المحافظة على البيئة والمنتزهات – خطبة الجمعة 29-5-1444هـ

الجمعة 29 جمادى الأولى 1444هـ 23-12-2022م

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ ذي الجودِ والإِنْعَامِ، والْجَلال ِوالإِكْرَامِ، سُبحانَهُ الوليُّ فلا وليَّ من دونِهِ ولا واقٍ، الغنيُّ فلا تَنْفَدُ خزائِنُهُ عَلَى كثرةِ الإنفاقِ، سَخَّرَ لعبادِهِ مَا فِي الأرضِ والسّمَاواتِ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى والآخِرَةِ، إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ .

وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا إلى يومِ التنادِ، أمّا بعدُ:

فاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، واعْلَمُوا أنَّكُمْ مُلَاقُوهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

عِبَادَ اللهِ: خَلَقَ اللهُ عزَّ وجلَّ الإنسانَ، واسْتَخْلَفَهُ فِي الأَرْضِ لِعِمَارَتِهَا، قالَ تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}البقرة: [30] وقَالَ النبيُّ ﷺ: (إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ) أخرجه مسلم (2742).

وَهَيَّأَ  اللهُ عزَّ وجلَّ البيئةَ للإنسانِ، وَسَخَّرَهَا لَهُ، قالَ تعالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}فاطر: [27] وأفاءَ اللهُ عزّ وجلّ عَلى عبادِهِ بآلاءِ الطبيعةِ وبَهَائِهَا، والبَرَارِي ونَقَائِهَا، قالَ سُبْحَانَهُ: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} ق: [7-8].

 

عبادَ اللهِ: الإسلامُ دينُ يُسْرٍ وَسُهُولَةٍ، وَفُسْحَةٍ وسَمَاحَةٍ، قال ﷺ: (خُذُوا يا بَنِي أرْفِدَةَ، حتى تَعْلَمَ اليهودُ و النَّصَارى أنّ في دِينِنا فُسحةً) أخرجه أحمد (٢٤٨٥٥) والحميدي في المسند (٢٥٤) واللفظ له، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (١٨٢٩):  صحيح بمجموع طرقه، وسُئِلت عائشة رضي الله عنها عن البَداوَةِ فقالتْ: (كان رسولُ اللهِ ﷺ يَبْدو إلى هذه التِّلاعِ..) والتلاعُ: مجرى الماء من أعلى الوادي إلى أسفلِهِ، والخروجُ إلى البرارِي والمتنزهات مُحَبَّبٌ للنفسِ، وسَبَبٌ للأُنْسِ، مَا دامَ مُنْضَبِطًا بالقواعِدِ والآدابِ، وخاليًا من التَّعَدّي والمنكرات.

أيُّهَا المؤمنونَ: تعاضَدت نصوصُ القرآنِ والسُّنَّةِ في وجوبِ الحفاظِ على البيئةِ والتحذيرِ من العبثِ بِهَا، والإفسادِ فيهَا، قالَ تعالى: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}البقرة: [60] وقال النبي ﷺ: (الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ..) أخرجه مسلم: (35) وقال أيضًا : (اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ) قالوا: وَما اللَّعَّانَانِ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: (الذي يَتَخَلَّى في طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ في ظِلِّهِمْ) أخرجه مسلم (269)
كلُّ هذه النصوص الصحيحة تؤكِّدُ عِنَايَةَ الإسلامِ بالبيئَةِ، والحفاظ عليها، وصيانَتِهَا عن كلِّ ما يَذْهَبُ بِجَمَالِهَا، أوْ يَضُرُّ بِبِنَائِهَا.

أيُّهَا المؤمنونَ: إنّ السَّعْيَ في إفسادِ البيئةِ، وإلحاقِ الضَّرَرِ بالأماكنِ العَامَّةِ والحدائِقِ وغيرِهَا من المرَافِقِ، دَاءٌ عُضَالٌ، لا يَتَلَبََّسُ بهِ إلا مَنْ فَسَدَ ذَوْقُهُ، وسَاءَتْ سَرِيرَتُهُ وتَجرّدَ مِنْ أَبْسَطِ قَوَاعِدِ الذَّوْقِ العَام.

ذكرَ الطبريُّ في تفسيرِهِ أنّ الأخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ، وكان رجلاً حُلوَ الكلامِ، حُلْوَ المنْظَرِ، أتَى النبيَّ ﷺ مُظْهِرًا الإسلامَ، وَمَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ ، فَأَدْنَاهُ النبيُّ مِنْ مَجْلِسِهِ، ولمَّا خرجَ مِنْ عِنْدِهِ ﷺ مَرّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ المسلمينَ وُحُمُر، فأَحْرَقَ الزَّرْعَ، وَعَقَرَ الحُمُرَ، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}البقرة: [204-205] فكانَ مِنْ مَظَاهِرِ نِفَاقِهِ، وسُوءِ طَوِيَّتِهِ، إِفْسَادُهُ للبيئةِ، بِإِهْلاكِ الحرث والنَّسْل، فَسَمَّاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ فَسَادًا، واللهُ لا يُحِبُّ المفْسِدِينَ.

أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأعراف: [85].

