التوبة طريق الفلاح – خطبة الجمعة 27-10-1441هـ

الأثنين 6 محرم 1445هـ 24-7-2023م

 

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الكريمِ الحليمِ الذي يغفرُ الذنبَ ويقبلُ التَّوبَ؛ وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ يُحبُّ عبادَه التَّائبين، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه إمامُ التَّائبينَ والمستغفرينَ، وقُدوةُ العبَّادِ الصالحينَ، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه إلى يومِ الدينِ. أما بعدُ:

فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ حقَّ التقوى،{{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}[الحشر:18].

أيُّها المؤمنونَ: خَلَقَ اللهُ جلَّ وعلا عبادَه وهو العليمُ بضعفهِم، وتقصيرِهم وجهلهِم، وإسرافِهم على أنفسهِم، فلم يتركْهم هملاً، بل فَتَحَ لهم أبوابَ رحمتِه رحمةً بهم وشفقةً عليهم، فناداهم مُرغِّبًا لهم في الإقبالِ عليه والإنابةِ إليه، حاثًّا لهم على سلوكِ سبيلِ الرشادِ:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [النور:31]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ..} [التحريم:8] . فلا سبيلَ إلى الفوزِ والفلاحِ إلا بلزومِ عتبةِ التوبةِ، والمبادرةِ إليها.

عبادَ اللهِ: إنَّ التَّوبةَ عبادةٌ جليلةٌ وخلقٌ رائعٌ جميلٌ، وهي مِنْ أفضلِ العباداتِ وأحلاها وأَلذِّهَا.

وهيَ طريقُ الفلاحِ والنجاحِ، وهي بوابةُ الوصولِ إلى مرضاةِ اللهِ، ولا تحتاجُ لواسطةٍ بين العبدِ ورَبِّهِ، وهي في ظاهرِها تضُّرعٌ واستكانةٌ وقربٌ ومناجاةٌ ودعاءٌ وذلَّةٌٍ، وفي داخِلها سعادةٌ ولذةٌ، والتوبةُ مِنْ أيسرِ الطرقِ لتحصيلِ محبةَ اللهِ، وهي تُنقِّي القلبَ من أدرانِ الذنوبِ، وتُنَقِّي الأبدانَ من أدرانِ العجزِ والكسلِ والفُتورِ، ومتى خرجتْ منْ قلبٍ صادقٍ مخلصِ جبَّتْ ما قبلهَا من السيئاتِ والذنوبِ، وهي علامةٌ على صلاحِ العلاقةِ بين العبدِ وربِّه. وصدقَ اللهُ العظيمُ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُون} [الشورى:25]، وقال تعالى:{إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين}[البقرة:222]. وقال رسولنُا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (لَلَّهُ أفْرَحُ بتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وبِهِ مَهْلَكَةٌ، ومعهُ راحِلَتُهُ، عليها طَعامُهُ وشَرابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنامَ نَوْمَةً، فاسْتَيْقَظَ وقدْ ذَهَبَتْ راحِلَتُهُ، حتّى إذا اشْتَدَّ عليه الحَرُّ والعَطَشُ أوْ ما شاءَ اللَّهُ، قالَ: أرْجِعُ إلى مَكانِي، فَرَجَعَ فَنامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فإذا راحِلَتُهُ عِنْدَهُ)(رواه البخاري).

وقال صلى اللهُ عليهِ وسلَّم فيمَا رواهُ عن ربِه تباركَ وتعالَى: (يا ابنَ آدمَ، إنك ما دعَوتَني ورجَوتَني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغَتْ ذنوبُك عَنانَ السماءِ، ثم استغْفَرْتني، غفرتُ لك، يا ابنَ آدمَ إنك لو أتيتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا، ثم لَقِيتَني لا تشركُ بي شيئًا، لأتيتُك بقُرابها مغفرةً)(رواه الترمذي، وصححه الألباني).

عبادَ اللهِ: والتَّوبةُ لا تكونُ مقبولةٌ إلا إذَا خرجتْ من قلبٍ منيبٍ صادقٍ مخلصٍ، وكانتْ في زمنِ المهلةِ قبلَ خروجِ الروحِ، وقبلَ طلوعِ الشمسِ من مغربِها.

وممَّا يعينُ عليهَا تَذكُّرُ العبدِ نعمَ اللهِ عليهِ، وتَذَكُّرُه ذنوبَه وخطاياهُ، وتَذَكُّرُه قصَرِ بقائِه في هذهِ الدنيا مع قِلَّةِ الزادِ، وتَذَكُّرُه سكراتِ الموتِ وشدَّتِه وكُرْبتَه، وتَذَكُّرِه لحظاتِ نزولِ القبرِ وضمَّتِه ووحشَتِه، وتَذَكُّرِه الحشرَ والصِّراطَ والميزانَ، وتَذَكُّرِه لحْظةَ تطايرِ الصحفِ وموقفَه بينَ يديَّ ربِّهِ.

فاصْدُقوا معَ ربِّكُم، وأقْبِلوا عليهِ، وأنَيبُوا إليهِ، وأبْشِروا فهوَ أرحمُ الراحمينَ وأكرمُ الأكرمينَ.

وصدق اللهُ العظيمُ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [الزُّمَر:53].

باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ ما سمعتمْ فاسْتَغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكُم إنَّه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:

فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعْلَمُوا أنَّ تَقْوَاهُ هيَ طريقُ النجاةِ.

أيُّها المؤمنونَ: ومن أوسعِ أبوابِ التَّوبةِ لزومُ الاستغفارِ، قالَ تعَالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}[هود:3]، وقال تعالى:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}[نوح:10].

وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ‌تُوبُوا ‌إِلَى ‌اللهِ ‌وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللهِ، وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ)(رواه أحمد، وصححه الألباني).

وعنْ عبدِاللهِ بنِ عمرِ رضيَ اللهُ عنهمَا قالَ:(إن كنّا لنعدُّ لرسولِ اللَّهِ ﷺ في المَجلِسِ الواحدِ مائةَ مرَّةٍ: ربِّ اغفر لي، وتُب عليَّ، إنَّكَ أنتَ التَّوّابُ الرَّحيمُ)(رواه أبو داود، وصححه الألباني).

فإذا كانَ ذلكَ هديَ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وهوَ الذي غَفَرَ اللهُ لهُ ما تَقدَّمَ من ذنبهِ وما تأخَّرَ، فكيفَ بغيرِه من المذنبينَ المقصرينَ.

واعلموا بارك الله فيكم أن التَّوبةَ والاستغفارَ هما أعظمُ سلاحٍ تواجهونَ به هذا الداءَ العضَالَ _ كورونا _ مع تطبيقِ الإجراءاتِ الاحترازيةِ والتباعدِ الاجتماعي.

فعليكم بالتوبةِ ولزوم الاستغفار والإكثار منهما، فهما بابُ كلِّ خيرٍ، والمكثرونَ من الاستغفارِ يومَ القيامةِ من أهلِ النعيمِ المقيمِ، قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (طُوبَى لِمَن وُجِدَ في صَحيفَتِه استِغفارًا كثيرًا)(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). أسألَ اللهَ تعالى أَنْ يُرطِّبَ ألسنتِنَا بذكرِه، وأَنْ يمنَّ علينَا بتوبةٍ نصوحٍ قبلَ لقائِه.

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ  فقالَ جلَّ وعلا [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].                                                                 

 الجمعة: 1441/10/27هـ