49 – الاستخلاف في الصلاة مسائل وأحكام

الأحد 16 رجب 1445هـ 28-1-2024م

49 –  الاستخلاف في الصلاة مسائل وأحكام pdf

 

 

 

الاستخلاف في الصلاة

مسائل وأحكام

 

تأليف

أ.د/ عبدالله بن محمد أحمد الطيار

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله الذي أنزل لعباده الكتب، وأرسل إليهم الرسل، وشرع لهم الشرائع رحمةً بهم وتفضلاً عليهم، وصدق ربنا جلَّ وعلا حين قال:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}([1]). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله على حين فترة من الرسل صلى الله عليه وسلم تسليما كثيراً، وبعد:

فإن من القواعد الهامة التي قررتها شريعتنا الإسلامية (أن التصرف على الرعية منوط بالمصلحة) بمعنى أن الإمام وكُلُ من ولي أمراً من أمور المسلمين فيجب أن يكون أمره ونهيه وتصرفه وعمله مبنياً ومقصوداً به المصلحة العامة، وإلا فليس بنافذ ولا صحيح شرعاً. فهذه قاعدة عظيمة تضبط تصرفات كل من ولي شيئاً من أمور العامة من إمام وأمير وقاض وموظف ومدرس وغيرهم ممن كُلِّفَ بعملٍ من الأعمال التي فيها مصلحة عامة للمسلمين، وتفيد أيضاً أن أعمال هؤلاء وأمثالهم لكي تكون ملزمة يجب أن تكون مبنية على مصلحة الجماعة وأن الولاة وعموم الموظفين ممن ذكرناهم آنفاً وغيرهم ليسوا عمالاً لأنفسهم إنما وكلاء على الأمة في القيام بشؤونها فعليهم أن يراعوا خير التدابير لصلاح الرعية. ولما كانت الإمامة في الصلاة جزءًا يندرج تحت هذه القاعدة العظيمة فلابد على كل إمام أن يراعي ما فيه مصلحة المأمومين مراعاة لحق الصلاة وحق من قام بها من أفرادها.

وإن مما لا شك فيه أنه قد يحصل لإمام من الأئمة في الصلاة أمور خارجية ليست بمحض اختياره وإرادته، كأن يتذكر أنه على غير وضوء، أو أن يحدث في أثنائها، أو يصاب برعاف في صلاته، أو مرض في أثنائها، وغيرها من الأعذار التي تطرأ على الإمام مما يوجب عليه الانصراف منها للوضوء، ولذا شُرع للإمام عند حصول ذلك أن يستخلف من يكمل بالمأمومين صلاتهم.

ولما كان الاستخلاف في الصلاة منزلته عظيمة جعلت هذه الرسالة لبيان هذا الحكم، وقد وضعتها في ثلاثة مباحث:

المبحث الأول:

في تعريف الاستخلاف، وحكمه، وشروطه، وكيفيته ـ الاستخلاف في الأذان والإقامة ـ

الاستخلاف في صلاة الجماعة ـ الاستخلاف في خطبة الجمعة وصلاتها ـ الاستخلاف في صلاة الخسوف، والعيدين، والاستسقاء، وغيرها مما تشرع له الجماعة.

المبحث الثاني:

فيمن تصح إمامته: وتناولت فيه إمامة الفاسق ـ استخلاف اللقيط ـ استخلاف العاجز والأمي والأعمى ومن يجنُّ أحياناً ومن به سلس بول والمسبل والمرأة والأخرس والأصم والمتيمم وهناك آخرون ممن تعرضنا لصحة استخلافهم في الصلاة.

المبحث الثالث:

في مسائل هامة في موضوع الاستخلاف، ومن أبرز هذه المسائل:

المسألة الأولى: إذا خرج الإمام ولم يستخلف أحداً.

المسألة الثانية: من الأحق بالاستخلاف هل هو الإمام أم المأموم.

المسألة الثالثة: استخلاف من يترك بعض السنن.

المسألة الرابعة: فيما إذا ذكر الإمام أنه على غير وضوء.

المسألة الخامسة: إذا أحدث الإمام  ثم قدم مسبوقاً.

وهناك مسائل عديدة أخرى مفيدة في هذه الرسالة، أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه وحجة لنا لا علينا إنه سميع قريب.

                                                                                       وكتبه أبو محمد

                                                                       أ.د. عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار

 

المبحث الأول

الاستخلاف: تعريفه، حكمه، شروطه، كيفيته

 

أولا: تعريف الاستخلاف:

في اللغة: مصدر استخلف، يقال: استخلف فلان فلاناً إذا جعله خليفة.

