ورحل معلمي القدير، وأستاذي الجليل.
الموت حقيقة تواجه كل حي، فلا يستطيع لها ردًّا ولا دفعًا، ولا يملك أحد أن يقدّم حياله شيئًا؛ لأنها آجالٌ مضروبة، وأنفاسٌ معدودة، وأعمارٌ مكتوبة، وأرزاقٌ محسوبة، ولن تموتَ نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها.
والموت حقيقة يجهلُ الناس موعدَه ومكانَه، قالَ تعالى:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} لقمان: [34].
والموت أكبر واعظ، لا ينجو منه إنسان، ولو كان البقاء ممكنًا لأحد لكان ذلك لأكرم الخلق وأفضلهم من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وها هو خاتمهم وأفضلهم يذوق طعم الموت، قال تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) الزمر [30].
فلن ينجو من الموت أحد في أي مكان وجد، فالكل يموت، الملائكة في السماء، والخلائق في الأرض، والإنس والجن، مهما كانوا في حصونهم، وبروجهم، وصدق الله العظيم: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) النساء [78].
وفي يوم الجمعة 1444/8/18هـ ودَّعْنَا أستاذي القدير، ومعلمي الجليل: إبراهيم بن سليمان الجديع-رحمه الله رحمة واسعة-؛ ولأن الناس لا يُقاسون بأعمارهم، وإنما يُقاسون بتدينهم وعطائهم، وأعمالهم، وأخلاقهم، وما زرعوه في طلابهم من الخير وما أورثوه لتلاميذهم من العلم، وما نحلوه لهم من الأدب والفضل، فأرجو الله أن تكون أعمال أستاذي وأخلاقه، وما قضاه من سنوات في التعليم والتربية امتدادًا لعمره وطولًا لذكره، وذخرًا في موازين حسناته، قال ﷺ: (إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له.) أخرجه مسلم (١٦٣١).
وفقد المعلم والمربي مصاب للأمة جمعاء؛ لأنهم مصابيح الدجى، وعلامات الهدى.
وأحسب أستاذي -رحمه الله-أحد المربين الذين غرسوا الأخلاق قبل العلم ونشروا الفضائل والحلم بين طلابهم، وكانوا نماذج مشرقة في التواضع والصبر والرفق واللين.
وقد عرفت أستاذي-رحمه الله- عفّ اللسان، باش الوجه، صاحب خلقٍ رفيعٍ، في تواضعه وأدبه، خبيرًا بالتربية، محبوبًا بين طلابه، وصدق طاووس بن كيسان -رحمه الله-حيث يقول: (إن هذه الأخلاق منائح يمنحها الله -جل وعلا-من يشاء من عباده، فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً منحه خلقاً صالحاً).
وعرفت فيه الصدق، والأمانة، ودماثة الخلق، ولين الجانب وطيب الكلام، والزهد في الدنيا، والإقبال على الله عز وجل، والورع، والبعد عن المشتبهات، والانشغال بنفسه، وأسأل الله عز وجل أن يكون حسن خلقه سبيلًا له إلى أعالي الجنان، قال ﷺ: (إنَّ من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا) رواه الترمذي (2018) وحسَّن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (791).
وقد مَنَحَ اللهُ أستاذي أخلاقاً جمةً تميّز بها، ولذا لا ترى إلا من يحبه، حيث بذل نفسه لطلابه، وأخلص في أداء عمله طيلة العقود الماضية، ولم يتبرّم أو يشكُ؛ بل يستمتع بالعطاء والبذل، مع تحمّل عجيب، وصبر عظيم، يصدق عليه قول الحسن البصري -رحمه الله-: (كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في بصره وتخشعه ولسانه ويده وصلاته وزهده).
وعرفت أستاذي -رحمه الله-صاحب خلق وأدب، رفيقًا بطلابه، ناصحًا لهم، يحب لهم الخير، مجتهدًا في تعليمهم وتربيتهم، يعالج كل ما يحدث من مشاكل لهم في المدرسة وخارجها.
وقد تميز –رحمه الله-برواية القصص لطلابه نهاية كل حصة، مما يشوق للدرس، ويبعث على الفهم، ومن فطنته أنه كان يسأل طلابه في اليوم التالي، وما استفادوه منها، لتثبت في أذهانهم، وتنعكس على سلوكهم وأخلاقهم، وهذا من فطنته وخبرته التربوية.
دخل ذات مرة الفصل، وكان الطلاب متأثرين من تعامل أستاذ قبله يدرس مادة المطالعة والأناشيد، وقد دخل هذا المدرس الفصل كالمعتاد، لكن لم يشرح، بل قال مباشرة: من يستطيع أن يحفظ هذه القصيدة: أماه، ليتك تسمعين، أماه ليتك تبصرين.. إلى آخر القصيدة.
وكان هذا المدرس متوترًا، تظهر عليه آثار الغضب حينما جاء من منزله، فاجتهد الطلبة في قراءة القصيدة؛ لحفظها، فقال طالب: أنا حفظتها، فطلب منه المدرس أن يقرأ القصيدة، فأخطأ ثلاثة أخطاء، وبعدما انتهى قال طالب آخر: حفظتها، فطلب منه أن يقرأ، فأخطأ سبعة أخطاء، ثم لما فرغ قال له طالب ثالث: حفظتها، فطلب منه أن يقرأ، فأخطأ أحد عشر خطأ، فبدلًا من تشجيعهم تكلم عليهم، عفى الله عنه.
ثم حضر بعده أستاذنا إبراهيم-رحمه الله-ولاحظ تأثر الطلاب، فأخبروه، فطيّب خواطرهم، وأثنى على الطلاب، وأبلغ إدارة المدرسة بما حصل.
ولا زلت أذكر هذا الموقف التربوي الذي غرسه فينا أستاذنا –رحمه الله- فكان تصرفه مع طلابه تصرف الأب الحنون تجاه أبنائه، فاحتواهم، وجبر خاطرهم، وأبدلهم سرورًا وبهجة بعد الضيق والحزن الذي أصابهم.
أسأل الله أن يجزي أستاذي عنا خير الجزاء، وأن يجعل ما قدمه في موازين حسناته، وأن يخلفه في أهله وذويه وطلابه خيرًا، وأن يجعل البركة في عقبه، وأن يجمعه بوالديه وزوجه، وإخوانه، وأخواته، وأصدقائه، ومن يحبهم، ومن يحبونه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وكتبه عبدالله بن محمد الطيار
الجمعة 1444/8/18هـ