الصدقة تجارة لن تبور – خطبة الجمعة 4-3-1444هـ

الجمعة 4 ربيع الأول 1444هـ 30-9-2022م

 

الحمدُ للهِ ذيِ الجودِ والسّخَاء، خزائنُهُ بِالخيرِ مَلأَى، ويَدُهُ بالنفقةِ سَحَّاء، أمرَ بالإحسانِ والبذلِ والعطاء، وَوَعَدَ بالخيرِ والزّيادةِ والنّماء، يُحِبُّ من عباده المحسنينَ، ويَجْزِي بفضلهِ المتصدقينَ، ويُخْلِفُ النفقةَ على المنفقينَ، {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ: 39].

وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:

فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، فالتقوى وصيةُ اللهِ للأوَّلينَ والأخرينَ، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].

عباد الله: لمّا كانت النفسُ البشريةُ مجبولةً على الشُّحّ والإمساك، وحبِّ المال، أمرَ اللهُ عزّ وجلّ بتربيتها على الإنفاقِ والبذلِ، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، وقال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} الليل: [5:10].

أيها المؤمنون: إنّ الصدقةَ شعارُ المتَّقِين، ولواءُ الصالحينَ المصلحينَ، بها تُدفعُ البلايا، وتُستجلبُ العَطَايَا، وهي تجارةٌ رابحةٌ مع اللهِ عزّ وجلّ، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر: 29]، وقال سبحانه: (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) البقرة :[245]

وقد أدركَ الصحابةُ رضوان الله عليهم هذا المعنى، فبادروا إلى التجارةِ مع الله عز وجل، ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رجُلًا قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لفُلانٍ نَخلةً، وأنا أُقيمُ حائطي بها، فأْمُرْه أنْ يُعطيَني حتى أُقيمَ حائطي بها، فقال له النَّبيُّ ﷺ: أَعطِها إيّاه بنَخلةٍ في الجَنَّةِ فأَبى، فأَتاه أبو الدَّحْداحِ فقال: بِعْني نَخلتَكَ بحائطي، ففعَلَ، فأَتى النَّبيَّ ﷺ فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي قدِ ابتَعْتُ النَّخلةَ بحائطي، قال: فاجعَلْها له، فقد أَعطَيْتُكها، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: كم من عِذقٍ رَدَاحٍ لأبي الدَّحْداحِ في الجَنَّةِ، قالها مِرارًا، قال: فأَتى امرأتَه فقال: يا أُمَّ الدَّحْداحِ اخرُجي منَ الحائطِ؛ فإنِّي قد بِعْتُه بنَخلةٍ في الجَنَّةِ، فقالت: ربِحَ البَيعُ، أو كلمةً تُشبِهُها) أخرجه  أحمد (12482) ، وابن حبان (7159) ، والحاكم (2194).

عباد الله: إنّ أهلَ التجارةِ يعرفونَ مواطنَ الرِّبحِ، ويتحيّنونَ مواسمَه، ويبذلونَ أسبابَه؛ ويعرفونَ الأسهمَ الرائجةَ، والكاسدَة، وحريٌّ بمن يتاجرُ مع الله عزّ وجلّ أنْ يكونَ حاذقًا في تجارتِهِ مع اللهِ، قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} البقرة :[261].

وقد شبّهَ اللهُ عزّ وجلّ المتصدقَ بالمزارعِ، والصدقةَ بالبذْرةِ، فمتى كان المزارعُ حاذقًا، والبِذرةُ صالحةً، كانت الثمرةُ مضاعفةً طيبةً، فمن الناسِ من يضاعِفُ اللهُ لهُ نفقتَهُ بمثلِهَا، ومنهم من يضاعِفُ له نفقتَهُ بعشر أمثالِهَا، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، واللهُ ذو الفضلِ العظيم.

أيُّهَا المؤمنونَ: ومن شروطِ التجارةِ الرابحةِ مع الله عزّ وجلّ ما يلي:

أولًا: أن تكونَ من أطيبِ المالِ، وأنْفسَه، وأجْوده، وأحبّهِ إلى نفس المتصَدِّقِ، قال تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) آل عمران: [92]، وقد كانَ أبو طلحةَ الأنصاريُّ أكثرَ الأنصارِ بالمدينةِ مالًا، وكانَ أحبَّ أموالِهِ إليهِ بَيرُحاءَ، وَكانتْ مستقبِلةَ المسجدِ، وكانَ النبيُّ ﷺ يدخلُها ويشربُ من ماءٍ فيها طيِّبٍ، قال أنَسٌ: فلمّا نزلت {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ} قال أبو طلحةَ: يا رسولَ اللهِ: (إنَّ اللهَ يقولُ: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ} وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بيرُحاءَ وإنَّها صدقهٌ للهِ أرجو بها برَّها وذُخرَها عندَ اللهِ تعالى، فضَعْها يا رسولَ اللهِ حيثُ أراكَ اللهُ، فقالَ النبيُّ ﷺ: بخٍ بخٍ، ذاكَ مالٌ رابحٌ، ذاكَ مالٌ رابحٌ، وقد سَمِعْتُ وأنا أرى أن تجعلَها في الأقرَبينَ، فقال أبو طلحَةَ: أفعل يا رسولَ اللهِ، فقسَّمَها أبو طلحةَ في أقاربِهِ وبَني عمِّه) أخرجه البخاري (١٤٦١)، ومسلم (٩٩٨).