ويقال : خلّف فلان فلاناً على أهله وماله صار خليفة وخَلفتُه أي جئت بعده. فخليفة بمعنى الفاعل وبمعنى المفعول([2]).

وفي الاصطلاح: لا يخرج معنى الاستخلاف في اصطلاح الفقهاء عن المعنى اللغوي، لذا قالوا في تعريفه اصطلاحاً: الاستخلاف: جعل الشخص غيره مكانه في عمل يجوز فيه.

وبتعريف أوضح: هو استنابة الإنسان غيره لإتمام عمله، ومنه استخلاف الإمام غيره من المأمومين لتكميل الصلاة بهم لعذر قام به([3]).

ثانياً: حكم الاستخلاف في الصلاة:

اختلف الفقهاء في حكم الاستخلاف في الصلاة فمنهم المجيز له ومنهم المانع، والصحيح عندي قول جمهور أهل العلم بجواز الاستخلاف.

قال ابن قدامة رحمه الله: (فصل: وإذا سبق لإمام حدث فله أن يستخلف من يتم بهم الصلاة روي ذلك عن عمر وعلي وعلقمة والعطاء والحسن والنخعي والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وحُكي عن أحمد رواية أخرى أن صلاة المأمومين تبطل لأن أحمد قال: كنت أذهب إلى جواز الاستخلاف وجبنت عنه، وقال أبو بكر: تبطل صلاتهم رواية واحدة لأنه فقد شروط صحة الصلاة في حق الإمام فبطلت صلاة المأموم كما لو تعمد الحدث، قال ابن قدامة: ولنا أن عمر رضي الله عنه لما طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقدمه فأم بهم الصلاة وكان ذلك بمحضر من الصحابة وغيرهم ولم ينكر منكر فكان إجماعاً، وقد احتج أحمد بقول عمر وعلي وقولهما عنده حجة فلا معدل عنه.

وقول أحمد جبنت عنه إنما يدل على التوقف، وتوقفه مرة لا يبطل ما انعقد الإجماع عليه.

وإذا ثبت هذا فإن للإمام أن يستخلف من يتم بهم الصلاة كما فعل عمر رضي الله عنه([4]).

ثالثا: شروط الاستخلاف:

اشترط الفقهاء شروطاً في حق الإمام وحق المستخلَف وحق المأمومين لكي يكون الاستخلاف معتبرا، فإن فقد شرط من هذه الشروط فلا يصح الاستخلاف.

أولا: الشروط المعتبرة في الاستخلاف في حق الإمام مع بيان الراجح من هذه الشروط:

(1) كون الإمام قد دخل الصلاة أي ابتدأها صحيحة، فإن كان قد ابتدأها فاسدة يعنى تذكر أنه على غير وضوء فلا يصح الاستخلاف لأن صلاته لم تنعقد وبه قال الحنابلة.

قلت: والصحيح انعقادها وجواز الاستخلاف في هذه الحالة وذلك لأن الإمام لو أنه صلى بنجاسة أو بحدث ثم فرغ منها فإن صلاة المأموم صحيحة، فكذلك لو أمضى بعضها فصلاة المأموم لم تبطل فيجوز له الاستخلاف في هذه الحالة.

(2) كون حدث الإمام سماوياً، يعنى ليس له فيه اختيار، فلو أحدث عمداً لا يجوز له الاستخلاف، ولذا قالوا إن سبقه الحدث أي ليس بمحض اختياره وكذا لو أصيب بفعل غيره كأن يصاب بحجر في رأسه فيشج، فهذا ليس بسماوي فلا يصح في هذا استخلاف([5]).

قلت: والصحيح عدم جواز الاستخلاف إذا أحدث عمداً لاشتراط كونه سبقه الحدث أما كونه يصاب بفعل غيره فهنا يجوز له الاستخلاف لفعل عمر رضي الله عنه .

(3) كون سبب الاستخلاف حدثاً، فإن كان من أجل النجاسة لم يجز الاستخلاف حتى لو كانت النجاسة في بدنه([6]).

قلت: الصحيح جوازها ولا عبرة بما قاله الأحناف في هذا الشرط، فيجوز للإمام إذا رأى في بدنه أو ثوبه نجاسة أن يستخلف.

(4) كون الحدث غير موجب للغسل فلو أنزل بتفكر ونحوه فلا يصح الاستخلاف([7]).

