ورَحَل حبيبي الغَالِي محمد بن حمود بن مد الله الخميس. بتاريخ 29-6-1444هـ

الأحد 29 جمادى الآخرة 1444هـ 22-1-2023م

كتب الله على جميع الخلائق الفناء، وتفرّد سبحانه بالحياة والبقاء، فجعل الموت نهاية كل حيٍّ، قال تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}الرحمن: [26-27].

والموتُ هو انتهاءُ الأجلِ من هذه الدنيا، والرّحيل منها إلى غيرِ رَجْعَةٍ، وهو مآل كل حيّ، ونهاية كل مخلوق، فلا يهابُ حجابًا، ولا يخافُ بَوّابًا، قالَ تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } النساء: [78].

وهو فِرَاقٌ للأهلِ والمالِ والولدِ، وكلُّهُم يقفونَ عاجزينَ أمام القدرِ المحتوم، لا يستطيعونَ حِيلةً، ولا تقديمًا ولا تأخِيرًا، قال تعالى:{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون}يونس:[49].

قال بعضهم: تَمُرُّ بِنَا الأيَّامُ تَتْرَى وَإِنَّمَا     نُسَاقُ إِلَى الْآَجَالِ وَالْعَيْنُ تَنْظُرُ

فَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الشَّبَابُ الَّذِي مَضَى   وَلَا زَائِلٌ هَذَا الْمَشِيبُ الْمُكَدِّرُ.

والموت حقٌّ ينتظرُه كلّ مخلوقٍ على ظهرِ هذه الأرض، وهو يجهلُ موعدَه ومكانَه، قالَ تعالى:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} لقمان: [34].

‏ قال الشاعرُ: هو الموتُ ما منهُ مَلاذٌ ومَهْرَبُ      متَى حَطَّ ذَا عن نَعْشِهِ ذَاكَ يَرْكَبُ

 نُشَاهِدُ ذَا عَيْنَ اليقينِ حقيقةً             عليه مَضَى طِفْلٌ وكَهْلٌ وأَشْيَبُ.

 ‏وقال آخر:  الموتُ جِسْرٌ للأنامِ مُسَايِرٌ              عَلَيْهِ سنَمْضِي كهلنا والأصاغر.

وفي يوم الخميس 26/6/1444هـ ودَّعْنَا حبيبنَا الغَالي، وأخانا الوفيّ، محمد بن حمود بن مدالله الخميس –أبا مدالله- رحمه الله رحمة واسعة، وإني إذ أدوّن هذه الكلمات، وأرقم تلك السطور، أتذكر قول القائل:

فلو كان يفدى بالنفوس وما غلا            لطبنا نفوساً بالذي كان يطلب

ولكن إذا تم المدى نفذ القضا                  وما لامرئٍ عما قضى الله مهرب

وما الحال إلا مثل ما قال من مضى   وبالجملة الأمثال للناس تضرب

لكل اجتماع من خليلين فرقة           ولو بينهم قد طاب عيش ومشرب

ولأن الناس لا يُقاسون بأعمارهم، وإنما يُقاسون بتدينهم، وعطائهم، وأعمالهم، وأخلاقهم، وصلاح ذرياتهم، فأرجو الله أن تكون أعمال فقيدنا، وبذله، وأخلاقه، وأبنائه وبناته البررة، امتدادًا لعمره، وطولًا لذكره،  وذخرًا في موازين حسناته، قال ﷺ: (إنَّ اللهَ ليرفعُ الدرجةَ للعبدِ الصالحِ في الجنةِ فيقولُ يا ربِّ من أينَ لي هذا فيقولُ باستغفارِ ولدِكَ لكَ) أخرجه ابن ماجه (3/214) وحسّنه الألباني.

وقد عرفته صاحب خلقٍ رفيعٍ، في تواضعه وابتسامته وأدبه ووفائه لأصحابه، وصدق طاووس بن كيسان -رحمه الله-حيث يقول: (إن هذه الأخلاق منائح يمنحها الله -جل وعلا-من يشاء من عباده، فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً منحه خلقاً صالحاً).

وعرفت فيه الصدق، والأمانة، ودماثة الخلق، وبشاشة الوجه عند اللقاء، ولين الجانب وطيب الكلام، والزهد في الدنيا، والإقبال على الله عز وجل، والورع والبعد عن المشتبهات، والانشغال بنفسه، وأسأل الله عز وجل أن يكون حسن خلقه سبيلًا له إلى أعالي الجنان، قال ﷺ: (إنَّ من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا) رواه الترمذي (2018)  وحسَّن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (791).

