خطبة بعنوان: (حفظ العرض وضرورته لسلامة المجتمع) 30-3-1430هـ.

الأحد 5 جمادى الآخرة 1440هـ 10-2-2019م

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.

عباد الله: إن هزائم الأمم وانتكاسات الشعوب لا ترجع إلى الضعف في قواها المادية ولا في معداتها الحربية، ومن ظن هذا ففكره قاصر ونظره سقيم، إن الأمم لا تعلو ــ بإذن الله ــ إلا بضمانات الأخلاق الصلبة في سير الرجال والنساء.

بل إن رسالات الله ما جاءت إلا لتحض على مكارم الأخلاق وإتمامها بعد توحيد الله وعبادته، قال (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)(رواه ابن سعد، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم2349)، فالأخلاق الفاضلة تقوى بها المجتمعات، ويضعف أمامها العدو، وينهار أمامها أهل الشهوات والنزوات.

عباد الله: حينما يكون المجتمع قوياً في نظام أخلاقه وضوابط سلوكه، غيوراً على كرامة فرده وأمته، مؤثراً رضا الله على نوازع شهواته، حينئذ يستقيم مساره في طريق الحقِ والرفعةِ والإصلاحِ. والأخلاقُ ليست شيئاً يُكتسب بالقراءة والكتابة، ولا بالمواعظ والخطابة، ولا بغيرها، لكنها تنال بعد توفيق الله ورحمته بالتربية والتهذيب، والصرامة والحزم، وقوة الإرادة والعزم، وما حصل من تدنٍ في الأخلاق كان السبب فيه البعد عن دين الله والتفريط في تطبيق أوامره.

عباد الله: إن الناظر في أحوال الناس اليوم يجد البعض منهم لا يهتم بمسألة العرض على الرغم من أهميته وضرورته وخطورته، وكيف لا وقد وجه القرآن الكريم عباده إلى الحذر من الوقوع في أعراض الناس والاعتداء على محارمهم، قال تعالى{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}(الأحزاب)، وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(النور)، وقال {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً..}(الحجرات)، وقال (المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه..)(رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم6706). وهذه النصوص وغيرها كثير تدل على عظم شأن العرض وأهميته لدى المسلم، والغيرة على الأعراض، وحماية حمى الحرمات دليل على قوة الإيمان وصلابة الأخلاق وتماسك المجتمع.

عباد الله: إن كل امرئٍ عاقلٍ، بل كُل شهمٍ فاضلٍ لا يرضى إلا أن يكون عرضه حرماً مصوناً لا يرتع فيه اللامزون ولا يجوس حماه العابثون، إن كريم العرض ليبذل الغالي والنفيس للدفاع عن شرفه، وإن ذا المروءة الشهم يقدم ثروته ليسد أفواهاً تتطاول عليه بألسنتها أو تناله ببذيء ألفاظها ليصون عرضه، بل لا يقف الحد عند هذا فإن صاحب الغيرة على عرضه ليخاطر بحياته ويبذل مهجته ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يُرجم بشتيمة تلوث كرامته، يهون على الكرام أن تصاب الأجسام وتسيل الدماء؟ لتسلم العقول وتحفظ الأعراض. وقد بلغ ديننا في ذلك الغاية حين أعلن نبينا محمدٌ بقوله (ومن قتل دون أهله فهو شهيد)(رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني في الإرواء ج3 رقم708 ).

عباد الله: بصيانة العرض وكرامته يتجلى صفاءُ الدين وجمالُ الإنسانية، وبتدنُّسهِ وهوانهِ ينزل الإنسان إلى أرذل الحيوانات البهيمية. يقول ابن القيم رحمه الله: (إذا رحلت الغيرة من القلب ترحلت المحبة، بل ترحل الدينُ كلُّه).

ولقد كان أصحاب رسول الله من أشد الناس غيرةً على أعراضهم. فقد روى البخاري ومسلم عن المغيرة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة لو رأيتُ رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفَّح فبلغ ذلك رسول الله فقال أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرَّم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن)(متفق عليه)، وفي رواية: (قال سعد بن عبادة يا رسول الله لو وجدتُ مع أهلي رجلا لم أمسَّه حتى آتى بأربعةِ شهداء قال رسول الله « نَعَمْ ». قال كلا والذي بعثك بالحق إن كنتُ لأعاجله بالسيف قبل ذلك. قال رسول الله «اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير منى»(رواه مسلم). فمن حُرم الغيرةَ حُرم طُهرَ الحياة، ومن حُرم طُهر الحياة فهو أحطُ من بهيمة الأنعام،ولا يمتدح بالغيرة إلا كرام الرجال وكرائم النساء.
إن الحياة الطاهرة تحتاج إلى عزائم الأخيار، وأما عيشةُ الدعارة فطريقُها سهلٌ الانحدار والانهيار، وبالمكاره حُفَّت الجنةُ، وبالشهوات حفَّت النيرانُ.

