عشر ذي الحجة فضلها وما يشرع فيها – خطبة الجمعة 27-11-1444هـ

الجمعة 27 ذو القعدة 1444هـ 16-6-2023م

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلى النِّعَمِ والْهِبَاتِ، وأشْكُرُهُ عَلى مَا أَوْدَعَ في الأيامِ مِنَ البَرَكَاتِ، وجَعَل في الشُّهورِ مِنَ الْخَيْرِ والنَّفَحَاتِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ ربُّ الأَرْضِ والسَّمَاوَاتِ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَتَمَ بِهِ الرِّسَالاتِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:

فاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ حَقَّ التَّقْوَى، واسْتَمْسِكُوا مِنَ الإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) البقرة: [197].

أيُّهَا المؤمنونَ: إنّ مِنْ نِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ عَلى الْعَبْدِ أَنْ يُبَلِّغَهُ مَوَاسِمَ الطَّاعَاتِ، ويُوَفِّقهُ لاغتنامِ الأوْقَاتِ، فيكونَ عُمُرُهُ مَزْرَعَةً لِلْغَرْسِ والْحَرْثِ، وأيَّامُهُ مَيْدَانًا لِلْعَمَلِ وَالْجِدِّ قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) الفرقان: [62] وَقَالَ ﷺ: (ألا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِكُمْ؟) قالوا: نَعَمْ، قَالَ: (خِيارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمارًا وأَحْسَنُكُمْ أَعْمالًا) أخرجه أحمد (7212) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3361).
عِبَادَ اللهِ: هَا هِيَ الأيامُ تَتَعَاقَبُ، والشُّهُورُ تَتَوَالَى، وفي ثَنَايَاهَا هِبَاتٌ رَبَّانِيَّةٌ وعَطَايَا إِلَهِيَّةٌ، كُنُوزٌ مَكْنُونَةٌ، وجَوَاهِرُ مَسْتُورَةٌ، يَنْتَفِعُ بِهَا السُّعَدَاءُ، وَيَفْطِنُ لَهَا الأَتْقِيَاءُ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ.

أَيُّهَا المؤمنونَ: نستقبل بعد أيامٍ معدودات، أيامًًا معلومات، وعشْرًًا مباركات، أقسمَ بِهَا اللهُ عزَّ وجَلَّ؛ لِعَظِيمِ فَضْلِهَا، والتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهَا، قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ) الفجر: ]1-2] وقَالَ عَنْهَا النَّبِيُّ ﷺ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيّامِ، يعني أيّامَ العشرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إلّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ) أخرجه أبو داود (2438) وصححه الألباني.

عِبَادَ اللهِ: وَعَشْر ذِي الْحِجَّةِ أَوْدَعَ اللهُ فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ مَا لا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ الْعَامِ، فَاجْتَمَعَ فِيهَا يَوْم عَرَفَةَ، يَوْم الْحَجِّ الأَكْبَرِ، وَيَوْم النَّحْرِ أَعْظَم أيَّامِ الدُّنْيَا، قالَ النبيُّ ﷺ: (أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقُرِّ) واجتمعَ فيها أُمَّهَات العبادَةِ وهِيَ الصَّلاةُ والصِّيَامُ والصَّدَقَةُ والْحَجُّ، وَلا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا.

أيُّهَا المؤمنونَ: وأفْضَلُ مَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ المُسْلِمُ عَشْر ذِي الحِجَّة تَعْظِيمُهَا، واسْتِشْعَارُ فَضْلِهَا، قالَ تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) الحج: [32] وَصِدْقُ النِّيَّة فِي اغْتِنَامِهَا، فالمسلمُ مَأْجُورٌ بِنِيَّتِهِ، وَمَنْ صَدَقَ اللهَ صَدَقَهُ اللهُ، وَمَتَى عَلِمَ اللهُ عزَّ وجلَّ مِنْ عَبْدِهِ خَيْرًا أَعَانَهُ عَلَيْهِ.

عِبَادَ اللهِ: وَمِمَّا يُشْرَعُ لِلْمُسْلِمِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالأَعْمَالِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ مَا يَلِي:

أَوَّلًا: المُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلاةِ، والتَّبْكِير لَهَا، والاسْتِزَادَة مِنَ النَّوافِلِ.

