خطبة بعنوان: (فضل العشر الأواخر وسنة الاعتكاف) بتاريخ 19-9-1432هـ.

الأحد 5 جمادى الآخرة 1440هـ 10-2-2019م

الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي تفضل علينا ببلوغ رمضان وصيامه وقيامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالعطاء والسخاء والبقاء، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله الذي قام في ليل رمضان وتلا في نهاره ولياليه القرآن، ودعا ربه وسأله العفو والغفران، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فيأيها المؤمنون والمؤمنات أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي نعم الزاد، وتزودوا من العمل الصالح قبل أن ينقضي الأجل فنتحسر على ما مضى وانقضى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ](الحشر: 18).

أيها الصائمون والصائمات: لقد بادر شهر رمضان على الرحيل، وها هي أيامه تنقضي تلو الأخرى، فاتقوا الله تعالى، واجِتهدوا فيه بالعمل الصالح فإنما هي أيام معدودة تمر مر السحاب، وودّعوا شهركم الكريم المبارك بتمام الصيام والقيام، والبر والإحسان، وتلاوة القرآن، وقابلوا نعم ربكم بالشكر له والامتنان، وانهوا نفوسكم وازجروها عن مقارفة الهوى والآثام، واستدركوا ما تبقى فيه من أيام، وتنافسوا في الحصول على الدرجات العلى في الجنان، فأبواب الجنة مفتوحة لمن قدم وأعطى، واعلموا أنما الأعمال بالخواتيم.

أيها الصائمون والصائمات: لَقَدْ نَزَل بكم عشرُ رمضانَ الأخيرةُ، فيها الفضائلُ المشهورةُ، وفيها الخيراتُ والأجورُ العظيمة.
ولقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلّم يجتهدُ بالعملِ الصالح فيها أكثرَ مِن غيرها، فعن عائشةَ رضي الله عنها (أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يجتهدُ في العَشْرِ الأواخِرِ ما لا يجتهدُ في غيره)(رواه ).
وعنها رضي الله عنها قالت: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إذا دخلَ العَشرُ شَدَّ مِئزره وأحيا ليلَه وأيقظ أهلَه)(رواه البخاري ومسلم).
وعنها رضي الله عنها قالت: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يَخْلِطُ العِشْرين بصلاةٍ ونومٍ فإذا كان العشرُ شمَّر وشدَّ المِئزرَ)(رواه أحمد).
وهذا فيه دليلٌ على فضيلةِ هذه العشرِ، وأنه ينبغي للمسلم أن يقوم فيها بجميع أنواع العبادةِ من صلاةٍ وقرآنٍ وذكرٍ وصدقةٍ وغيرِها، وهي فرصة لا تعوض للمسلم باجتماع تلك الطاعات في تلك الليالي المباركات.
عباد الله: لقد كان النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يُوقِظُ أهلَه في هذه العشر للصلاةِ والذكرِ حِرْصاً على اغتنامها، ولأنَّها نعمة كبيرة لمنْ وفَّقه الله تعالى لإدراكها والاجتهاد فيها، فلا ينبغِي للمسلم العاقلِ أنْ يُفَوِّتها على نفسه وأهله، فما هي إلاَّ ليَالٍ معدودةٌ عسى أن يدركُ كل منّا من خلالها نفحةً من نَفَحَاتِ الرب الكريم فتكتب له سعادة الدنيا والآخرةِ.
عباد الله:ويكفي كل مسلم شرفًا وقدرًا ما خصّ الله به هذه العشر بليلةٌ هي خير من ألف شهر، ليلة شرّفها الله على غيرها من الليالي، ومنّ على عباده بجزيل خيرها، ليلة أنزل الله فيها القرآن وأجزل فيها العطاء والإحسان، ليلة لا تشبه ليالي الدهر، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن فضلها في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}(الدخان:3، 4).

فيا عباد الله اغتنموا هذه الليال وخاصّة هذه الليلة المباركة، وعظموها بالقيام في صلواتكم بإحسان الركوع والسجود وتلاوة القرآن، وأكثروا فيها من ذكر الله تعالى وسؤاله المغفرة والنجاة من النار، والتمسوها في الوتر من العشر الأواخر من هذا الشهر المبارك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)(رواه البخاري ومسلم)، وقال أيضاً:(من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) (متفق عليه).
عباد الله: اعلموا أن الشيطان عدو لدود، يحاربنا في كل طاعة نتقرب بها لربنا جل وعلا، ويزين لنا الشهوات والملذات لكي تضيع علينا الأوقات المباركات، قال تعالى مخبراً عنه:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(فاطر: 6).
وإنه لمِنَ الحرمانِ والخسارةِ أنْ نرى بعض المسلمينَ ينساقون وراء وسوسته ونزغاته، فيُمْضُونَ تلك الأوقاتَ الثمينة فيما لا ينفعُهم، بل ربما يضيعون مُعْظَمَ أوقاتهم في اللَّهوِ الباطلِ، فإذا جاء وقتُ الطاعة والقيام نامُوا عنها وفوَّتُوا على أنفسهم خيراً كثيراً لعَلَّهُمْ لا يَدركونَه أبَداً، وهذا من تلاعُبِه ومَكْرهِ بهم وصَدِّهِ إياهُم عن هذا الخير العظيم.
ولكن من رحمة الله تعالى أنه حفظ عباده المؤمنين الصادقين من إغوائه ومكره، وحفظهم من نزغاته ووسوسته، قال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}(الحجر: 42)، فأعانهم على الطاعة وبذل الخير، وأمدهم بعونه وفضله، فأقامهم بين يديه، وقواهم عليها، بل جعل طاعتهم له أحب إليهم من الدنيا وما فيها، فأروا ربكم ما يرضيه عنكم ويكون سبباً في دخول جنته ونيل رضوانه ورحمته.
بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}(سورة القدر). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وعد المتقين بالعتق من النيران والفوز بالجنان، ووعد الكافرين والمنافقين بالعذاب والخلود في دار الهوان، والصلاة والسلام على الرسول الكريم الذي علم أمته كيف يعبد الرحمن ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الكرام وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن المواسم الفاضلة هبة ومنحة من الله امتن بها على عباده، فبادروا باستغلالها، واجتهدوا في تحصيل فضلها.

