خطبة بعنوان:(حول الهجرة) بتاريخ 29-12-1427هـ

السبت 4 جمادى الآخرة 1440هـ 9-2-2019م

 

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،

.أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون وتلك وصية الله للأولين والآخرين[ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله].

عباد الله: لقد وقف المشركون أمام بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون قتله، فجاءه الوحي بذلك: [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] (الأنفال:30).

ورسولنا صلى الله عليه وسلم محفوظ بحفظ الله ورعايته، ولذا خاطبه خالقه بقوله:[ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] (المائدة:67).

فعصمه الله من المشركين، وخرج من بين صفوفهم، وحثا على وجوههم التراب وهو يتلو قوله تعالى: [وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ](يس:9).

ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هب كفار مكة مذعورين يطلبونه في كل مكان، وبعثوا القافة، ومن يعرفون الطرق، ورصدوا مئة ناقة لمن يأتيهم بخبره حياً أو ميتاً، لكن أمر الله نافذ، وتتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتقلون من مكة إلى المدينة لحوقاً برسولهم صلى الله عليه وسلم الذي يفدونه بأنفسهم وأموالهم.

عباد الله: لقد كانت هجرة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بسبب الفتنة العظيمة التي تعرض لها المسلمون والاستضعاف الذي لحق بهم من الكفار خلال ثلاثة عشر عاماً، وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن من ربه له باللحوق بأصحابه حتى جاءه الأمر، فهاجر والتجأ هو وصاحبه أبو بكر إلى الغار، وحينما شعر أبو بكر بدنو الباحثين عنهم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هامساً: لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بيقين وثبات: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، ونزل الوحي:[ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ](التوبة:40)
.
عباد الله: وانطلق النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه أبو بكر يقطعان بطون تهامة في ليل دامس، وقيظ محرق تتلظى له رمال الصحراء لا يعبئان بآلام السفر وعنائه، ولا يكترثا بالمشاق والصعاب إذ يهون كل شيء من أجل الدين، وكان أهل المدينة يتحرقون شوقاً إلى مقدم الهادي الأمين بعد أن علموا بهجرته من مكة إليهم، كانوا يخرجون كل يوم من بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس ويشتد الحر ثم يرجعون إلى بيوتهم.

وقد وصل الحبيب صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى قباء وأسس مسجدها الذي قال الله فيه:[لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ](التوبة:108).

ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أحاط به المسلمون من كل جانب في موكب بهيج يشعر بالعزة، القلوب ممتلئة بشراً، والسيوف متقلدة، والأرواح متوثبة يعلنون أنهم يفدون رسول الله بأنفسهم وأولادهم وأموالهم.

عباد الله: وقد بدأ رسولنا صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فلم يشعر المهاجر الذي ترك بلده وأهله وماله بالغربة لأنه وجد الأهل والبلد والمال من إخوانه الأنصار، وقد أثنى الله على الأنصار في موقفهم الرائد الذي أصبح مضرب المثل، قال تعالى:[وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ](الحشر:9).

وقد تنادى الصحابة في مكة للهجرة وتركوا كل شيء من أجل الدين والدعوة حتى كان من صهيب رضي الله عنه ما كان حين قال لكفار مكة: أرأيتم إن تركت لكم كل مالي أتتركوني؟ قالوا: نعم، فأعطاهم كل شيء، ولذا قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ربح صهيب؛ ربح صهيب، ونزل فيه[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ](البقرة:207).

وهكذا انتقل ميدان الدعوة من مكة إلى المدينة في أرض خصبة قابلة للعطاء والنماء.
لقد كانت الهجرة انطلاقاً إلى حياة أرحب وفيها تمكين لمبادىء الحق والعدل والسلام، تجلت فيها صور التضحية، والبذل، والفداء، وصور التلاحم والإخاء، وصور الإيثار والمودة، وفيها صور الإخلاص والصدق والوفاء، وتجلى في الهجرة حفظ الله جل وعلا لأوليائه مهما كان ليل أهل الباطل طويلاً.

لقد اشتعلت في الهجرة الروحانيات على الماديات، لقد كان فيها الجود في أعلى مظاهره، ترك المهاجرون وطنهم مع ما للوطن من المكانة في النفس لكن من أجل الدين يهون كل شيء، وترك الأنصار أموالهم لإخوانهم المهاجرين، والمال عديل الروح، لكن من أجل الدين هان عندهم كل شيء.