قلت: الصحيح جواز الاستخلاف بحدث أكبر أو أصغر.

(5) ألا يكون الحدث نادر الوجود فإن كان بإغماء أو قهقهة فلا يجوز([8]).

قلت: الصحيح جوازه في الإغماء لأن هذا عذر فيجوز للمأمومين أن يستخلفوا، أما القهقهة فلا يصح فيها استخلاف.

(6) أن يستخلف الإمام قبل خروجه من المسجد فلو خرج قبل أن يقدم أحداً أو يقدم المأمومون أحداً أو أن يتقدم أحد بنفسه فصلاة القوم فاسدة.

والصحيح في هذا الشرط: أنه إذا طال الفصل ولم يكن هناك استخلاف فمن صلى منفرداً ونوى الانفصال صحت صلاته، ومن لم ينو الانفصال وبقي مدة طويلة ولم يتم فيها الصلاة بطلت صلاته.

ثانياً: الشروط المعتبرة فيمن يستخلفه الإمام:

يشترط أهل العلم فيمن يستخلفه الإمام بعض الشروط وهي:

(1) كونه صالحاً للإمامة: فلو استخلف صبياً أو امرأة فلا تصح الإمامة ولا يصح الاستخلاف بل تبطل صلاة المأمومين.

قلت: أما الصبي المميز فتجوز إمامته وإذا كانت تجوز إمامته صح استخلافه فإن حصل منه ما يبطل الصلاة بطلت، أما المرأة والمجنون فلا تصح إمامتهم، فإن استخلفهم الإمام هل تبطل صلاتهم؟ قولان: لأهل العلم أصحهما أنها لا تصح.

(2) أن يكون المسْتَخْلَفَ مقتدياً بالإمام: حتى وإن كان ممن يتنفل وراءه.

قلت: والصحيح جوازه، فيجوز للإمام أن يستخلف غير المأموم وذلك لفعل أبي بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: الشروط المعتبرة في حق المأمومين:

(1) ألا يأتي المأموم بركن من أركان الصلاة قبل أن يستخلف الإمام، فإن أتى بعضهم بركن من سجود أو ركوع ونحوه لا يجوز له متابعة من استخلفه الإمام لتحول نيته من مأموم إلى انفراد.

(2) أن لا تطول مدة الاستخلاف وتقدير هذه المدة بمضي زمن يمكن وقوع ركن من أركان الصلاة فيه فإن طالت أتموها فرادى.

رابعاً: كيفية الاستخلاف:

لم تأت في نصوص السنة كيفية الاستخلاف غير أنه جاء عن الأحناف والمالكية شيء من ذلك فمما قاله الأحناف في كيفية الاستخلاف:

قال صاحب البحر الرائق: (السنة للإمام الذي سبقه الحدث وأراد الاستخلاف أن يفعله محدودب الظهر واضعاً يده على أنفه يوهم أنه قد رعف لينقطع عنه كلام الناس، ولو كان الإمام قد ترك ركوعاً فإنه يشير بوضع يده على ركبتيه، ولو ترك سجوداً يشير بوضع يده على فمه، وإن كان قد بقي عليه ركعة واحدة أشار بأصبع واحد، وإن كان اثنتين فيشير بأصبعين وهذا إذا لم يعلم الخليفة ذلك. أما إذا علم فلا حاجة إلى ذلك ويشير لسجدة التلاوة بوضع أصبعه على الجبهة واللسان ويشير للسهو بوضع يده على صدره وقيل يحول رأسه يميناً وشمالاً كذا في الظهيرية([9]).

قلت: والصحيح أن كل ما يحصل به الاستخلاف يجوز للإمام فعله سواء كان بكلام أو بإشارة ونحوه لأنه من مصلحة الصلاة، فيقول تقدم يا فلان فإني قد رعفت مثلاً، أو حصل لي كذا أو لا يذكر شيئاً من ذلك، وإن اكتفى بالإشارة فهذا أحسن، أما قول من يقول بأنه إذا تكلم بطلت صلاتهم فهذا غير صحيح، ألا ترى أنه إذا أم مسافر مقيمين فقصر صلاته قال لهم (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر)، أو (فإنا على سفر) ولم تبطل صلاتهم بذلك.

فالحاصل أن الأمر متروك للحاجة وما فيه مصلحة الصلاة والله أعلم.

 

الاستخلاف في الصلاة.

