التكافل الاجتماعي
الإسلام بتشريعه الخالد ومبادئه السامية وأنظمته العادلة وتوجيهاته الصادقة حقق للمجتمع أرقى صور التكافل بالمفهوم الواسع الشامل. والعجيب الغريب أن بعض المجتمعات الغربية تفتخر أنها حققت نوعاً من أنواع التكافل وهو التكافل المعيشي ونسي هؤلاء أو تناسوا أن الإسلام حقق التكافل بكل صوره وبشكل واقعي حي ملموس ونصوص الكتاب والسنة شاهدة على ذلك وواقع المجتمع المدني يثبت هذه التجربة الواقعية في الحياة.
إن مفهوم التكافل في الإسلام يشمل مدلولات البر والإحسان والصدقة والزكاة وكل ما يتصل بهذه الألفاظ مما يعطي معنى التعاطف والتعاون والتكافل بين الناس.
قال تعالى ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً)النساء:36
وقال تعالى (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ )البقرة:177
وقال تعالى ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان) المائدة:2.
وقال صلى الله عليه وسلم{ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى}.
وقال صلى الله عليه وسلم{لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}.
وقال صلى الله عليه وسلم{المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضها بعضاً}.
وقال صلى الله عليه وسلم{خير الناس أنفعهم للناس}.
هذه النصوص صريحة واضحة تخاطب أصحاب الأموال وتذكرهم أن لهم إخواناً في العقيدة والدين يحتاجون إلى العون والمساعدة والأخذ بأيديهم ليتم تكافل البناء وليصيح قوياً صامداً أمام التيارات والرياح وليبقى الداخل نظيفاً متطابقاً تماماً مع الخارج قلوبهم نظيفة يعطف الأغنياء على الفقراء ويحب الفقراء الأغنياء لا حسد ولا ضغينة ولا بغضاء مجتمع متماسك متعاون تسوده المحبة والإخاء ويهيمن عليه الإخلاص والوفاء ويرفرف عليه الولاء والعطاء وقد تحقق هذا المجتمع على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمثل الرعيل الأول كل هذه الصفات وقام عليها ولذا جسد الله تعاونهم في قرآن يتلى إلى يوم القيامة ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )الحشر:9.
إن المجتمع القوي المتماسك هو الذي يكون بين أفراده تعاون وتفاهم ومودة ورحمة ومن الضروري لبقائه وتماسكه أن يظل لذلك و إلا عدت عليه عوادي الزمان وهدمته نوازل الحياة وأصبح عرضة للخراب والدمار.
والتكافل الذي ننشده يشمل جميع أنواع التكافل الواسع منها والضيق العام منها الخاص ما يمس الأسرة وما يمس المجتمع ومن أمثلة ذلك:
أولاً: التكافل العبادي الروحي-
العبادات في الإسلام سمة بارزة من سمات المجتمع المسلم والنصوص الشرعية توجب تكافل الجماعة في أداء هذه العبادات ولذا ذكر الفقهاء أنواعاً من العبادات سموها فروض الكفايات ومنها ما يتعلق بالأموات من التغسيل والتكفين والصلاة والدفن وغيرها.
ثانياً: التكافل الأخلاقي.
الإسلام يعتبر المجتمع المسلم مسؤولاً عن صيانة الأخلاق العامة لأن فيها الحفظ له من الفوضى والفساد والانحلال ولذا أوجب على المجتمع منع الأفراد من الجرائم ورتب عليها العقوبات الرادعة التي يقوم بها المجتمع قال تعالى ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ ) التوبة:71
والمجتمع الذي يشيع فيه الفساد ولا يأخذ على يد المجرمين والعابثين تتزلزل أركانه ويسقط بنيانه ويصبح أثراً بعد عين قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) الأنفال:25
وقد ضرب رسولنا مثلاً رائعاً بديعاً للتكافل الأخلاقي في المجتمع ذلك اتكافل الذي يأخذ على يد العابثين ويقطع دابر المخربين حيث يقول {مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً}.
ثالثاً: التكافل الدفاعي.
المقصود بهذا النوع من التكافل مشاركة كل قادر في وجوب الدفاع والحماية لأرض الإسلام والمقدسات ليستمر شرع الله في أرضه وهذا هو ميدان الجهاد الواسع قال الله تعالى (انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون) التوبة:41
ولقد تحقق ذلك واقعاً ملموساً حينما نشر المسلمون الإسلام ودكت جحافل الحق صروح كسرى وقيصر وبقيت العزة والمكانة والهيبة للمسلمين وانتشر النور والخير والهدى والصلاح في ربوع المعمورة كلها.
