْتِنْشَاقُ، ونَتْفُ الإِبِطِِ، وحَلْقُ الْعَانَةِ، وانْتِقَاصُ الماءِ) أخرجه مسلم (٢٦١)، وأبو داود (٥٣)، والترمذي (٢٧٥٧)، والنسائي (٥٠٤٠) واللفظ له، وابن ماجه (٢٩٣)، وأحمد (٢٥٠٦٠).

وهذهِ  الفطرةُ الظاهرةُ والباطنةُ نهى اللهُ عزَّ وجلَّ عن تبديلِهَا، قال سبحانه: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30].

أيُّهَا المؤمنونَ:  أخبَرَ اللهُ عز وجل عنِ اجتهادِ إبليسَ وجنودِهِ في تغييرِ الفطرةِ، وتبديلِها؛ قال سبحانَهُ حكايةً عن إبليسَ:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، وَخَطَبَ النبيُّ ﷺ يومًا فقالَ في خُطْبَتِهِ: (أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا:…وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا..) أخرجه مسلم (٢٨٦٥).

فانقسمتْ فِطَرُ النَّاسِ إلى قسمينِ: فِطَرٌ سَلِيمَةٌ نَقِيّةٌ كما خلقهَا اللهُ عزَّ وجلَّ، تَأْتَمِرُ بأمرِهِ، وتَقِفُ عندَ حُدُودِهِ. وَفِطَرٌ سَقِيمَةٌ، اسْتَهْوَتْهَا الشياطينُ، فَوَقَعَتْ في المحرماتِ، واستحلَّت المنكراتِ.

أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيمِ: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} الأعراف (27).

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، يُحِبُّ من عبادِهِ المتّقينَ، والتوّابينَ، والمتطهّرينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ الذي امتدحه ربُّهُ فقالَ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)    صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ: 

فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ، واعْلمُوا أنَّ الانحرافَ عن الفطرةِ التي فَطَرَ اللهُ الناسَ عليهَا، له أسبابٌ وعواملُ كثيرةٌ، منها:

أولًا: الشّركُ باللهِ عزَّ وجلَّ، فإذا تعلَّقَ المخلوقُ بغيرِ خالِقِهِ، انحرفتْ فِطْرَتُه، وسَاءَتْ سَرِيرَتُهُ، قَال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} الأنعام (82). أخرج ابنُ كثيرٍ في تفسيرِهِ عن علقمةَ، عن عبدِ اللهِ عن النبيِّ في قولِهِ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قالَ : ” بِشِرْكٍ ” .

 ثانيًا: اتِّباعُ الهَوى: والهَوى قَسِيمُ الوحيِ، فمن انْحَرَف َعن الوحيِ، وَقَعَ فِي الْهَوَي، وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا، قَالَ تَعَالَى: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّه) القصص (50). وَحَذَّرَ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ دَاودَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قائلًا: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) ص (26).

ثالثًا: الغلوُّ فِي الدِّينِ: وَمَا خَرَجَ النَّاسُ مِنْ فِطْرَةِ التَّوْحِيدِ إِلَى جَهَالَةِ الشِّرْكِ إِلَّا بِسَبَبِ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ، قَالَ تَعالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} نوح (23-24).

رابعًا: التَّشَبُّهُ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّقْلِيدُ الْمَذْمُومُ: قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) البقرة (170)، وَقَالَ ﷺ:  (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِراعًا بذِراعٍ، حتّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ والنَّصارى؟ قالَ: فَمَنْ) أخرجه البخاري (3456).

خامسًَا: صُحْبَةُ السُّوءِ، وَمُجَالَسَةُ أَهْلِ الْمَعَاصِي، فَالصَّاحِبُ سَاحِبٌ، وَقَدَ عَبَّرَ سُبْحَانَهُ عَنْ حَالِ رُفَقَاءِ السُّوءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} الفرقان (27-29).

سادسًا: الغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِ اللهِ عزَّ وَجَلَّ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ  قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) الأعراف (172). وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) طه (115).

أسألُ الله جلّ وعَلَا أن يرزقنا نقاء الفطرة، وسلامة السريرة، وأن يقبضنا على التوحيد كما فَطَرَنَا عليه.

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].         الجمعة: 14-1-1444