(1) الاستخلاف في الأذان والإقامة:

أولاً: الاستخلاف في الأذان:

إذا أصاب المؤذن شيء حال أذانه أو حال إقامته كأن يصاب برعاف مثلاً فله أن يتم أذانه إن استطاع ولا حرج عليه في نزول الدم حال رعافه لأنه لا يشترط للأذان الطهارة بخلاف الصلاة، وكذا الإقامة، لكن لو ذهب فغسل الدم ثم رجع هل يبنى على ما مضى من أذانه أم يستأنف الأذان؟

نقول من شرط الأذان كونه متوالياً، فإن حصل للمؤذن عذر توقف بسببه فهنا لا يبني على ما مضى وإنما يستأنفه أي يأتي به من جديد لكي يحصل شرط التوالي له.

فإن استخلف المؤذن أحداً فهنا لا يبنى المستخلف على أذان المؤذن، بل عليه أن يستأنف الأذان ولا يبنى على من استخلفه.

ثانيا: الاستخلاف في الإقامة:

إذا رعف المؤذن في الإقامة فإن الأولى في حقه أن يقطعها بخلاف ما ذكرناه في الأذان من أنه يشرع له إتمامه حال رعافه وذلك لأن الإقامة متصلة بالصلاة، فلو تمادى في إقامته لترك الصلاة لغسل الدم فكان تركه للإقامة أولى من تركه للصلاة بخلاف الأذان، فإن هناك متسعاً بين الأذان والإقامة يمكنه فيه غسل الدم الذي أصابه.

فإن استخلف حال إقامته هل يبنى على إقامة المؤذن؟ الصحيح أنه لا يبنى عليها لأن الإقامة أذان كما جاءت بذلك السنة، فهما في الحكم سواء وعليه أي المستخلف أن يستأنف الإقامة ولا يبنى على إقامة المؤذن.

(2) الاستخلاف في صلاة الجماعة:

نذكر هنا بعض المسائل وأحكامها التي تتعلق بالاستخلاف في صلاة الجماعة للصلوات المفروضة على وجه الخصوص وما تشرع له الجماعة كصلاة الجمعة والعيدين والكسوف والجنازة وغيرها من الصلوات الأخرى.

ولما كانت هناك مسائل مشتركة بين الصلوات المفروضة وغيرها من الصلوات الأخرى أحببنا أن نتكلم عنها أولا:

المسألة الأولى: استخلاف من سبق ببعض الصلاة:

هذه المسألة اتفق الأئمة الأربعة على جوازها يعني يجوز للمسبوق وهو من فاتته ركعات مع الإمام أن يستخلفه غير أنهم اختلفوا في كيفية انتهائه وخروجه من الصلاة.

فقال الأحناف أنه لو تقدم المستخلَف فإنه يبتدئ من حيث انتهى عليه الإمام لقيامه مقامه، فإذا انتهى إلى السلام يُقدِّم مدركاً يسلم بهم.

وقال بعضهم إذا أتم الخليفة صلاة المأمومين ثم أراد أن يكمل صلاته أشار إليهم بيده أن يجلسوا ثم يقوم لقضاء ما عليه. والمأمومون بالخيار إن شاءوا فارقوا وسلموا وتصح صلاتهم بلا خلاف وإن شاءوا صبروا جلوساً ليسلموا معه، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم غير أن الأفضل في حق المأموم أن ينتظر إمامه جالساً ثم يسلم بتسليمه للحصول على تمام الموافقة وهذا هو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ.

المسألة الثانية: في استخلاف غير المأموم:

قبل أن نتكلم عن هذه المسألة نريد أن ننبه على أمر هام غفل عنه الكثير من الأئمة وهو تحري كون أهل العلم والفضل والتقوى والورع خلفه، وكذلك أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم (ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى)([10]).

فلو عمل الأئمة بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ما احتاج الإمام إلى هاتين المسألتين، فإنه بحصولها يحدث نوع من البلبلة عند المأمومين، ولذا أنصح إخواني أن يتحروا في كون من يكون خلفهم ممن تصح إمامتهم على الوجه المطلوب شرعاً، فإذا حصل لهم عذر قام بتقديمه لإكمال ما تبقى من صلاتهم.

أما الكلام عن المسألة وحكمها فنقول: هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم فمنهم من أجازها ومنهم من لم يجزها مطلقاً.