رابعاً: التكافل الجنائي.
المقصود به مسؤولية المجتمع متضامناً عما يقع فيه من جرائم القتل والسرقة والسطو والاعتداء، فالقاتل يقتل والسارق تقطع يده والذي يعتدي على الأموال والأعراض يوقف عند حده.
وهذا التكافل يتضح من خلال تشريع الحدود زجراً للمجرمين وكبحاً لجماحهم وإشاعة للأمن والطمأنينة في المجتمع قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى) البقرة:178
وقال تعالى) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) المائدة:38.
خامساً: التكافل الاقتصادي
اهتم الإسلام بالجانب الاقتصادي اهتماماً بالغاً وندب إلى توجيه الثروة فيما يخدم مصلحة المسلمين ولهذا حرم الإسلام الاحتكار وطالب بالأخذ على أيدي المحتكرين لأنهم يضيقون على الناس معاشهم وأرزاقهم كما أن الإسلام منع من ترك الثروة في أيدي الناس العابثين سفهاء الأحلام الذين يتلاعبون بالثروات كيفما شاؤوا قال تعالى ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً )النساء:5
وقد حث الإسلام المسلمين على أن يكونوا وسطاً في الإنفاق بين الإسراف والتقتير قال تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) الإسراء:29.
ومن أجل التكافل الاقتصادي أوجب الإسلام حقاً خاصاً في المال هو الزكاة وندب إلى أداء حقوق أخرى من رعاية المحتاجين وتفقد للمعوزين وبذل شيء من المال لهم وندب كذلك إلى تحقيق فرص العمل للعاطلين الذين لا عمل لهم ليسلم المجتمع من شرهم فالفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسدة وعلى قدر سلامة المجتمع المسلم من البطالة والفقر والعوز بقدر ما ينعم ويطمئن ويتعاون أفراده ويخدم بعضهم بعضاً.
سادساً: التكافل العلمي.
يحتل العلم منزلة رفيعة في الإسلام وقد أفصح القرآن عن مكانة العلماء وأعلى منزلتهم ورفع ذكرهم قال تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) الزمر:9
والإسلام يطالب العلماء بتأدية ضريبة العلم وهي بذله وتعليم الجاهل ويتوعد صفوة العلماء بكتمان العلم وعدم بذله لطالبيه قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) البقرة:159، 160.
وهكذا يظهر التكافل العلمي وإزالة آثار الجهل وهذا التكافل العلمي ينبعث من عقيدة الإسلام الراسخة التي ترفض الجهل وتأباه بكل صوره وأشكاله.
سابعاً: التكافل العائلي.
اهتم الإسلام بالأسرة اهتماماً كبيراً فهي محضن الأجيال التي تعد أبناءها إعداداً خاصاً إعداداً عقلياً وجسمياً وسلوكياً وعلى قدر هذا الإعداد تكون النتائج وهنا تصبح لبنات المجتمع قوية متماسكة تصمد أمام التيارات والرياح العاتية والتكافل العائلي يقوم بين الأصول والفروع والأقارب عموماً ويتضح جلياً في قضايا النفقات والميراث والديات.
هذه نماذج لأنواع التكافل الموجودة في المجتمع وهي بمجموعها تشمل شرائح المجتمع كلها فتشمل الصغار والفقراء والمساكين والأيتام واللقطاء والشيوخ والعجزة والعميان والمرضى والمطلقات والأرامل والحوامل والمرضعات وأصحاب العاهات والمنكوبين والمكروبين بل يشمل الشواذ والمنحرفين والمشردين وأبناء السبيل والمؤلفة قلوبهم والعبيد والمكاتبين والغزاة المتطوعين، كل هؤلاء يستفيدون من التكافل الاجتماعي في الإسلام ويجدون الفرص المتاحة أمامهم لشق طريقهم في الحياة دون حياء أو خجل وهكذا يبدؤن حياة جديدة مليئة بالعطاء والعمل والكفاح والبناء ويصبحون أعضاء فاعلين في المجتمع الإسلامي الكبير.
والذي يستقرأ التاريخ الإسلامي الطويل يجد هذه النماذج قد تحققت على أرض الواقع فهل تتكرر هذه الأمثلة الرائعة في حياة المسلمين.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يحقق لأمة الإسلام من أمرها رشداً وأن يعين كل عامل للخير معطاء لبلاده وأمته إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
أ. د. عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
في 25/8/1420هـ