أيها الصائمون والصائمات: وكان من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلّم أنه كان يعْتَكِفُ في العشر الأخيرة من رمضان، والاعتكاف هو: لُزُومُ المسجِد للتَّفَرُّغِ لطاعةِ الله عزَّ وجلَّ، وهو سُنَّة، وقد اعتكفَ صلى الله عليه وسلّم واعتَكَفَ أصحابُه في حياته وبعد وفاته، فَعَنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم اعتَكَفَ العشرَ الأوَّلَ من رمضانَ ثم اعتكف العشر الأوسْط ثم قال: (إني اعتكِفُ العشرَ الأوَّل الْتَمِسُ هذه الليلةَ، ثم أعْتكِفُ العشرَ الأوسطَ، ثم أُتِيْتُ فقيل لي: إنها في العشرِ الأواخرِ، فمن أحبَّ منكم أنْ يعتكِفَ فَلْيَعْتكفْ)(رواه مسلم).

وعن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: (كان النبي صلى الله عليه وسلّم يعتكفُ العشرَ الأواخرِ مِنْ رمضانَ حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ. ثم اعتكف أزواجُه مِن بعدِه)(متفق عليه).
وينْبغِي لمن أراد الاعتكاف أنْ يشتغلَ بالصلاة والذكرِ وقراءةِ القرآن والدعاءِ، وأن يتَجنَّب ما لا يَعْنِيه من حديثِ الدنيَا، ولا بأسَ أنْ يتحدثَ قليلاً بحديثٍ مباحٍ مع أهْلِه أو غيرهم لمصلحةٍ.
ويجوز الخروجُ للمعتكف لأمرٍ لا بُدَّ منه طبعاً أوْ شرعاً كقضاءِ حاجةِ من بولِ أو غائِط والوضوءِ الواجبِ والغُسْلِ الواجِب لجنابَةٍ أوْ غيرها والأكلِ والشربِ فهذا جائزٌ إذا لم يُمْكنْ فعْلُهُ في المسجدِ فإنْ أمكنَ فِعُلُه في المسجدِ فلاَ، وأما الخروج لأمْر طاعةِ لا تجبُ عليهِ كعيادةِ مريضٍ وشهودِ جنازةٍ ونحو ذلك فلا يفعله إلاَّ أنْ يشترطَ ذلك في ابتداءِ اعتكافِه.
ولا يجوز للمعتكف الخروجُ لأمْرٍ ينافي الاعتكافَ كالخروج للبيعِ والشراءِ وجماعِ أهْلِهِ ومباشرتِهم ونحو ذلك، فلا يفعله لا بشرطٍ ولا بغيرِ شرطٍ، لأنه يناقضُ الاعتكافَ وينافي المقصودَ منه.

ولا ينبغي أن تجتمع المجموعات من المعتكفين ويقضون وقتهم بالأحاديث ويحضرون موائد الأطعمة ويرهقون أهليهم جسدياً ومادياً في تهيئة هذه الأطعمة، كما لا ينبغي الإنشغال الزائد بالجوالات والمحمولات وغيرها وضياع الوقت فيما لا ينفع، كما لا ينبغي أن يعتكف الصغار مع الكبار إلا إذا اطمأن ولي الأمر وتابع متابعة دقيقة.
أسأل الله جلت قدرته أن يبارك لنا فيما تبقى من رمضان، وأن يعيننا على قيام العشر الأخيرة منه، وأن يبلغنا ليلة القدر وأن يجعلنا ممن نال فضلها وشرفها وثوابها.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:56) اللهم صل وسلم وبارك على عبدك وخليلك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين. اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتابك والعمل بسنة نبيك، ووفق ولاة أمرنا خاصة للخير، اللهم خذ بأيديهم لما فيه خير البلاد والعباد يا ذا الجلال والإكرام. اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم وتقبل صيامهم وقيامهم واستجب دعاءهم يا كريم. [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون] فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

الجمعة:19-9-1432هـ،