عباد الله: إن الأسف كل الأسف والأسى كل الأسى فيما جلبته مدنية هذا العصر من ذبح صارخ للأعراض ووأد كريه للغيرة، تُعَرضُ تفاصيلُ الفحشاء من خلال وسائل إعلام متنوعة، بل إنه ليُرى الرجلُ والمرأةُ يأتيان الفاحشةَ وبواعثَها ومثيراتها، يُشاهدان وهما يعانِقانِ الرذيلةَ غير مستورين عن أعين المشاهدين.

فأين من يفتح بيتَه لتلك المفاسد والشرور؟ هل ذهبت من النفوس الغيرةُ؟ وهل غاض ماؤها؟ وهل انطفأ بهاؤها؟ هل هناك من يُقر الخبثَ في أهله؟

إعلانٌ للفحشاء بوقاحة، وإغراقٌ في المجون بتبجح، أغانٍ ساقطة، وأفلامٌ آثمة، وسهراتٌ فاضحة، وقصصٌ داعرة، وملابسُ خليعة،وحركاتٌ مثيرة، وعباراتٌ فاجرة، ما بين مسموع ومقروء ومشاهد في صور وأوضاع يندى لها الجبينُ في كثيرٍ من البلاد والأصقاع إلا من رحم الله، على الشواطئ والمنتزهات، وفي الأسواق والطرقات. ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل.

عباد الله: إن هناك أناساً يفرحون بالمنكر، ويودون لو نبتَ الجيلُ كلَّه في حمأة الرذيلة، وهناك فئات تود لو انهال الترابُ على الفطرة المستقيمة والحشمة الرفيعة. ما هذا البلاء الذي تتقطع منه قلوبُ الصالحين؟ كيف يستسيغ ذو الشهامة من الرجال والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم ولفتيانهم ولفتياتهم هذا الغثاءَ المدمرَ من ابتكارات البثِ المباشرِ وقنواتِ الفضاءِ الواسع؟

أين ذهب الحياءُ؟ وأين ضاعت المروءةُ؟ أين الغيرةُ من بيوت هيِّأتْ للناشئةِ أجواء
الفتنة، وجرَّتها إلى مستنقعاتِ التفسخ جراً وجلبتْ لها محرِّضات المنكر تدفعها إلى الإثم دفعاً، وتدعها إلى الفحشاء دعَّا؟

عباد الله: إن ما رآه وسمعه كثيرٌ من المسلمين من بعض القنوات و الإذاعات حول موضوع الابتزاز، ووقوع بعض الفتيات في الفواحش، وخراب كثير من البيوت بالطلاق بسبب الخيانات الزوجية، وغير ذلك من الصور ليدل دلالةً واضحةً على ضعف وازع الإيمان والغيرة على الأعراض وتفريط كثير من الأولياء في حفظ أعراضهم وصيانتها، وهذا الأمر إن لم يتداركه الناسُ جرَّ الأمةَ إلى الهاوية والعياذ بالله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(النور).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فاتقوا الله يا عباد الله واعلموا أن طريق السلامة ــ بعد الإيمان بالله ورحمته وعصمته ــ ينبع من البيت والبيئة. فالبيئةُ الطيبةُ تنبت فيها النبتةُ المؤمنةُ الكريمةُ والتي تظللها العفةُ والحشمةُ، والبيئةُ الخبيثةُ تنبت النبتةَ القبيحةَ والتي ملؤها الفحشاء والمنكر. وكل إناء بما فيه ينضح، فإنْ خيرا فخير، وإنْ شراً فشر، وخير من ذلك قوله تعالى {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}(الأعراف).

