خطبة بعنوان: (التفكّر في خلق الله) بتاريخ 27-4-1432هـ.

الأحد 5 جمادى الآخرة 1440هـ 10-2-2019م

 

الخطبة الأولى:
الحمد لله الخالق العليم، المدبر الحكيم، خلق كل شيء ودبره، وبرأ كل موجود وسيره، وأبدع خلق الإنسان وصوره، وأشهد أن لا إله إلا الله لا يعزب عن علمه شيء في أي زمان ومكان، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله اختاره الله واصطفاه، واجتباه، وهداه، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ](آل عمران الآية102).
عباد الله يقول الله جل وعلا [وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ](الذاريات: الآية21).
ويقول تعالى [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ](الطور: الآية35).
ويقول تعالى: [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ](آل عمران: الآية6).
فيا أيها الإنسان فكر في خلقك، ووجودك، وفي إبداعك وتكوينك، كيف تكونت؟ ومن أي شيء خلقت؟ وكيف تركبت؟ وما هي أطوار خلقك؟ ومن أين تغذيت؟ كل ذلك لتعبد ربك حق عبادته، وتؤمن به إيماناً لا يقبل الشك؛ فأنت مخلوق لعبادة الله، قال تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ](الذاريات: الآية56).

أيها الإنسان لقد خلقت من ماء وطين، فهما مادة حياتك، وفيهما تتغذى لعيشك، تتغذى بالماء لما فيه من المنافع، ولأجل الري ودفع العطش، وتتغذى بما ينتجه الطين من حبوب، وثمار، وفاكهة، وخضار، وغير ذلك مما سخره الله لك طعاماً لذيذاً، يسره الله لك بأيسر السبل، وأسهل الطرق، تُتابع تكوَّنه من بداية بذره إلى نهاية قطفه، منه المطبوخ، ومنه الجاهز للأكل، فسبحان من تفرد بالخلق والتكوين.
تأمل أيها الإنسان من الذي خلق لك عينين بَّراقتين تدر كان المبصرات بألوانها وأشكالها وأحجامها، وجعل لهما غطائين من الأجفان، وسياجاً من الأهداب تحفظهما من الغبار، وتصونهما من الأضرار.
وتأمل كذلك من الذي شق لك الأذنين بغضاريف، وتعاريج تتلقفان المسموعات من الأصوات، وصدى الحركات، فتميز الأذن مصدر هذه الأصوات ووجهتها.
وتأمل كذلك من الذي فتح لك في الأنف قناتين لجلب الهواء النقي، وشم الأشياء المخالفة، فتميز الرائحة الحسنة من الرائحة القبيحة النتنة.
وتأمل كذلك من الذي شق فمك؟ فجعل فيه الشفتين، واللسان، والأضراس، والأسنان، لتأكل به ما تشاء وتتكلم به ما تريد.
لقد كنت أيها الإنسان في بطن أمك جنيناً، لا تبدي كلاماً، ولا تأكل طعاماً، ولا تعرف من دنياك شيئاً، ثم ولدتك أمك، فجئت إلى دار تجهلها، وحياة لا تعرف فيها شيئاً، فمن الذي هداك لالتقام ثدي أمك بفمك لتمص منه اللبن، ذلك الغذاء النقي الهني والخالص الصافي.

أتدري أيها الإنسان من الذي فعل ذلك ورتبه ونظمه؟ إنه الله الذي أنشأك، وخلقك، وسواك، ويسر لك ذلك كله وهداك.
وصدق الله العظيم: [أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ](البلد الآيات: 8، 9، 10).
أيها المخلوق الضعيف من الذي جعل الرئتين في انتفاخ وانكماش لتأخذا ما ينفع من الهواء، وتطرحا ما يضر ويجر إلى البلاء.
تأمل أيها المخلوق من الذي جعل لك الكليتين تصفيان السوائل البولية وتطرحان الرواسب التي تحمل السموم ويضرك انحباسها.
وتأمل أيها المخلوق من الذي جعل في بدنك كله تلك الشرايين والأوردة لتكون أنابيب لمجرى الدم إلى سائر أجزاء الجسم وأطرافه، وجعل لك هذا القلب النابض العجيب الذي يعتبر هو المحرك الرئيسي للدورة الدموية فهو دائم النبض يدفع الدم باستمرار، لا يفتر ليلاً ولا نهاراً، وإذا ضعف نبضه وقل دفعه فذلك علامة على خلل فيه، وصدق الله العظيم: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ](التين: الآية4).

