نتيجة القصاص من الآخرين
إن أكثر الأمراض التي تصيب الإنسان إنما تصيبه من جراء الغضب فارتفاع ضغط الدم وتوتر الأعصاب والسكر وغيره بسبب الغضب لأن الغضب كالبركان الثائر أو الزلزال المدمر لأنه يزلزل الجسم ويحدث به اضطراباً عجيباً، والغضب جمرة نار متأججة في الجسد أما رأينا جمرة عين الغضبان وانتفاخ أوداجه كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم -؟!
إذن فنتيجة الغضب أو التفكير في القصاص من الآخرين إنما يعود بنتيجة وخيمة على صاحبه والإنسان العاقل الراشد اللبيب بسبب ثقته في نفسه ورصانة عقله ورباطة جأشه لا يمكن أن يرد على غيره ولا يستخف بالآخرين بل يأخذ بوصية الحكيم إذ يقول:
إذا نطق السفيه فلا تجبه *** فخير من إجابته السكوت
ويردد:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني كامل
ويردد أيضاً: ولو أن كل كلب عوى ألقمته حجراً *** لأصبح الصخر مثقالاً…
وينظر إلى خصومه نظرة شفقة ورحمة عليهم وعلى ما وصلوا إليه من حال ويحمد الله تعالى أنه لم يخلقه مثلهم بهذه الجفوة والغلظة والمؤمن إذا فعل ذلك فإنما يدلل على حسن خلقه وسعة صدره ونقاء قلبه فقلب المؤمن الكبير المليء بالحب والرحمة والعطف لا يتسع للغل والحقد وحب الانتقام من الأعداء والخصوم بل إن شعور الغل يمر عليه كطيف خيالٍ سريعاً ثم ينفك عنه وإن صاحب المقام العالي والمنزلة الرفيعة العظيمة ليزن الأمور بعقله وتفكيره السديد لا بعواطفه الجياشة التي يمكن أن تؤدي به إلى الهاوية وهو يعلم تماماً أن معاداة أي شخص لن تعود عليه بفائدة بل بالعكس ستحط من قدره ومنزلته عند أولي الألباب أصحاب المقامات العالية أخلاقياً لذا فهو إذا واجهته أي خصومة من أي شخص فإنه يرى أن أعظم شيء يفعله وينتج عنه أن يكون خصمه في شدة الغيظ ويموت هذا المؤذي حزناً وكمداً أن يسكت المُغْضَبْ ولا يرد عليه لأنه لو رد عليه يكون قد أعطاه فرصته ليفرغ ما عنده من شحنة الغضب فيستريح بينما تركه أشد إيلاماً وأوقع عذاباً له وإن كنا نتمنى أن لا يصل المرء منا إلى حالة الغضب أصلاً.
والمسلم يمكنه أن يجنب نفسه الغضب بالعفو عن الآخرين فالمسلم عندما يعيش وراء أسوار عالية من فضائله لا يحس بشدة الألم الناتج عند إهانته من الآخرين أو اقتحام نفسه، واحتقارها، فالإهانات تسقط على قاذفها قبل ن تصل إلى مرماها البعيد يقول الله تعالى -: ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) [الأعراف: 66-68].
فشتائم هؤلاء الجهال لم يطش لها حلم هود لأن الشقة بعيدة بين رجل اصطفاه الله رسولاً فهو في الذؤابة من الخير والبر وبين قوم سفهوا أنفسهم وتهاووا على عبادة الأحجار يحسبونها تنفع أو تضر.
وإليك أخي المسلم بعض النماذج العظيمة في الحلم تبين مدى صبر أصحابها وعدم التفكير في القصاص ممن آذوهم بسبب أو غيره محتسبين أجر كظم الغيظ عند الله لأن من يفعل ذلك يبدل الله له هذا الكظم قدراَ من الإيمان يجد حلاوته في قلبه كما أوضح ذلك الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم -.
قابل رجل الإمام الشافعي ذات مرة وقال له: يا فاسق فقال الإمام رحمه الله-: اللهم إن كان فيَّ ما يقول فاغفر لي وإن لم يكن فيَّ ما يقول فاغفر له يا رب العالمين.
وأكال رجل السب والشتم لابن مسعود رضي الله عنه فقال: يا هذا دع للصلح موضعاً فإننا لا تقابل من عصى الله فينا بشم أو سب إلا أن نطيع الله فيه بأن ندعو له بالمغفرة والرحمة.