بَاركَ اللهُ لي ولَكُمْ في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على إِحْسَانِهِ، والشكرُ لَهُ على تَوْفِيقِهِ وامْتِنَانِهِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، تعظيمًا لشأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الدَّاعِي إلى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بــــــعــــــــــدُ:

فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعلمُوا أنَّهُ يَنْبَغِي  للمتنزهينَ ومرتَادِي البَرِّ مراعاة ما يأتِي:

أولًا: استصحاب النِّيَّةِ الصَّالِحَة، والتأذين لكلِّ صلاة، وإِقَامَتُهَا فِي وَقْتِهَا.

ثانيًا: حِفْظُ النَّفْسِ، وعدمُ تَعْرِيضِهَا لمواطِنِ الهَلاكِ، كالمبيتِ في الأوْدِيَةِ والشِّعَابِ أو المكوثِ فيها، أو قَطْعِهَا بالسَّيَّاراتِ حالَ جَرَيَانِ الأمْطَارِ، كما يَفْعَلُ بعضُ الشَّبَابِ –أصلحَهُم اللهُ-باقتحامِ الأوديةِ ومجاري السّيولِ بالسبَاحَةِ أو بالسَّيَّارَاتِ غير عابِئِينَ بتوجِيهَاتِ الدِّفَاعِ المدنِيِّ،  فيَحْصُلُ مَا لا يُحْمَدُ عُقْبَاهُ.

ثالثًا: الحفاظُ على البيئةِ الطبيعيَّةِ، والحذر من إفسادِهَا، أو العبثِ بهَا، بِقَطْعِ الأشجارِ، أو إِفْسَادِ النَّبَاتِ، قالَ ﷺ: (مَنْ قَطَعَ سِدْرةً صوَّبَ اللهُ رَأْسَهُ فِي النّارِ) أخرجه أبو داود (٥٢٣٩ ) وحسّنه ابن حجر في تخريج مشكاة المصابيح (٣‏/٢٠١).

رابعًا: تنزيهُ البيئةِ عن المُخَلَّفَاتِ، فالنظافَةُ أصلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وأَقَلّ مَا يَجِبُ على الإنسانِ أنْ يَتْرُكَ المكانَ كَمَا كانَ، والْكَمَالُ أنْ يَتْرُكَ المكانَ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ.

خامسًا: الحذرُ من إشعالِ النِّيرَان في أمَاكِنِ المتنزِّهِينَ، وتعرِيضِهِمْ للخَطَرِ، أو إيذائِهِمْ بِهَا، والحرصِ على إخْمَادِ النِّيران في الأماكِنِ المسموحِ فيهَا بإشعالِ النَّارِ.

سَادسًا: مراعاة الأنظمَةِ البيئِيَّةِ، وقواعد الدِّفَاع المدنِيِّ، واتِّبَاع توجيهات القائِمِينَ على هذا الأمرِ، والتي تُحَقِّقُ المصلحةَ العامَّةَ للجميعِ، وتَضْمَنُ سَلامَتَهُمْ.

واعلموا رحمكم الله أنّ جمعية أصدقاء البيئة بالمحافظة تبدل جهودًا مجتمعية كبيرة في المحافظة على البيئة، والعناية بالمتنزهات، فتعاونوا معها لما فيه مصلحة المحافظة وساكنيها.

أسألُ اللهَ أنْ يُصْلِحَ أَرْضَنَا، وَيَعُمَّ بالْخَيْرِ والرَّخَاءِ بِلادَنَا، وَيَحْفَظَ عَلَيْنَا أَمْنَنَا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ لِلْحُكْمِ بكتابِكَ، والعمل بسنَّةِ نبيِّكَ، اللهم وفِّق خادمَ الحرمينِ الشريفينِ وسموَّ وليِّ عهدِهِ لما فيه الخيرُ والصلاحُ، واحْفَظْهُمْ مِنْ كُلِّ سُوءٍ ومَكْرُوهٍ، واجْزِهِمْ عمَّا يُقَدِّمُونَ للإسلامِ والمسلمينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ.

اللهمَّ ارْبِطْ على قلوبِ رجالِ الأمنِ، الذين يُدَافِعُونَ عن الدِّينِ والمقَدَّسَاتِ والأعراضِ والأموالِ واحفظهمْ من بين أيديهمِ ومن خلفهمِ، ونعوذُ بعظمتكَ أنْ يُغْتَالُوا من تَحْتِهِمْ.

اللهمَّ ارْحَمْ هذا الجمعَ من المؤمنينَ، اللهمَّ استر عوراتِهِمْ، وآمِنْ روعاتِهِمْ وارفَعْ درجاتِهِمْ في الجنَّاتِ، واغفرْ لَهُم ولآبَائِهِمْ وأمَّهَاتِهِم، وأَصْلِحْ نيَّاتِهِمْ وذريَّاتِهِم واجمعنَا وإيَّاهُم ووالدِينَا وأزواجنا وذرياتنا ومن لهُ حقٌّ علينَا في جنَّاتِ النعيم.

هَذا وَصَلُّوا وَسَلِّموا على الْحَبِيبِ المصْطَفَى فقدْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِذَلِكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].          

الجمعة: 1444/5/29هـ