خطبة بعنوان: (الصديق الوفي) بتاريخ 11-11-1430هـ

الأحد 5 جمادى الآخرة 1440هـ 10-2-2019م

الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل في كتابه الكريم: [الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ](الزخرف: الآية67) ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله القائل في سنته الغراء (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)(رواه أحمد، وخرجه الألباني في المشكاة (ج3 رقم5019) وقال حديث حسن غريب)، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وراقبوا ربكم واحمدوه واشكروه فإنه يعلم السر وأخفى أيها المؤمنون اعلموا رحمكم الله أن من الأمور الفطرية التي فطر الله الناس عليها الصحبة والمجالسة فلا بد للمرء في هذه الحياة من جلساء وأصحاب ويستحيل في العادة أن يعيش المرء بمعزل عن الآخرين لا بد أن يتحدث مع الناس ويتحدثون معه يشكو إليهم ويبث لهم همومه وأحزانه ويعلن لهم أسراره وأحواله وليس ذلك لكل الناس لكن لطائفة منهم يكونون قريبين من نفسه ومن الثابت أن الصديق من ضرورات الحياة وطبائع البشر التي جبلوا عليها ومن ظن أنه يستغني عن صديق فظنه خاطئ وكل صديق على مشرب صديقه والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
والصديق الحقيقي هو أنت لكنه غيرك وقد جاء في قصة إقطاع أبي بكر طلحة أرضاً وامتناع عمر عن ختم الكتاب فذهب طلحة إلى أبي بكر وقال والله ما أدري أأنت الخليفة أم عمر فقال أبو بكر بل عمر لكنه أنا.
أيها المؤمنون الصداقة مشكلة معقدة ومعضلة غامضة يرجع تعقيدها وغموضها إلى أن الناس مختلفون في الأجناس والعناصر والغرائز والطباع والمنازع والمشارب والميول والأهواء والعواطف والعقول والنشأة والتعليم وقلما تجد في الناس على كثرتهم شخصين متفقين في جميع الصفات يناسب بعضهم لبعض ليكونوا أصدقاء ولذا اعتبروا الصديق الوفي من أندر الأشياء بل عده بعضهم من المستحيلات فقالوا المستحيلات ثلاثة الغول والعنقاء والخل الوفي.
أخي المبارك احرص على الجليس الصالح فله آثار عليك من حيث تشعر أو لا تشعر يقول الإمام الأوزاعي رحمه الله (الصاحب للصاحب كالرقعة للثوب إن لم تكن مثله شانته).
وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير)(متفق عليه).
ولما سئل رسولنا صلى الله عليه وسلم عن خير الإخوان قال: (خير إخوانكم الذي يذكر كم بالله رؤيته ويزيد في علمكم قوله)(رواه أبو نعيم في حلية الأولياء 7/46).
أيها الشاب قل لي من تصادق أقل لك من أنت فمن صاحبته اليوم سيكون أثره عليك ظاهراً واضحاً في مستقبل أيامك.
فاحرص على الصاحب الصادق الصديق الصدوق العاقل حسن الخلق المستقيم واحذر أن يكون فاسقاً أو مبتدعاً وإليك صفات استمسك بها وزن بها أصدقاءك في سائر أحوالك وأطوارك:
الأولى: أن يكون الصديق ذا دين واستقامة قال بعض السلف: (اصطف من الإخوان ذا الدين والحسب والرأي والأدب فإنه ردء لك عند حاجتك ويد عند نائبتك وأنس عند وحشتك وزين عند عافيتك).
الثانية: أن يكون عاقلاً فإن العقل رأس المال والصديق الأحمق يفسد أكثر مما يصلح ويضر أكثر مما ينفع فكم من صديق أحمق أورد صديقه موارد الهلاك بمشورة في غير مكانها ولذا قيل كم كلمة قالت لصاحبها دعني وقيل إياك وما يعتذر منه وقيل الكلام كالملح في الطعام.
الثالثة: أن يكون محمود الفعال مرضي السيرة آمراً بالخير ناهياً عن الشر بعيداً عن مواقع الخصام والخلاف فهذا الصديق يجرك بإذن الله إلى ساحل الأمان ويبعدك عن الغرق فيما يغرق فيه الناس عادة.
الرابعة: ألا يكون فاسقاً يقع فيما حرم الله لأن مثل هذا لا تؤمن بوائقه وتكثر خيانته وسرعان ما يتغير بتغير الأهواء والأغراض والمطامع وبالتالي لا يوثق بصدقه وتضر صداقته.
الخامسة: ألا يكون مبتدعاً لأن المبتدع خطره عظيم وسرعان ما يحرف من يجالسه إلى البدعة ويجره إلى الانحراف فيسلك طريقاً وعراً قد ينتهي به إلى المهالك ولله در عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يقول: (عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم فإنهم زين في الرخاء وعدة في البلاء ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ولا تطلعه على سرك واستشر في أمرك الذي يخشون الله)(رواه البيهقي في شعب الإيمان (6/323 رقم 8345).