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:274].

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقهِ وامتنانهِ، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانِهِ، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بــــــعــــــــــدُ:

فاتَّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ: واعلموا أنَّ التاجرَ الحصيفَ متى عَلِمَ أنَّ التجارةَ مضمونةٌ والربحَ وفيرٌ، بَذَلَ أَنْفَسَ أمواله، وربما بَذَلَ كلَّ ما يملك، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المسلمُ في تجارته مع الله عزَّ وجلَّ، قال ﷺ: (إنَّ اللهَ لَيُرَبِّي لأحَدِكُم التَّمرةَ واللُّقْمةَ، كما يُرَبِّي أحَدُكُم فَلُوَّه أو فَصيلَه حتى يكونَ مِثلَ أُحُدٍ) أخرجه أحمد (٢٦١٣٥)، وابن حبان (٣٣١٧)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (٨٥٧).

وكانَ ابنُ هذيلٍ-أحدُ أعلامِ القرّاء-يُكثِرُ من الصدقةِ، فقالتْ له زوجتُه: إنَّك لتسعى بهذا في فقرِ أولادِك، فقالَ: لا واللهِ، بل أنا شيخٌ طَمَّاعٌ أسعى في غناهم، قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} سبأ: [39].

أيها المؤمنون: إنَّ ما يفْعَلُهُ بعضُ النَّاسِ اليومَ من التصدُّق بالرديءِ من المالِ والزَّائِدِ عن الحاجةِ من اللِّبَاسِ والطَّعَامِ، هو نتاجُ فَهْمٍ خاطيٌ لحقيقةِ التجارةِ مع اللهِ عزّ وجلّ، قال تعالى: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلّا أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} البقرة: [667]، فلو أن هذا المتصدقَ أُهديَ إليهِ مثلُ ما أَعْطَى؛ لم يأخذْهُ، إلّا على إغماضٍ، أو حياءٍ. وقد أُتيَ النبي ﷺ بضبٍّ، فلم يأكلْهُ، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله: أنطعمه المساكين؟ قال: (لَا تُطْعِمُوهُم مِمَّا لَا تَأْكُلُونَ) صححه الألباني في السلسة الصحيحة(2426).

عباد الله: ومن شروطِ التجارةِ الرابحةِ مع اللهِ عزَّ وجلَّ:

ثانيًا: أنْ تكونَ الصدقةُ خالصةً للهِ عزّ وجلّ، يُرَادُ بِهَا وجهُه، قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) المائدة : [27].

ثالثًا: أنْ تكونَ بنفسٍ راضيةٍ، ويقينٍ صادقٍ، قال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ َوَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) البقرة :[265].

فقوله سبحانه: {وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} أي: صَدَرَ الإنفاقُ على وجهٍ مُنْشَرِحَةً له النفسُ، سَخِيَّةً بِهِ اليدُ، لا على وجه التردد، وضعف النفس في إخراجها.

أيها المؤمنون: اعلموا أنَ إخفاءَ الصَّدَقَةِ أفضلُ، والتعجيلُ بها أسلمُ، وهي في حالِ الصِّحَّةِ والقوةِ أفضلُ من الوصيةِ بعدَ الموتِ أو حال المرضِ والاحتضارِ، سُئِلَ رَسولُ اللهِ ﷺ: أَيُّ الصَدَقةِ أَفْضَلُ؟ قال: لَتُنَبَّأَنَّ: أنْ تَصَدَّقَ وأَنتَ صَحيحٌ شَحيحٌ، تَأْمُلُ البَقاءَ وتَـخافُ الفَقْرَ، ولا تَـمَهَّلْ حتى إذا بَلَغَتِ الـحُلْقومَ قُلْتَ: لِفُلانٍ كذا، ولِفُلانٍ كذا، أَلا وقد كان لِفُلانٍ) أخرجه البخاري (١٤١٩)، ومسلم (١٠٣٢)

أسألُ اللهَ أن يجعلَنا من المتصدقينَ، والمنفقينَ، وأن يوفقَنا للادخارِ ليومِ الدِّينِ.

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].         
الجمعة: 1444/3/4هـ