وقد عرفته: باذلًا سخيًّا، كريمًا تقيًّا، لا يرد سائلًا، يبادر بالصدقة، ويقرض المحتاج ويُنظر المعسر، وكم ضاعت له مبالغ لعدم مطالبته، وسكوته عنها، قال ﷺ: (مَن أنظرَ مُعسِرًا فله كلَّ يومٍ مثلِه صَدقةٌ. فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ سمعتُكَ تقولُ: مَن أنظرَ مُعسرًا فله كلَّ يومٍ مِثلَيْهِ صدقةٌ. قال لهُ: كلَّ يومٍ مثلَهُ صدقةً قبلَ أن يَحلَّ الدينُ، فإذا حلَّ فأنظَرَ فله كلَّ يومٍ مِثلَيْه صدَقةٌ) أخرجه ابن ماجه (٢٤١٨)، وأحمد (٢٣٠٤٦) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (907).

عرفت أبا مدالله رحمه الله: من أهل القرآن، ملازمًا له طيلة حياته، لا ينفك عنه تلاوة، وتدبرًا، وعملًا، وتطبيقًا، وتخلٌّقًا، يمتثل أوامره، ويجتنب نواهيه، ويقف عند حدوده، ويتخلّق بأخلاقه، وكان بيننا محبة صادقة في الله ولله، ومثله -رحمه الله- في ذلك كما قيل: (حقيقة المحبة أنها لا تزيد بالبر ولا تنقص بالجفاء)، أي لا يزيدها أن ينفعك من أحببته في الله بشيءٍ من مصالح الدنيا، ولا ينقصها حصول تقصيرٍ أو عدم تواصل؛ لأن الحب خالصٌ لله، فلا يتأثر بمتع الدنيا الزائلة.

وعرفته  عفّ اللسان، منشغلًا بنفسه، لا يغتاب أحدًا أبدًا، وإن تكلم أحد بالغيبة في مجلسه أسكته ونهاه، وكان جلساؤه يعرفون منه ذلك.

وعرفته  محتسبًا، ومن القلائل الذين لهم أثر كبير في بلده، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإصلاح ذات البين، وكم أنهى الله عز وجل على يديه من خصومات، فكان سببًا لرأب الصدع، ونبذ الخلاف، والتآلف، حتى وإن كلفه الأمر البذل من ماله، لا يتأخر.

يقول أحد أبنائه: كان مرة مع زملائه بسيارة الهيئة، فصدمهم شخص بسيارته، وكان الأخير هو المخطئ، فأصلح الوالد سيارة الهيئة وسيارة المخطئ.

حدثني رحمه الله في رحلة الحج أنه سقط في البئر آخر الليل، وبقي فيها أربع ساعات والماء من حوله، حيث سقط على رأسه، وكان يسقي ومعه أخوه عبدالله- رحمه الله- وقد وافق وفاة جده مدالله في ذلك اليوم، ووالده وأعمامه ذهبوا للصلاة على جده ودفنه، وذهب أخوه عبدالله، ومَن علم عن سقوطه، وأخبروا والده وأعمامه، فجاؤوا ضحى إلى البئر، وطلبوا ممن اشتهروا بالغوص، فنزل أربعة، لكن لم يصلوا إليه، ونزل شخص وربط حجارة معه لكي تعينه على الوصول إلى قاع البئر، ووجده على رأسه، ووجهه في الطين، وأخرجوه يظنون أنه ميت، ووضعوه عند والدته، وكانت تصلي الضحى وتدعو، وهم يستقبلون المعزين في وفاة جده، ولما جاؤوا لأخذه من عند والدته رفضت ثم عادوا مرة ثانية فرفضت، وأثناء صلاتها تحرك الغطاء الذي كان موضوعًا عليه فذهبت وطرقت على والده الباب وأخبرته، فجاؤوا وأخرجوا الماء، وقام معافى لم يصبه أذى، وقد ذكر لي أبناؤه الشيء الكثير عن عبادته وزهده وأخلاقه وتعامله ومجالسه، وإنظاره للمعسرين، وقيامه على الأرامل والمحتاجين، وقضاء حوائج أهل البادية، وتولّيه الإصلاح بين الناس، وغير ذلك مما كان يخفيه ولا يعلم عنه أحد إلا الله، ولعلي هنا أشير إلى شيء من ذلك بإيجاز شديد.

أولًا: عبادته: كان -رحمه الله- له برنامج يومي، حيث كان يقوم يوميًا في الساعة الثانية عشرة إلى الواحدة، يذهب للمسجد ولا يرجع إلا بعد أذان الفجر يوقظ أهله وأبناءه للصلاة، ثم يعود للمسجد ولا يرجع إلا بعد شروق الشمس، ثم يعود للمسجد في الساعة العاشرة صباحًا  ولا يرجع لبيته إلا بعد صلاة الظهر، وكان يصوم الاثنين والخميس وأيام البيض.