عباد الله: اعلموا أنه لن تُحْفَظ المروءةُ ولن يَسلم العرضُ إلا حين يعيش الفتى والفتاة في بيت فاضل محفوظٍ بتعاليم الإسلام وآداب القرآن، ملتزمٍ بالستر والحياء، تختفي فيه المثيراتُ وآلاتُ اللهو والمنكر، ويتطهرُ من الاختلاط المحرَّم.

فاتقوا الله يا عباد الله، واحذروا من تلك الفتن الهوجاء، واعملوا على تحصين أولادكم منها، واحذروا من الانخداع بتلك المؤثرات التي تبثُّ ليلا ونهارا لتجر الناس إلى الفواحش والآثام، وتهوي بهم في النيران، وتأملوا معي كيف تتعاون الأقلامُ الساقطةُ، والأفلامُ الهابطةُ، لتمزق حجابَ العفة، ثم تتسابقُ وتتنافسُ في شرح المعاصي وفضح الأسرار وهتكِ الأستار وفتحِ عيون الصغار قبل الكبار، { أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ }(الأنعام)،ألم يقل النبي المعصوم (حُجِبتْ النَّار بالشهواتِ)(رواه البخاري)

عباد الله: إن المسلم إذا لم يغار على عرضه فليعلم أن الله يغار؛ فلا أحد أغير منه سبحانه من أجل ذلك حرَّم الفواحش،وربُّكم سبحانه يمهل ولا يهمل، وإذا ضُيِّعَ أمرُ الله فكيف تستنكر الخياناتِ، وحالات الاغتصاب، وجرائمِ القتل وألوانِ الاعتداء؟

إذا ضُيِّع أمرُ الله طَفَح المجتمعُ بنوازع الشر، وامتلأَ بدوافع الأثرة، وتولدت فيه مشاعر الحسد والبغضاء، ومن ثمَّ، قلَّ ما ينجو من فساد وفوضى وسفك دماء، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ* أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد). إن المجتمع البريء والبيتَ الطاهرَ الذي يشب فتيانُه وفتياتُه على التقوى والإيمان، وكريم الأخلاق لجدير أن يحفظه الله تعالى وأن يباركَ فيه، والعكس صحيح.

عباد الله: إن في ظلال الفضيلة عفةً وأماناً، وفي مهاوي الرذيلة ذلة وهوان، والرجل هو صاحب القوامة في الأسرة، وإذا ضعف القوَّام فسد الأقوام؟ وإذا فسد الأقوام خسروا الفضيلة وفقدوا العفة وتاجروا بالأعراض وأصبحوا كالمياه في المفازات يَلَغُ فيها كلُّ كلبٍ ويكدِّر ماءها كلُّ وارد.

وانظروا إلى هذا الموقف الذي وقفه ذلك الشاب حين أراد الوقوع فيما حرَّم الله، فجاء إلى النبي وقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فأقبل عليه الناس يزجرونه، ــ نعم حق لهم أن يزجروه وهل هذا طلب تقبله الفطر السليمة؟ ــ ولكن الرسول أدناه من مجلسه ثم قال له: (أتحبه لأمك؟ قال لا والله، جعلني الله فداك، قال رسول الله ولا الناس يحبونه لأمهاتهم،قال: أتحبه لابنتك؟ قال: لا، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، ولم يزل النبي يقول للفتى أتحبه لأختك، أتحبه لعمتك، أتحبه لخالتك، كل ذلك والفتى يقول: لا والله، جعلني الله فداك. فوضع النبي يده على صدره وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه)، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.(رواه أحمد، وصححه الألباني في الصحيحة 1/712 رقم370). فأين هؤلاء الشبابُ والفتيات الذين سقطوا في مهاوي الرذيلة ومستنقع الشهوات؟ أين هم من هذا الموقف العظيم ليطبقوه على أنفسهم وليدرءوا بها عن براثن أهل الفساد والضلال.

عباد الله: على المسلمين جميعاً أن يراجعوا أنفسهم، ويخشوا ربهم، ويعوا مسئولياتهم تجاه أنفسهم وأهليهم وأولادهم، فاليوم إن لم نتعاون جميعاً على حفظ أعراضنا من الملوِّثات المحيطة بنا فَسَدَ المجتمعُ واعترتْهُ الأمراضُ والأسقامُ، وتسلط عليه أعداءُ الله، وحقَّ علينا سخط الله وأليمُ عقابه.

أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظ أعراضنا وأعراض المسلمين، وأن يهدي شبابنا وبناتِنا لما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب).

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 30-3-1430هـ