خطبة بعنوان: (كيف نستقبل شهر رمضان) بتاريخ 26 / 8 /1434هـ.

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين مصرف الأزمان ومدبر الشهور والأعوام، القائل في كتابه الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة: 183)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي خير زاد ليوم المعاد:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}(البقرة: 197).

عباد الله: مرَّ علينا طرف من الزمان بين رمضان إلى رمضان، مر بما فيه من برٍّ وإحسان، وتقصير وسوء أعمال، مرَّ وأملنا في الله ذي الجلال والإكرام أن يقبل أعمال المحسنين، وأن يغفر للمسيئين، وها هو شهر رمضان المبارك قد قرب قدومه بعد أيام معدودات بنفحاته ورحماته، فهو شهر الخير والبركات، يقبل بالبشر والمسرات، وتعم أنواره جميع الكائنات، وتملأ نفحاته العبقة الأرض والسماوات، وتتنزل بحلوله نسائم الرحمات، وتفرح لمقدمه قلوب المسلمين والمسلمات..

ها هو قد أطل علينا سيد الشهور، وأفضلها على مرِّ العصور، شهر خصَّه الله بخصائص عظيمة، ومزايا جليلة، لو تكلمنا عن بعض فضائله، ما وسعنا المقام في ذكر محاسنه، يقول المولى عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}(البقرة: 185)..

شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً وفضيلة، تُفتح فيه أبواب الجنان، وتُغلق فيه أبواب النيران، وتصفد فيه الشياطين، قال عنه صلى الله عليه وسلم: (أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ)(رواه أحمد والنسائي).

الأعمال فيه مباركة، والأجور فيه مضاعفة، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ)(رواه البخاري ومسلم واللفظ له).

فيا سعادة من مدَّ الله له في الأجل، ومتَّعه بنعيم الصحة والعافية، ليستقبل هذا الشهر الكريم، ويغنم به مغفرة الله ورضوانه، والعتق من نيرانه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)(متفق عليه).

وحقيق بمن أدرك هذا الشهر المبارك أن يشكر هذه النعمة بأداء حقها، وأن يستغل هذه الأيام المباركة بما يرضي المولى عز وجل عنه، ويتعرض لنفحات الله تعالى في هذا الشهر الكريم، ويعقد العزم من أول يوم من أيامه أن يكون إلى الله أقرب وعن النار أبعد، لكي لا يضيع فرصاً قد أتت، فلعل بعضنا لا يدرك رمضان، ولعل رمضان يأتي ولا يلقى بعضنا، فكم من عزيز وحبيب كان معنا في رمضان الماضي قد رحل عنَّا وهو الآن تحت الثرى رهين عمله، وكم من سليم معافى قد أصبح طريح الفراش لا يستطيع الصيام أو القيام، فلنجد ونجتهد من أول أيامه، ولنستغل ساعاته ولحظاته، فإن المحروم من يدخل عليه رمضان ولم يغفر له.

عباد الله: ومن فضل الله وكرمه علينا أن أبواب الجنة تفتح كلها في هذا الشهر المبارك، كما قال صلى الله عليه وسلم:(إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فتّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهنّم فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ)(رواه ابن ماجة) ترغيباً للنفوس وشحذاً للهمم، ولما عند الله من عظيم الثواب وجليل النعم.

ويكفي للصائمين شرفاً أن بشَّرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بأعظم بشارة، حين ينادون يوم القيامة لدخول الجنة من باب اختصه الله لهم، إكراماً منه وتفضلاً وإنعاماً، وهو باب الريان، لا يدخل منه غيرهم، فعن سهل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ)(رواه البخاري ومسلم).

والبشارة الكبرى أن من كان سبّاقاً لأعمال الخير، طارقاً لجميع أبوابها؛ فإنه يُدعى من أبواب الجنة كلها، وهو شرف ما أعظمه من شرف كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ)، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ)(رواه البخاري ومسلم).

عباد الله: علينا أن نحرص على الخير، وأن نجتهد في قطع جميع الصوارف، وأن نؤجل كل ما يشغلنا عن العبادة في هذا الشهر الكريم، قال صلى الله عليه وسلم:(إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ)(رواه الترمذي وصححه الألباني).

وعلينا أن نحرص على صلاة التراويح فإنها سُنَّة ثابتة، وغنيمة باردة، وقربة عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)(متفق عليه)، وقال أيضاً:(مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ)(رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وعلى كل قادر منَّا أن يحرص على إفطار الصائمين، فكم من أسرة فقيرة لا تجد ما تفطر عليه، وكم من محتاج لا يجد مالاً ليشتري به قوت يومه، فاحرصوا بارك الله فيكم على هذا العمل، ففضله عظيم وثوابه جزيل، فعن زيد الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من فطر صائما كان له مثل أجر صومه غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء)(رواه الترمذي).

عباد الله: علينا أن نحفظ أسماعنا وألسنتنا وأبصارنا، فبعض الناس يدركون هذا الشهر، فيصومون عن جميع المفطرات، ولكن لا تصوم ألسنتهم عن القيل والقال، والغيبة والنميمة، والسب والشتم، والتكلم في أعراض المسلمين، ولا تصوم آذانهم عن سماع اللهو واللغو، ولا تصوم أعينهم عن النظر إلى الحرام، فالعاقل من يصون صومه، وجوارحه عما ينقص أجرها، قال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)(رواه البخاري).
قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(البقرة: 183ـ 185). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون والمؤمنات: واعلموا أن تقواه هي طوق النجاة من كربات الدنيا والآخرة، وطريق الفوز بجنات النعيم.

عباد الله: علينا عند دخول شهر رمضان أن نستحضر النية وأن نقصد بقلوبنا أن نصوم رمضان إيماناً واحتساباً، فإنما الأعمال بالنيات. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

ويسن تعجيل الفطر لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون)(رواه أبو داود وابن حبان وابن خزيمة، وحسنه الألباني).

كما يسن للمسلم أن يفطر على رطب أو على تمر، فإن لم يجد فعلى ماء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم صائماً فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء، فإن الماء طهور)(رواه الخمسة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح).

ويستحب أيضاً تأخير السحور إلى آخر الليل، لقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: “تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة، فقلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية”(رواه البخاري ومسلم)، ويحصل السحور بأقل ما يتناوله المرء من مأكول ومشروب.

ولا حرج على من أكل أو شرب ناسياً أن يكمل صومه، لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)(رواه البخاري).

ولا حرج من بلع الريق، واستخدام السواك، ووضع الطيب، والاغتسال عند شدة الحر، واستعمال أجهزة البخاخ لمرضى الربو، واستعمال المراهم الجلدية.

ولا حرج على كبار السن أو المرضى الذي لا يطيقون الصيام ولا يرجى شفائهم، في الغالب حسب كلام الأطباء أن يطعموا عن كل يوم مسكيناً، والحامل والمرضع لهما الفطر كالمريض إذا قررت ذلك الطبيبة المسلمة الموثوقة.

أسأل الله أن يبلغنا هذا الشهر الكريم المبارك، وأن يعيننا على صيامه وقيامه، وأن يوفقنا فيه للعمل الصالح الرشيد.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: 56)اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
الجمعة: 26 / 8 /1434هـ