انتهاء العام الهجري ( وقفات ودروس )
الحمدُ للهِ حَمْدًا كثيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا، وأشْهَدُ ألّا إِلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلا نِدَّ لَهُ، وَلا وَلَدَ لَهُ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا،
وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسُولُهُ، أَرْسَلَهُ هاديًا ومبشرًا ونذيرًا صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرٍا، أمَّــا بَعْـدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ حَقَّ التَّقْوَى، وتَزَوَّدُوا لِلأَخِرَةِ، وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) البقرة: [197].
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: جَعَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالسِّنِينَ وَالأَعْوَامَ، آَيَةً مِنْ آَيَاتِهِ، أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ السُّنَنِ وَالأَقْدَارِ، وَاللَّطَائِفِ وَالأَسْرَارِ، وَجَعَلَهَا مَطَايَا للاتِّعَاظِ وَالاعْتِبَارِ، فَلَيْلٌ يَعْقُبُهُ نَهَارٌ وَعَامٌ يَتْلُوهُ عَامٌ، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ.
عِبَادَ اللهِ: أَيَّامٌ قَلائِل وَتُطْوَى صَفْحَةُ هَذا الْعَامِ بِكُلِّ مَا حَوَتْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمَا أَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وَمَا قَدَّرَ فِيهِ مِنَ المِحَنِ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالسَّرَّاءِ وَحَوْلَ انْتِهَاء الْعَام الْهِجْرِيّ نَسْتَخْلِصُ بَعْضَ الدُّرُوسِ وَمِنْهَا:
أَوَّلًا: فِي تَصَرُّمِ الأَعْوَامِ مُدَّكَرٌ، وَفِي تَعَاقُبِ الأَيَّامِ مُعْتَبَرٌ، فَالأَعْوَامُ وَالأَزْمَانُ مَنَازِلُ يَنْزِلُهَا الناسُ، فَيَشِبُّ الصَّغِيرُ، وَيَشِيبُ الْكَبِيرُ، وَيَجْرِي الْقَلَمُ، وَتُمْلأُ الصُّحُفُ، وَالْعَاقِلُ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُقدُِّمُ في كلِّ مرحلةٍ زادًا يَنْفَعهُ فِي ثَنِيَّاتِ الطَّرِيقِ، قَبْلَ انْقِطَاعِ السَّفَرِ وَمُبَاغَتَةِ الأَجَلِ، قَالَ ﷺ: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَراغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ) أخرجه الحاكم (7846) والبيهقي في شعب الإيمان (10248) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355).
ثَانِيًا: تَصَرُّمُ الأَعْوَامِ تَذْكِيرٌ بِحَقِيقَةِ الدُّنْيَا وَسُرَعَةِ زَوَالِهَا وَتَقَلُّبِهَا بِأَهْلِهَا، لا يَقِرُّ لَهَا قَرَارٌ، وَلا يَدُومُ فِيهَا حَالٌ، صَفَاؤُهَا مَشُوبٌ بِكَدَرٍ، وَصِحَّةٌ يَعْقُبُهَا مَرَضٌ، مَتَاعُهَا قَلِيلٌ وَعُمْرُهَا قَصِيرٌ، وَحَالُ المسْلِم فِيهَا كَمَا قَالَ مُؤْمِنُ آَلِ فِرْعَوْنَ لِقَوْمهِ: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) غافر: [39] وَوَصَفَهَا النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ:(مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إلّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَها) أخرجه الترمذي (2377) وصححه الألباني. فَمَتَى عَقِلَ المُسْلِمُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ هَانَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، وَتَرَكَهَا لأَهْلِهَا، وَأَقْبَلَ عَلَى الأَخِرَةِ وَجَدَّ فِي طَلَبِهَا، قَالَ تَعَالَى: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) الشورى: [20].
ثَالِثًا: كَمْ مَرَّ عَلَيْنَا فِي هَذَا الْعَامِ مِنْ مَصَاعِب وَشَدَائِدَ؟ وَكَمْ دَاهَمَتْنَا هُمُومٌ وَمَصَائِب فَأَعْقَبَهَا فَرَجٌُ، وَتَلاهَا خَيْرٌ، وَصَرَفَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ بِلُطْفِهِ وَكَرَمِهِ، فَلْيُحْسِنِ المسْلِمُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ، وَيُوقِنُ بِمَعِيَّتِهِ وَنَصْرِهِ (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) الشرح: [5-6].
رَابِعًا: مَنْ كَانُوا بَيْنَنَا في هَذَا الْعَامِ، ثُمَّ هُم الآَنَ تَحْتَ الثَّرَى، أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا، طُوِيَتْ صَحَائِفُهُم، وَرُفِعَتْ أَعْمَالُهُم، وَلا زَالَتْ آَمَالُهُم قَائِمَةً، ومُخَطَّطَاتُهُم مَرْسُومَةً، لكنَّ الموتَ فَاجَأَهُمْ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا لَهُ رَدًّا، فَحَرِيٌّ بِالمسْلِم أَنْ يَعْتَبِرَ بِمَنْ مَاتَ ويُعدَّ الزَّادَ لِمَا هُوَ آَتٍ.
