خطبة بعنوان :(بعض مخالفات الجنائز) بتاريخ 10-4-1428هـ.

السبت 4 جمادى الآخرة 1440هـ 9-2-2019م

الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي قال في كتابه [وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا]، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتدى به واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً](الأحزاب:70، 71).

عباد الله:
الموت غاية كل حي [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ](آل عمران:185)، ومهما طال العمر فلابد من الفناء[كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ](الرحمن:26، 27).

لذا يتعين على الإنسان أن يستعد للموت وما بعده، بالعقيدة الصحيحة والعمل الصالح، وينبغي على المسلم أن يتفقه في أمور دينه وخاصة ما يتعلق بالاحتضار وغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وتعزيته.

عباد الله:
وإن من الظواهر المحمودة التي نراها في بلدنا خاصة ظاهرة اتباع الجنائز والاهتمام بترتيب القبور والعناية بها، وهذا يدل دلالة واضحة على حرص الناس على الخير، وهذا العمل يندر وجوده في البلدان الأخرى، وهذا مما يُحمد لرجال الحسبة الذين نذروا أنفسهم لهذا العمل الخيري التطوعي.

ولقد رأينا كثرة الناس الذين يصلون في المسجد على الجنازة، وفي المقبرة نرى من لم يصل بالمسجد على الجنازة واقفاً ينتظر لأداء الصلاة عليها، ثم يصلي مجموعة ثالثة على الميت في قبره بعد الدفن، وهذا يدل على محبة الناس للخير وحرصهم عليه، وتعاونهم في السراء والضراء، وترابطهم فيما يعود عليهم بالنفع في العاجل والآجل.

عباد الله:
لقد بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بكل ما فيه خير للعالمين، فعلمهم وأدبهم ووجههم، وأخذ بأيديهم إلى صراط الله المستقيم، فمن اتبعه سعد وفاز، ومن عصاه فقد باء بالخسران المبين، ولقد أمرنا الله تعالى باتباع أمره، واجتناب نهيه، وأمرنا بالإقتداء به في كل أمر ونهي، قال تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ](آل عمران:31)، و قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ](الأحزاب:21).

ومن صور اتباعه صلى الله عليه وسلم الإقتداء به في كل عبادة قولية أو فعلية أو تقريريه، ومن العبادات التي أمرنا بالإتباع فيها تغسيل الميت وتكفينه، والصلاة عليه، وحمل جنازته ودفنه، وحيث لاحظت فيها بعض المخالفات الظاهرة التي تحتاج إلى توجيه خلال حمل الجنازة ودفنها، لذا أحببت أن أبين لكم بعضها كي ننتبه ولا نقع فيها، فكل خير في اتباع هدي نبينا صلى الله عليه وسلم.

عباد الله:
لقد ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل يا رسول الله: ما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) يعني: من الأجر، وهذا يدل على شرعية اتباع الجنائز للصلاةوللدفن جميعاً لما في اتباعها من المصالح الكثيرة:

منها: أن ذلك يذكر بالموت ويذكر التابع بالاستعداد للآخرة، وأن الذي أصاب أخاه سوف يصيبه، فليعد العدة وليحذر من الغفلة.

ومن ذلك أيضا: أن في اتباع الجنائز جبراً للمصابين، ومواساة لهم، وتعزية لهم في ميتهم، فيحصل له بذلك أجر التعزية والجبر والمواساة لإخوانه.

ومن ذلك أيضا: أنه يعينهم على ما قد يحتاجون إليه في تغسيل ميتهم وحمله ودفنه.

وعلى كل تقدير فاتباع الجنائز فيه مصالح كثيرة، ولو لم يكن فيه إلا أنه يذكر بالموت وما بعده ويدعو إلى الاستعداد للآخرة والتأهب للقاء الله عز وجل لكان هذا كافياً، فكيف وفي ذلك مصالح أخرى، حيث يحصل له بالصلاة قدر قيراط وهو مثل الجبل من الأجر، وبالصلاة والدفن جميعاً مثل الجبلين العظيمين من الأجر ، وهذا فضل كبير وخير عظيم، روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل جبل أحد)، وفي هذا بيان أن هذا الإتباع يكون إيماناً واحتساباً، لا للرياء والسمعة ولا لغرض آخر، بل يتبع الجنازة إيماناً بأن الله شرع ذلك واحتساباً للأجر عنده سبحانه وتعالى.

عباد الله:
وإليكم بعض المخالفات التي تتكرر في بعض الجنائز:
* البعض إذا شارك في حمل الجنازة لم يُمَكِّن غيره من حملها مع أن من مصلحة الميت أن يكثر حاملوه.

* بعض ممن يحملون الجنازة يسرع بالجنازة سرعة زائدة فيسبب التعب والإجهاد لمن يتبعون الجنازة، وربما يتضرر بعض من يحملها بسبب ذلك، وإنما يسن الإسراع بالجنازة من غير مشقة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)(متفق عليه).

* ترك بعض الناس السلام على أهل القبور عند دخول المقبرة.

* بعض الناس يطئون القبور بأرجلهم ونعالهم عند المرور بين المقابر، أو حين دفن الميت.

* كثرة دخول السيارات في المقبرة من غير حاجة.