أيها المخلوق الضعيف تفكر في خلق أمعائك ومعدتك التي فيها ومنها ينتقل الطعام ويتم هضمه، ثم يصفى ويتحول إلى منافع غذائية، وما زاد يخرج لئلا يضرك حبسه، إنه معمل دقيق التركيب كثير الخصائص لا يستطيع البشر مهما كانت قدراتهم أن يدركوا أسراره وأبعاده، طعام يدخل مع الفم يكون حظ الإنسان منه الشهوة واللذة، ثم يأخذ دورته فيهضم ويمزج ويصفى ويستخلص، وكل هذا يتم من غير علم الإنسان ولا إرادته. فسبحان من أجراه وخلقه على هذا التركيب البديع والنظام الدقيق.
وتأمل أيها المخلوق في هذا الدماغ العجيب، وتلك الذاكرة القوية، والسجل لجميع المعلومات ليتم تصنيفها، وحفظها، وضبطها، وترتيبها، واستحضارها عند الحاجة إليها، وصدق الله العظيم: [الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى](الأعلى: الآيتان 2، 3).
وتأمل أيها المخلوق نعمة العقل الذي به تعقل الحق، فتثبت عليه، وبه تعقل وظيفتك التي خلقت من أجلها فتحافظ عليها، وبه تتميز عن البهائم التي لا هم لها إلا بطونها، وصدق الله العظيم: [وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ](الأعراف الآية179).

قال ابن القيم رحمه الله (مفتاح دار السعادة ص237)(وهذا كثير في القرآن يدعو العبد إلى النظر والفكر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه وهو غافل عنه، معرض عن التفكر فيه، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره قال تعالى: [قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ *ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ](عبس: الآيات17، 18، 19، 20،21 ، 23).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم واستغفروا اله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى القائل سبحانه [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ](أنعام الآية 38)، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فيقول الله جل وعلا [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ*ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ](المؤمنون: الآيات12، 13، 14).
هذه الآيات توضح أطوار خلق الإنسان والمراحل التي مر بها ودقتها فسبحان من ركبه كامل الحواس تام الخلقة والأعضاء قوياً قادراً ثم دعاه للتأمل والتفكر في خلقه.

أيها المؤمنون حق على كل مسلم أن يشكر هذه النعمة العظيمة، فكم من إنسان حرم هذه الأعضاء، وأنتم ترون من حرم نعمة البصر، ومن حرم نعمة السمع، ونعمة النطق، ونعمة الحركة والمشي، بل ترون من حرم هذه النعم كلها وقلبه ينبض لكنه لا يتكلم، ولا يرى، ولا ينطق، ولا يتحرك، وزوروا المستشفى لتروا نماذج من هذه الحالات.
عباد الله: إن نعمة الصحة من أعظم النعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)(رواه البخاري)
(قال ابن عباس رضي الله عنهما عند قوله تعالى [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ]، النعم صحة الأبدان والأسماع والأبصار يسأل الله العباد فيم استعملوها وهو أعلم بذلك منهم).
عباد الله إن زيارة المرضى تذكرك بنعمة الصحة عليك، فأنت ترى متألماً يشكو من أوجاع ظاهرة، وآخر يشكو من علل خفية، وثالثاً شاخصة عينه لا يدري ما وجعه، ورابعاً يتمنى أن يقول لا إله إلا الله ولا يستطيع، فلا إله إلا الله كم نتقلب في نعم الله صباح مساء ولا نقيد ذلك بالشكر.

فاحرصوا بارك الله فيكم على تقييد النعم بالشكر، فبه تدوم النعم، واحذروا من الغفلة وانظروا في أمر الدنيا إلى من دونكم، وفي أمر الطاعة والعبادة إلى من فوقكم، وأخلصوا في أعمالكم، واغتنموا نعمة الصحة والعافية فهي عارية مؤقتة.
وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين أفضل من عبد ربه فشكر صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتابك والعمل بسنة نبيك، ووفق ولاة أمرنا خاصة لكل خير.
اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم أدم علينا نعمة الأمن والاستقرار ورغد العيش، اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات، اللهم استر عوراتهم، وآمن روعاتهم، وارفع درجاتهم في الجنات، واغفر لهم ولآبائهم وأمهاتهم، وأصلح نياتهم وذرياتهم يا كريم.
[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
عباد الله: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]. (النحل الآية 90).
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اللهم أنزل علينا الغيث، اللهم أنزل علينا الغيث، اللهم أنزل علينا الغيث، اللهم أغث القلوب بالإيمان وأغث الديار بالأمطار يا ذا الجلال والإكرام، اللهم زد هذه البلاد أمنا وطمأنينة وتمسكاً بشرعك يا كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الجمعة: 27-4-1432هـ