البناء الفقهي للإمام والخطيب
لقد اعتنى الإسلام بالإمامة والخطابة، وجعلهما في مكانة عظيمة، لكونهما مسؤولية، وأمانة، وواجباً في عنق كل من أقدم عليهما، والقيام بهما سبيل الأنبياء والمرسلين، ونهج سلف الأمة الصالحين، قال الله تعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ}(يوسف:108)، واعتبرهما الإسلام من أجل الأعمال التي يتعدى نفعها للمسلمين.
والإمامة فضلها مشهور، تولاها النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، وكذلك خلفاؤه الراشدون، وما زال يتولاها خيار المسلمين علماً وعملاً، فمسئوليتها عظيمة، ومهمتها خطيرة وجسيمة، قال صلى الله عليه وسلم (الإمام ضامن..)(رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني).
ولا شك أن تلك المسؤولية تجب في حق كل من أم المسجد، وينبغي عليه أن يأتي بها على الوجه المطلوب شرعاً؛ لكونه مؤتمناً، وقد استُرعي في القيام بها؛ فعليه أن يراعي لوازم تلك الأمانة وهذا العمل العظيم، وأن يعلم ما عليه من واجبات ومسؤوليات تجاهها.
وإن من الأمور التي ينبغي على الإمام القيام بها ومراعاتها حال إمامته ما يلي:
* أن يكون قدوة حسنة لجماعة المسجد، وألا يخالف ظاهره باطنه، وأن يكون ورعاً تقياً، شفيقاً رفيقاً، متواضعاً سهلاً، هيناً ليناً، بشوشاً، صادقاً، نبيهاً فطناً.
* الإلمام بالعلم الشرعي الذي يساعده في مهمته عند إمامته للمسجد.
* إمامة الجماعة في الصلوات الخمس، وعدم التخلف أو التأخر عنها.
* أداء الصلاة على وجهها المشروع؛ والترغيب فيها، مع مراعاة أحوال الناس؛ فمنهم الكبير، والمريض، وذا الحاجة.
* تفقد المتخلفين عن الصلاة، ونصيحتهم، وتحذيرهم من مغبة التفريط فيها.
* تخول الناس بالموعظة والتوجيه والإرشاد، مع الوضع في الاعتبار واقع الناس ومشاكلهم والوقت المناسب لذلك.
* تفعيل دور المسجد وذلك بربط جماعة المسجد بعضهم ببعض بالزيارات والتواد والتراحم، ورعاية محتاجهم، وزيارة مريضهم، وأيضاً بالتوجيه، والإرشاد، وإهداء الكتب والمطويات، وتعليم القرآن والسنة وسائر الأمور الشرعية.
* ربط جماعة المسجد بالعلماء الربانيين، وطلبة العلم، وتعريفهم بهم، واستضافتهم لهم لإلقاء الكلمات والمحاضرات.
* الاهتمام بنشر فتاوى العلماء الموثوقين، وتعليقها في لوحة مخصصة بالمسجد، مع تخصيص مكتبة شرعية لجماعة المسجد.
* القيام بشؤون المسجد، ومصالحه، وحاجاته، والاهتمام بنظافته وطهارته.
* تنبيه الجماعة على بعض الأمور الشرعية التي يحتاجون إلى معرفتها في وقتها؛ كزكاة الفطر، والحج والعمرة، والعيدين، والأحداث المستجدة كالكسوف والخسوف، والفتن المستجدة.
ويكفي إمام المسجد شرفاً وفخراً أن ينال دعوة المعصوم صلى الله عليه وسلم بقوله (..اللهم أرشد الأئمة..)(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وكذلك الخطابة: فهي وسيلة من أهم وسائل الدعوة إلى الله، وتبليغ دينه، نالت في الإسلام عناية فائقـة، وأهمية بالغـة في مختلـف الأحوال والمناسبات، وخصَّت صلاة الجمعـة بالخطبة لأنها تعد شرطاً في صحتهـا، لا تصـح صلاة الجمعة بدونها.
ولهذا تعظم مسئولية الخطيب لعظم الخطبة، ومكانتها في الإسلام، ولحاجة الناس إليها بين الحين والآخر.
فالخطابة سمة من سمات أمة الإسلام، وشعيرة من شعائره، وجُعِلَ المسلمون يحتشدون كل أسبوع في المسجد ليسمعوا داعية إلى الله يذكر به ويعلم دينه.
فعلى الخطيب الناجح أن يراعي في أداء خطبته التمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولزوم الحكمة والموعظة الحسنة، وأن يعد الخطبة إعداداً جيداً، حتى تكون مفيدة ومؤثرة. مع مراعاة أحوال المخاطبين، والزمان، والمكان اللذين تلقى فيهما الخطبة، ويقدم الأهم على المهم بحسب حاجة السامعين، ويوازن بين المصلحة الراجحة والمرجوحة في طرح الموضوع فيقدم الراجحة، ويدفع المفسدة.