يقول أحد أبنائه: قبل ست سنوات ذهبنا للعمرة أنا والوالد والوالدة، دخلنا مكة الساعة التاسعة مساءً، ونزلنا للحرم الساعة العاشرة، شرعنا في الطواف والسعي، وكان الوالد –رحمه الله- يجري في موضع السعي، وعمره تقريبًا اثنان وتسعون سنة، ولما انتهينا جلسنا عند مقام إبراهيم من الساعة الثانية عشرة والنصف إلى قبيل الفجر وهو يصلي حتى أكمل إحدى عشرة تسليمة، وكان يصلي وأنا جالس خلفه.

ثانيًا: أعماله: كان رحمه الله إمامًا في جامع الروضة لأكثر من نصف قرن من الزمان  وقبلها عشر سنوات بمسجد الواصل بالروضة، يُعلِّم القرآن، ويوجّه، ويحتسب، وكان صاحب صوت ندي خاشع، يجتهد في تطبيق السنة في قراءته.

وكان -رحمه الله-رئيسًا لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أحد فروعها قبل تقاعده، وعضو لجنة الصلح بالمحكمة.

يقول أحد جيرانه: كان يغلب على عمله الرفق واللين والهدوء والستر، وكان يعالج الأمور بحكمة وطول بال.

وأغلب المساجد القديمة بالزلفي عن طريق الأوقاف كان يحدد اتجاه القبلة بها قبل أن تُبنَى، فكان يخرج في منتصف الليل ويرسمها على النجوم كعادة الناس قديمًا، ثم يُبنَى على رسمه.

 ثالثًا: قيامه على الأرامل والأيتام، والمحتاجين والمحتاجات، ورعاية كبار السن، وزيارة المرضى، وكان من برنامجه يوميًا بعد صلاة العصر إلى قبيل المغرب زيارة المرضى وكبار السن

رابعًا: إقراضه للمحتاجين، وإنظاره للمعسرين، فكان -رحمه الله- لا يرد أحدًا يطلب قرضًا، بل يساعدهم، وكان يأتيه أهل البادية يطلبون ذهبًا للزواج، فيشتري لهم، وبعضهم يطلب أدواتٍ وأغراضًا للزراعة، فيوفرها لهم.

يقول ابنه عبدالله: كنت إذا قرأت عليه الورق يمزقه، ويقول: أنتم بخير وأنا بخير،  ويروي ابنه قائلًا:  كان له أربعمائة ألف ريال عند اثنين إخوان، فماتا، وتحملت الدَّيْن زوجتاهما، فتنازل الوالد عن الدين وقال: الله يحللهم ويبيحهم.

وأكتر من مرة يأتيه أناس يريدون قرضًا، وليس عنده، فكان يقترض ويعطيهم، وكان قد أقرض شخصًا خمسين ألفًا، وتأخّر المقترض في السداد، ثم جاء يريد قرضًا آخر بمبلغ عشرة آلاف أخرى، فقال الوالد: ظننتك أتيت للسداد، فقال الرجل: والله ما جئتك إلا من حاجة، فأعطاه الوالد.

وجاءه رجل يريد قرضًا بمبلغ عشرين ألفًا، فقام الوالد وأعطاه المبلغ نقدًا، وبعد أن أعطاه المبلغ، انصرف الرجل، ثم ناداه الوالد وقال: ما عرفتك؟ فقال الرجل: أنا فلان بن فلان فقال  الوالد: الله يحفظك، حيث أعطاه القرض، وهو لا يعرفه.

وكان –رحمه الله- شاكرًا صابرًا على مرضه، لا يشكو المرض، بل دائم الثناء على الله عز وجل، يقول إذا سألته عن حاله: أنا بخير وعافية، ولا أشكو من شيء.

وكان من أثره، أن رزقه الله ذرية هم من خيرة الشباب خلقًا وأدبًا وتعاملًا، نهلوا من أخلاقه، ونالوا من أدبه، وتعلموا من زهده وعبادته، سقاهم أخلاق القرآن في صغرهم فأثمر ذلك صلاحًا وتدينًا وورعًا في شبابهم.

رحمَ اللهُ الفقيدَ، وأسكنَه فسيحَ جنّاتِهِ، ورفعَ درجته في الفردوسِ الأعلى من الجنةِ، وجعلَ البركةَ في عَقِبِهِ، وأخلفَهُ في أهْلِهِ وإخوانِهِ وذريته خَيْرًا، وجعلَ ما خَلّفَهُ ذُخْرًا له يومَ الدّين، ورِفْعَةً لدرجاتِهِ في عِلِّيِّين، وجمعَهُ بوالدَيْهِ وأزواجه وذرِّيَّتِهِ وأحبَابِهِ في جنَّاتِ النعيم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.