ثانيا: الصيام، فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة؛ وقد خصّ النبي ﷺ صيام يوم عَرَفَةَ بِمَزِيدِ عِنَايَةٍ فَقَالَ: (صِيامُ يومِ عَرَفَةَ، إنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التي قَبلَهُ، والسنَةَ التي بَعْدَهُ) أخرجه ابن حبان (2632) فَمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ لِشَدَّةِ الْحَرِّ أوْ غَيْر ذَلِكَ، فَلا يَغْفَلَنَّ عَنْ يَوْمِ عَرَفَة، قالَ ﷺ: (ما مِن يَومٍ أكْثَرَ مِن أنْ يُعْتِقَ اللهُ فيه عَبْدًا مِنَ النّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُباهِي بهِمِ المَلائِكَةَ، فيَقولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ؟) أخرجه مسلم: (1348).

ثالثًا: الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ والتَّحْمِيدِ والتَّهْلِيلِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ في الْبُيُوتِ والأَسْوَاقِ لِقَوْلِهِ ﷺ (.. فأَكثِرُوا فيهِنَّ مِنَ التَّهليلِ، والتَّكبيرِ، والتَّحميدِ) أخرجه أحمد  (5446)

أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) البقرة: [203].

بَارَكَ اللهُ لي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَي وَإِيَّاكُم بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:

الْحَمْدُ للهِ الْحَافِظِ لِعِبَادِهِ، والنَّاصِرِ لأَوْلِيَائِهِ، أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآَلائِهِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى إِحْسَانِهِ وَعَطَائِهِ، وَأَشْهَدُ ألّا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:

فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعْلَمُوا أَنَّ التَّكْبِيرَ المُطْلَق يَبْدَأُ بِثُبُوتِ هِلالِ شَهْرِ ذِي الْحجَّةِ وَيَسْتَمِرُّ إِلى غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ عَشَر، والتَّكْبِيرُ المقيَّدُ: يَكُونُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ مِنْ فَجْرِ يَوْم عَرَفَة (لِغَيْرِ الْحَاجّ) إِلَى عَصْر ِالثَّالِثِ عَشَر مِن ذِي الحِجَّةِ، وَلِلْحَاجِّ مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إِلى عَصْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ عَشرَ مِنْ ذِي الحِجَّة.

أيُّهَا المؤمنونَ: اعْلَمُوا أنَّ أيَّامَ الْعَشْرِ بابٌ للتَّوْبَةِ، وَمَيْدَانٌ لِلْعِبَادَةِ والطَّاعَةِ، فَلا يشُوبُهَا المسلمُ بِالمعَاصِي، وَلا يُعَكِّرُهَا بِالذُّنُوبِ، فَكَمَا أنَّ الطَّاعَات سَبَبٌ لِلْقُرْبِ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، فَإِنَّ المعَاصِي مُوجِبَةٌ لِلطَّرْدِ وَالإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ.

وَإِنَّ المْغُبْونَ حَقًّا مَنْ يُطْرَدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ عزَّ وجَلّ فِي وَقْتٍ دَعَاهُ اللهُ فِيهِ إِلَى رَحْمَتِهِ وَوَعَدَهُ بِفَضْلِهِ وَمَغْفِرَتِهِ.

أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يُحَبِّبَ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَيُزَيِّنَه فِي قُلُوبِنَا، وَأَنْ يُكَرِّهَ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَيَجْعَلْنَا بِفَضْلِهِ مِنَ الرَّاشِدِينَ.

اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِالإِسْلامِ قَائِمِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالإِسْلامِ قَاعِدِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالإِسْلامِ رَاقِدِينَ، وَلا تُشْمِتْ بِنَا أَعْدَاء وَلا حَاسِدِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ أَعِنْهُ وَسَدِّدْهُ، وَاجْعَل لَهُ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ وَوُزَرَاءَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ رجالَ الأمنِ والمُرَابِطِينَ على الثغور، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أيمانِهِمْ وعنْ شمائِلِهِمْ ومِنْ فَوْقِهِمْ، ونعوذُ بعظَمَتِكَ أنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.

اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَات، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجنات واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.                      الجمعة 1444/11/27