خَامِسًا: إِنَّ التَّاجِرَ اللَّبِيبَ إِذَا شَارَفَ انْتِهَاءُ عَامِهِ التُّجَارِي، جَمَعَ أَوْرَاقَهُ، وَأَعَادَ حِسَابَاتِهِ، وَرَاجَعَ مُدْخَلاتِهِ وَمُخْرَجَاتِهِ، وَهَكَذا المسْلِمُ الْحَصِيفُ فِي عَلاقَتِهِ مَعَ اللهِ عزَّ وجلَّ، يُوَدِّع العَامَ بِجلْسَةِ مُحَاسَبةٍ للنَّفْسِ، كَيفَ حَالهُ مَعَ الْفَرَائِضِ والْوَاجِبَاتِ، وَأَيْنَ هُوَ مِنَ النَّوَافِلِ وَالْقُرُبَاتِ، وَمَا حَالُ أسرته وَمَنْ هُمْ تَحْتَ يده، هَلْ عَلَّمَ وَقَوَّمَ وَشَجَّعَ، أَمْ أَهْمَلَ وَقَصَّرَ وَضَيَّعَ؟! فَإِنْ كَانَ خيرًا حَمِدَ اللهَ وَازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ غَيرَ ذَلِكَ، فَلْيُرَاجِعْ نَفْسَهُ.
أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرِّجِيمِ: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) الإسراء: [13-14].
أقولُ قَوْلِي هَذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى فَضْلِهِ، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، وَأشْكُرُهُ حَقَّ شُكْرِهِ، لا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلا غَالِبَ لأَمْرِهِ، وَأَشْهَدُ ألّا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعَالَى ذِكْرُهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِ نَهْجِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ أَفْضَلَ مَا يَسْتَهِلُّ بِهِ المُسْلِمُ عَامَهُ الْجَدِيدَ تَوْبَةٌ صَادِقَةٌ خَالِصَةٌ للهِ سُبْحَانَهُ، تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوب وَتُزِيلُ مَا رَانَ عَلى الْقُلُوبِ، والتَّوْبَةُ أَفْضَل مَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ المسْلِمُ يَوْمَهُ وَشَهْرَهُ وَعَامَهُ، قَالَ تَعَالَى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)النور: [31] وَقَالَ أَيْضًا:(فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ)التوبة: [74] وقَالَ ﷺ:(وَاللَّهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إلَيْهِ في اليَومِ أكْثَرَ مِن سَبْعِينَ مَرَّةً) أخرجه البخاري (6307).
أيُّهَا المؤمِنُونَ: وَلَيْسَت التَّوْبَة قَوْلًا بِاللِّسَانِ فَقَطْ، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَزْمٌ بِالْقُلُوبِ، وَإِقْلاعٌ عَن الذُّنُوبِ، والنَّدَم عَلى الْعُيُوبِ، وَرَدٌّ لِلْمَظَالِمِ وَالْحُقُوقِ، فَإِذَا وَقَعَتْ التَّوْبَة مَوْقِعها آَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَينِ، فَيُجَازِيهِ الْكَرِيمُ بِالْعَفْوِ، وَيُبَدِّل السَّيِّئَات إِلَى حَسَنَات، قَالَ سُبْحَانَهُ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) الفرقان: [70].
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا الذُّنُوب، وَاسْتُرْ مِنَّا الْعُيُوب، وَتُبْ عَلَيْنَا لِنَتُوب، يَا عَفُوُّ يَا وَدُودُ.
اللَّهُمَّ اخْتِمْ بِالصَّالِحَاتِ أَعْمَالَنَا، وَبِالسَّعَادَةِ آَجَالَنَا، وَبَلِّغْنَا مِمَّا يُرْضِيكَ آَمَالَنَا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ يَوْمنَا خَيْرًا مِنْ أَمْسِنَا وَغَدَنَا خَيْرًا مِنْ يَوْمِنَا وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِنا لِكلِّ خيْرٍ، واصْرِفْ عنهُم كُلَّ شَرٍّ، واجْعَلْهُمْ ذُخْرًا للإسلامِ والمسلمينَ وَارْزُقْهُم الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ الَّتِي تَدُلُّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَتُعِينُهُمْ عَلَيْهِ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَات، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ، واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وأُمَّهَاتِهِم، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا، وأزواجًنا، وجيرانَنَا، وَمَشَايِخنَا، ومَنْ لهُ حقٌّ علينَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجمعة 1444/12/26هـ
مواضيع ذات صلة
-
وصايا للمرضى – خطبة الجمعة 20-1-1446هـ....
الجمعة 20 محرم 1446هـ 26-7-2024م قراءة -
بعض مظاهر رحمة الله بعباده – خطبة الاستسقاء 26-5-....
الخميس 26 جمادى الأولى 1446هـ 28-11-2024م قراءة -
إكرام كبار السن واجب شرعي – خطبة الجمعة 8-4-1446هـ....
الجمعة 8 ربيع الثاني 1446هـ 11-10-2024م قراءة -
احرص على ما ينفعك – خطبة الجمعة 22-4-1446هـ....
الجمعة 22 ربيع الثاني 1446هـ 25-10-2024م قراءة -
السكينة وحاجة العباد إليها – خطبة الجمعة 2-11-144....
الجمعة 2 ذو القعدة 1445هـ 10-5-2024م قراءة -
العجلة المذمومة – خطبة الجمعة 29-4-1446هـ....
الجمعة 29 ربيع الثاني 1446هـ 1-11-2024م قراءة