أيها المؤمنون هذه صفات الصديق الذي ينبغي أن نحرص عليه فيكون متصفاً بخلاصة المحامد والمكارم يأمر بالبر ويدعو إلى الخير يغفر زلاتك ويستر عوراتك ينشر محاسنك ويدفن مساوئك إن رآك معوجاً قومك وإن رآك معتدلاً شجعك إن أخبرته صدقك وإن سألته أعطاك وإن دعوته أجاب دعوتك رقيق في عتابه رفيق في عقابه يقدمك على نفسه عند التزاحم، فلا يشبع وأنت جائع ولا يلبس وأنت عريان هذا هو الصديق الوفي رزقنا الله وإياكم أمثال هؤلاء.
وصدق الله العظيم: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (التوبة: الآية71).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق عباده فسواهم وهداهم فمنهم من أطاع وأجاب فسعد في الدنيا والآخرة ومنهم من ضل وحاد عن الطريق فخسر في الدنيا والآخرة وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أوفى الناس وأصدقهم وأخلصهم وأصفاهم لأصحابه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاعلموا أيها المؤمنون أن الصديق السيء تظهر آثاره في الدنيا قبل الآخرة ولذا جاء التحذير منه في كتاب الله وسنة رسوله وأكثر العلماء من ذمه والتحذير منه قال الله تعالى: [وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً](الفرقان: الآية 27).
وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير)(متفق عليه).
وقال لقمان لابنه وهو يعظه: (يا بني إياك وصاحب السوء فإنه كالسيف المسلول يعجبك منظره ويقبح أثره يا بني ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا الأخ إلا عند الحاجة).
أيها الشباب إن مصاحبة الأشرار مصيبة كبيرة لأن الشاب إما أن ينساق معهم إلى مواقع الإثم ومواطن الريب فتمسه نار المعصية في الدنيا وإما أن يناله خبيث رائحتهم ونتن سيرتهم فيجد ما يؤذيه من القول والعمل وقل من يسلم ما دام يعيش في هذا المستنقع الآسن وكم هلك بسبب مصاحبة الأشرار من أقوام وكم وقع في المعصية من شباب كانوا مستقيمين فجالسوا أهل السوء الذين يريدون تكثير سوادهم من أين جاءت الفواحش والمنكرات وكيف انتشرت المخدرات ولماذا أصبح الشباب الصغار يجتمعون في الاستراحات مع أشخاص كبار يزينون لهم كل رذيلة ويبعدونهم عن كل فضيلة ويكسرون حواجز الخير التي اكتسبها هؤلاء الصغار من بيوتهم وأهليهم.
إن القرناء يستلبون عقول من يقارنون ويوجهونهم حيث يرغبون وكم تلاوم وندم قرناء السوء بعد وقوع المصيبة ولكن لا ينفع الندم ولا التلاوم ففر أخي الشاب من قرين السوء فرارك من المجذوم المصاب بمرض الشبهة ومرض الشهوة واحذر أن يعديك بما عنده فتخسر الدنيا والآخرة.
عباد الله وكم كانت الصداقة النفعية التي تقوم على الربح والخسارة ميداناً للمنافسة لدى المنتفعين الذين لا يهمهم صلاح الصديق وفساده بل أكبر همهم ما يحصلون عليه من ورائه من المنافع والمصالح الدنيوية ولذا تكون هذه الصداقة قصيرة لا محالة.
فالصديق النفعي لا ينظر إليك إلا كما ينظر الفلاح إلى بقرته والجمال إلى بعيره إذا لم يستفد منه أضعاف ما ينفق عليه فإنه لا يكرمه ولا يأبه به وقس أيها المسلم واقعك على أصدقائك وانظر إليهم عند حاجتك التي تكون في مقدورهم وقارن بين ما يأتيك من الخير عن طريقهم وما يأتيك من الشر هل المجالس عامرة بالذكر والخير أم أنها عامرة بالقيل والقال والغيبة والنميمة هل يجرونك للمعاصي أم يبعدونك عنها وعلى ضوء ذلك تعرف من هو الصديق المحب ممن يلبس ثياب الصديق وهو عدو.
وصدق الله العظيم: [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً](الكهف: الآية 28).
هذا وصلوا وسلموا على رسولكم نبي الرحمة سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم أدم علينا نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام. اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا لكل خير اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة التي تعينهم على الخير وتدلهم عليه.
[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] (البقرة: الآية 201).
عباد الله [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](النحل: الآية 90) ــــ وأقم الصلاة ـــ.

الجمعة :11-11-1430هـ