عباد الله: هذه نماذج من دروس الهجرة فهل يعي شباب اليوم ما قدمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من تضحيات من أجل الدين؟ هل يعي شباب اليوم ما للوحدة من أثر في رد كيد كل متربص غادر؟ هل يعي شباب اليوم ما تتطلبه المرحلة الحاضرة والقادمة من رص للصفوف وتوحد مع ولاة الأمر لصد عدوان كل متربص ببلادنا شراً؟ هل يعي شباب اليوم أن الذين شوهوا صورة الدين، وفجروا أنفسهم، ودمروا اقتصاد بلادهم، وقتلوا رجال الأمن أن ذلك كله يخدم الأعداء ويسهل لهم النيل من الإسلام والمسلمين اللهم وفق شبابنا لكل خير وخذ بأيديهم لما فيه عز دينهم وسلامة بلادهم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم..

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله جل وعلا جعل نبينا خاتم الأنبياء، وجعل ديننا خاتم الأديان، وأكملها قال تعالى:[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً](المائدة:3). هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن وفيها بيان أن الله أكمل هذا الدين، فليس بحاجة إلى أحد يشرع شيئاً ويلزم الناس به إلا ما كان له صلة بتشريعات الإسلام.

عباد الله: في كثير من الأحيان تروج البدع ويكون قصد مروجيها حسناً، لكنهم يضرون أنفسهم ويضرون غيرهم، وفي كل عام في آخره تحدث بعض الاجتهادات حتى تصل إلى حد البدعة، وهذا من جهل الناس، وانطلاقهم من العواطف والحماس غير المنضبط.

فهناك من ينشر أقوالاً وأفعالاً يظن أن فيها مصلحة وخيراً للناس لكنه في واقع الحال أن هذه الأمور معدودة من البدع، ولذا ينبغي على الإنسان ألا يقدم على شيء ليس له مستند شرعي حتى يسأل عنه أهل العلم.

عباد الله: وإن مما استوقفني هذه الأيام بعض رسائل الجوال التي كثرت مثل: ختم العام بالاستغفار، وختم صحيفة العمل بالصيام والدعاء، ومثل بدء صحيفة العام الجديد بالعمل الصالح، أو يقول في آخر يوم من العام: أرجو أن تسامحني وأن تعفو عني، ويرسل هذه الرسائل لأقوام لا يعرفهم.

والأدهى والأمر أن يقول: (لأني أحبك أمانة في رقبتك أن تصلي على محمد عشر مرات وترسلها لغيرك وستسمع خبراً سارا)، أو يقول: (قل لا إله إلا الله عشر مرات وأرسلها لعشرة أشخاص)، أو يقول: (حاسب نفسك في آخر جمعة، فما تدري هل تصلي جمعة أخرى أم لا).

أيها المؤمنون: هذه الكلمات في أصلها لا شيء فيها، لكن تقييدها بزمن أو مكان هو الممنوع، والقاعدة عند أهل العلم: (أن تقييد العبادة بزمن أو مكان لم يرد فيه نص شرعي يعتبر من البدع).

إن انتشار البدع ورواجها حصل بمثل هذا الحماس وتلك العواطف التي لم تلجم بلجام الشرع، فلينتبه العقلاء وليحذروا عواطف الجهلاء وحماس الشباب غير المنضبط.

بالأمس أُرسلت إليّ أكثر من رسالة من هذا النوع، ثم أتصلُ مباشرة بمن أرسلها وأخوفه بالله تعالى، وأقول له: هل لك سلطة تحملني أمانة؟ وما هو مستندك الشرعي؟ وكلهم يتراجع ويستغفر، ويقول: ظننت أن في ذلك أجراً.

فتعاونوا أيها المؤمنون على الخير ووضحوا الأمر للجهلاء، وعلى طلاب العلم أن يجلَّوا الأمر في دروسهم ومجالسهم وخطبهم لعل الله أن ينفع بالأسباب.

وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة محمد بن عبد الله، اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارضى اللهم عن أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.

اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا وأمننا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يارب العالمين.

اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، اللهم أمده بعونك وتوفيك، واجعل عمله في رضاك يا أكرم الأكرمين، اللهم أصلح له البطانة، واصرف عنه بطانة السوء يارب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد …………

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

أ.د. عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
خطبة يوم الجمعة
الموافق: 29-12-1427هـ