وتعثر أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه في رجل نائم ففزع من نومه قائلاً أحمار أنت؟ فقال عمر: لا فكان يسير أحد الجنود مع أمير المؤمنين فقال: دعني أضرب عنقه يا أمير المؤمنين لأنه يسبك فقال عمر رضي الله عنه ما سبني الرجل بل سألني أحمار أنت؟ فقلت: لا.
وشتم رجل الأحنف بن قيس كثيراً فلما اقترب الأحنف من الحي الذي يسكن فيه قال للذي يشتمه يا هذا إن كان بقي معك شيء فقله هنا لأني أخشى أن يؤذيك فتيان الحي إن سمعوك.
وعلى رأس هؤلاء جميعاً في قمة الصفح والعفو وكم الغيظ والحلم نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد فعلت معه قريش ما فعلت من أذى وتعذيب وطرد لأصحابه وتضييق على دعوته ومع ذلك كله عندما فتح الله على يديه مكة وأصبحت كلمة الله هي العليا إذا به يجمعهم في صعيد واحد ويسألهم ماذا ترون أني فاعل بكم فيقولون: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم فيقول: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
هكذا يقول – صلى الله عليه وسلم -: ( ثلاث من كن فيه آواه الله بكنفه وستر عليه برحمته وأدخله في محبته من إذا أعطى شكر وإذا قدر غفر وإذا غضب فتر ).[1]
ويتسع صدره الكريم – صلى الله عليه وسلم – لبعض أقوال وأفعال نسائه فهاهي عائشة – رضي الله عنها – تقول للرسول: أنت الذي تزعم أنك نبي؟ فيسكت – صلى الله عليه وسلم – ولا يعنفها على ذلك، وتوكزه في صدره الشريف ذات مرة أمام أمها فتنهرها أمها فيقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ( دعيها إنهن يفعلن أكثر من ذلك ).
وها هو – صلى الله عليه وسلم – يعفو عن رأس المنافقين في المدينة عبدالله بن أبي بن سلول صاحب قالة السوء في أطهر الطاهرات عائشة – رضي الله عنها – يقول في حقها تلك الإشاعة الكاذبة ليهز بها كيان المجتمع الإسلامي كله وينزل القرآن ليبرأها من فوق سبع سماوات، ويوم أن يموت هذا المنافق يكفنه الرسول في قميصه ويصلي عليه ويستغفر له بعظيم من الأخلاق الطيبة من حلم وعفو وصفح، لكن الله – جل وعلا – يحكم في القضية بقوله – تعالى -: ( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ) [التوبة:84].
فعلينا أن نقتدي برسول الله – صلى الله عليه وسلم – في عزيم أخلاقه من عفو وصفح وغيره وأن لا نعطي فرصة للشيطان ليتغلب علينا أو نمكن الغضب أو الحقد من قلوبنا فتصبح هذه القلوب سوداء فنكون بذلك قد خرجنا من معية أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – الذين وصفهم الله – تعالى – بأول ما وصفهم بسلامة الصدر يقول الله – تعالى -: ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) [الفتح: 29].
والمؤمن حليم لا يجهل إن جهل عليه، يقول الله – تعالى – في عباد الرحمن: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) [الفرقان:63].
وصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن رجلين استبَّا عنده – صلى الله عليه وسلم – فجعل أحدهم يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه فنظر إليه الرسول وقال: ( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنها هذا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) فقام إلى الرجل أحد ممن سمع الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقال له: هل تدري ما قال رسول الله آنفاً؟ قال: لا قال: ( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه هذا… أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) فقال له الرجل: أمجنوناً تراني؟[2]
وهكذا بلغ الغضب بهذا الرجل حداً لا يكترث فيه بالتوجيه النبوي.
إن محاولة القصاص دائماً من الآخرين قد تودي بصحة الإنسان حيث أن أبرز ما يميز الذين يعانون من ضغط الدم سرعة انفعالهم واستجابتهم لدواعي الغضب والحقد.
نسأل الله – تعالى – أن ينقي قلوبنا من الحقد والغيظ ويملأها بالحب والرحمة إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
وصلِّ االلهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- رواه الحاكم.
[2]- رواه البخاري