* بعض الناس ينزل في القبر لتلحيد الميت مع رغبة أهل الميت في أن يلحدوه.

* السنة لمن تبع الجنازة ألا يجلس حتى توضع من أعناق الرجال على الأرض.

* بعض الناس إذا كانت المتوفاة امرأة ينزل وهو من غير محارمها مع وجود من يلحدها منهم، وأولياء المتوفاة أحق بها لعموم قوله تعالى:[وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ](الأنفال:75).

* لا مانع إذا كان المتوفى امرأة وليس لها أولياء أن يتبرع أحد من غير محارمها بالنزول في قبرها ليقوم بتلحيدها، وإذا كان لها أولياء جاز له تلحيدها إذا أذنوا له، وقد وضع إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم في قبرها غير محارمها مع وجوده صلى الله عليه وسلم.

* الازدحام حول القبر أثناء الدفن مما يسبب الإزعاج والارتباك لمن يقوم بتلحيد الميت.

* كثرة الكلام والتوجيه لمن بداخل القبر حتى إن الذين يوجهون يختلفون فيما بينهم.

* عدم تمكين الحاضرين من المشاركة في الدفن، فالبعض يستعجل ويأخذ المسحاة ولا يُمَكِّن من يرغب المشاركة في الدفن.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ](آل عمران:185).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي كتب الفناء على عباده، والصلاة والسلام على من وصى بالإكثار من ذكر هادم اللذات وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين، وبعد:

فإكمالاً لحديثنا عن بعض المخالفات عند حمل الجنازة ودفنها، أقول وبالله التوفيق، ومن المخالفات:

* كثرة عبث الصغار بالمقبرة وخاصة عند وجودهم حول القبر حين دفن الميت، ووطئهم بأقدامهم لبعض القبور، فينبغي على أولياء أمورهم توجيههم وتعليمهم بضرورة السكينة والهدوء في هذا المكان.

* لا بأس بالموعظة عند القبر قبل الدفن وليست بدعة، ولقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة أنه وعظ الناس عند القبر وهم ينتظرون الدفن، وبذلك يعلم أن الوعظ عند القبر أمر مشروع قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما في ذلك من التذكير بالموت والجنة والنار، وغير ذلك من أمور الآخرة، والحث على الاستعداد للقاء الله، لكن لا يكون عادة متبعة، بل يكون عند الحاجة إليه.

* بعض الناس ينشغل بالحديث والسلام أثناء الدفن، والأولى تذكر الموت وما بعده.
* الضحك بصوت عال ، وعدم إغلاق أصوات الجوالات أثناء الدفن.

* يكره التحدث بأمور الدنيا أثناء الدفن، والضحك أشد كراهة لأنه يدل على الغفلة والإعراض عن الاتعاظ بالمصير المحتوم.

* عدم تمكين من فاتته الصلاة على الجنازة في المسجد أو في المقبرة من أدائها عند القبر بعد الدفن لكثرة الزحام حول القبر، والأولى لمن قام بدفن الميت أن يوسع لمن لم يصلي عليها.

* من حق أهل الميت التعزية في المقبرة أو في المسجد أو في البيت قبل الدفن وأثناءه وبعده، والأمر في ذلك واسع.

* المزاحمة عند تعزية أهل الميت، ولو اصطف أهل الميت من أجل أخذ التعزية فلا بأس.

* الأولى لمن حضر دفن الجنازة أن ينتظر حتى ينتهي من دفنها ثم يقوم بتعزية أهلها.

* لا تستحب المعانقة عند التعزية، ويكتفى بالدعاء أو المصافحة.

* عدم الاتعاظ من هذا الموقف والاعتبار بما يؤول إليه مصير كل منا، فنرى الكثير يخرج من المقبرة وكأنه لم يتأثر بما رآه في المقبرة من هول القبور ودفن الميت.

* بعض الناس يدخل المقبرة ويذهب ويسلم على أقارب الميت قبل دفن الجنازة فيفوته الأجر الذي اجتهد من أجل الحصول عليه، وفي هذا دلالة على أن التابع لا ينصرف حتى تدفن.

* يجوز الدفن في الليل أو النهار حسب التيسير باستثناء الثلاث ساعات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا كما جاء في حديث عقبة بن عامر وهذه الثلاث عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند قيامها حتى تزول.

* بعض الناس قد ينصرف من المقبرة عند وضع الجنازة في القبر وهذا خلاف المشروع، إذ المشروع أنه يبقى مع إخوانه حتى يفرغوا من دفنها، وقد روي أنه كان عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل)، فيشرع للمؤمن إذا تبع الجنازة أن يقف عليها بعد الدفن، ولا يعجل، يبقى معهم حتى يفرغوا من الدفن، حتى يستكمل الأجرين، أجر الصلاة، وأجر الإتباع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تبع جنازة مسلم فكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين كل قيراط مثل جبل أحد)(رواه البخاري).

ثم إذا فرغوا يستحب له أن يقف على القبر ويدعو للميت بالمغفرة والثبات؛ تأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) .

وفقنا الله وإياكم للعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله أسأل أن يحسن لنا ولكم الختام، وأن يغفر لجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب) أ.د. عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
الجمعة: 10-4-1428هـ