وعليه أن يبتغي بذلك وجه الله تعالى، ورجاء ثوابه، ويحرص على الالتزام بما يقول، ويعمل جاهداً على تبصير إخوانه المسلمين، ويكون بهم رءوفاً رحيماً كما كان النبي محمداً صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
وينبغي عليه أيضاً: لزوم التدين والانضباط الشرعي، وتعاهد النفس بالأوراد والقربات، والتخلق بأخلاق الإسلام من حسن الخلق والصدق والعفة والأمانة والإحسان والصلة، والحرص على المبادرة إلى الخيرات، مع التواضع والرفق وخفض الجناح، مع تصديق القول بالعمل، وإبراز الاقتداء الحسن والتشبث بالسنن، والتوسط بين الجفاء والمخالطة، وإفادة الناس علماً وفقهاً وتوجيهاً.
وينبغي عليه: أن يجعل موضوع الخطبة مهماً ومفيداً، وأن يكون واضحاً مقنعاً، وأن يكون مؤكداً بالشواهد القرآنية والنبوية، والمواقف التاريخية المفيدة، وأن يتطابق مع عقولهم وأذواقهم، لكي يؤدي أثره ويحقق مقاصده.
وعلى الخطيب الناجح: الاعتماد على الله، وسؤاله التوفيق والسداد، والتجرد إخلاصاً وتوجيهاً ـ والإعداد المتقن ـ مع حسن الأداء، وملامسة حاجات الناس ورغباتهم ومشاعرهم، وإيجاد الحل الشرعي في كل الشكاوى والملمات.
وينبغي على كل خطيب أن يكون ذا مئنة من الفقه؛ فكلما قصرت الخطبة، وطالت الصلاة، زاد ذلك قناعةً برجاحة عقل الخطيب، ونباهته الفقهية، وأنه استطاع إيصال رسالته في وقت وجيز، وبدون إيغال ولا ثرثرة.
والخطيب أحوج ما يكون إلى دعم الناس، ومحبتهم، وتضامنهم. (فخير الكلام ما قلَّ ودلَّ) فهو القليل الدليل ، الحامل في طياته منابع الخير، ومنافع الرشاد.
وعليه أن يعتمد في خطبه على: القرآن الكريم، وكتب السنة، والسيرة النبوية، والنهج السلفي للصحابة وأتباعهم بإحسان، والثقافة العامة، والكتب المنبرية القديمة والحديثة، والكتب الموسوعية المتقنة.
إن أخطب الناس من يأسرهم بحديثه، ويسلبهم بصدقه، ويجمعهم بروحانيته، ويقنعهم بطرحه، ويغنيهم بعلمه، ويراعي أفهامهم ويلاحظ انتباههم وانصرافهم وهو قليل نادر، لكن بالصدق والجد، تذلل الصعاب وتتحطم المشاق.
فالخطيب الواعي يستشعر جهاده الخطابي، وأنه في معترك ساخن مع معالم الفساد، وبؤر الانحراف، وبراثن الفكر الأعمى والمتطرف، فيجب عليه التنبه والمواجهة بكل عزة وحزم، وصدق وتوكل .
والذي ينبغي أن يقوم بالخطابة ويتولاها هم العلماء، والمشايخ، والقضاة، والدعاة، وطلاب العلم، وهم بحمد الله كثيرون في بلادنا، وأغلبهم قائم بواجبه فعلاً.
ومن الضوابط المطلوبة في منهج الخطيب، التوجيه لما يلي:
1ـ أهمية اجتماع الكلمة ومنزلتها في الإسلام، مع ضرورة لزوم الجماعة والحذر من الفرقة.
2ـ إيضاح منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع أولياء الأمور، وبيان حقوقهم، ووجوب طاعتهم في المعروف.
3ـ تذكير المسلمين بأهمية الوسطية في الإسلام.
4ـ التحذير من فكر التكفير والتفجير، مع تعظيم حرمات الدماء المعصومة.
5ـ خطورة الغلو في الدين.
6ـ وجوب التمسك بالكتاب والسنة، وخاصة عند وقوع الخلاف، وموقف المسلم من الفتن وكيفية التعامل معها.
7ـ تقوية المواطنة الصالحة في ضوء تعاليم الإسلام.
8ـ بيان فضل العلم والعلماء وأثرهما في التربية والتوجيه.
10ـ بيان دور الجهات التعليمية في تربية النشء وحفظ الأمن.
11ـ ضرورة الأمن وأثره في حياة الناس.
فوصيتي لكل خطيب أن يحرص على رسم الطريق الصحيح للمسلمين، وتبصيرهم بوسطية الإسلام وسماحته وعدله، وأن يحذرهم من الفكر الضال، وأن يعلمهم أمور دينهم منتهجاً في ذلك طريق السلف الصالحين. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
14/ 6/ 1432هـ