والصحيح عندي جوازها لما جاء في الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَانَتْ الصَّلاةُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ قَالَ نَعَمْ فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ فِي الصَّلاةِ فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ فَصَفَّقَ النَّاسُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يَلْتَفِتُ فِي صَلاتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ امْكُثْ مَكَانَكَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا كَانَ لابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم )([11]).

فهذا الحديث يدل على جواز استخلاف غير المأموم غير أن الأفضل في حق الإمام أن ينظر خلفه من المأمومين فإن وجد من يصلح للاستخلاف قدمه وإن لم يجد جاز له استخلاف غير المأمومين، والله الموفق.

المسألة الثالثة: في رجوع الإمام الراتب بعد إحرام نائبه:

اختلف أهل العلم في هذه المسألة أيضاً: فمنهم من قال بجوازها، وهو ما ذهب إليه الحنابلة، ومنهم من لم يجزها، وهذا هو مقتضى مذهب الأحناف والمالكية وذلك لأنهم لا يرون استخلاف الأجنبي وهذا في حكمه.

والصحيح: جواز ذلك لحديث سهل بن سعد الساعدي السابق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام فلما جاء تأخر أبو بكر فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحرم بهم وبنى على صلاة أبي بكر رضي الله عنه .

(3) الاستخلاف في خطبة وصلاة الجمعة.

أولاً: الاستخلاف في خطبة الجمعة:

إذا حدث للخطيب عذر يبيح له ترك خطبة الجمعة جاز له الاستخلاف، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم بخلاف من يرى أنه لابد من إذن الإمام أو نائبه عند استخلافه.

لكن هل الأفضل له أن يستخلف إذا كان سبب الاستخلاف سبقه الحدث وهو يخطب أم أنه يستمر إلى نهاية الخطبة ثم يتوضأ للصلاة.

نقول: الصحيح من أقوال أهل العلم أن الطهارة ليست شرطاً للخطبة وإنما هي شرط للصلاة وسنة للخطبة فلو أن الخطيب سبقه الحدث في أثناء خطبته فيجوز له أمران:

الأول: وهو الأفضل أن يستخلف مكانه أحداً لإتمام خطبته والمستخلف مخير بين إكمال ما وقف عليه الخطيب أو يبتدئُها من جديد.

الثاني: أن يتمها (أي الخطبة) محدثاً، وهذا جائز بالاتفاق عند الأئمة.

ثانياً: الاستخلاف في صلاة الجمعة:

أما الكلام على الاستخلاف في صلاة الجمعة فلا يخرج عما ذكرناه في الاستخلاف في صلاة الجماعة غير أنني أنبه على ما ذكره بعض الفقهاء في هذا الحكم.

أولاً: اشتراط بعض الفقهاء العدد لصلاة الجمعة وكونه أربعين مثلاً، نقول: الصحيح أنه لا يشترط العدد لإقامة الجمعة.

ثانياً: الأفضل بل السنة أن يتولى الصلاة من يتولى الخطبة، لأن هذا هو فعله صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه من بعده، لكن إن خطب رجل وصلى آخر لعذر جاز، وإن لم يوجد عذر فقال أحمد لا يعجبني من غير عذر، فيحتمل عنده المنع ويحتمل عنده الكراهة لأن الخطبة منفصلة عن الصلاة.

(4) الاستخلاف في العيدين:

أما الاستخلاف في الصلاة فهذا سبق الكلام عليه وقلنا بجواز الاستخلاف فيها، فلو أحدث الإمام ثم استخلف جاز له ذلك.

أما الخطبة إذا أحدث الإمام في أثنائها هل يستمر في إلقائها أم يستخلف؟

قلت: من المعلوم أنه ليس هناك بعد الخطبة صلاة بالنسبة للعيدين ونظراً للنفع الذي يحصل من خلال الخطبة وبخاصة إذا كان الخطيب قد جهز لهذه الخطبة وأعد العدة لها فإن الأولى في حقه ألا يستخلف لحصول النفع للمسلمين بها ولكون الوضوء ليس شرطا للخطبة، ولأن صلاة العيد في المصلى وليست في المسجد، ولذا لا إشكال في استمراره حتى لو كان الحدث بالإنزال، فمكثه في المصلى جائز بعكس المسجد.

ولذا قيل لمالك رحمه الله: أحدث الإمام بعد صلاة العيد قبل الخطبة أيستخلف بهم أم يخطب هو بالناس على غير وضوء؟ قال مالك رحمه الله أرى أن لا يستخلف الإمام وأن يتم بهم الخطبة.

(5) الاستخلاف في صلاة الخوف:

صلاة الخوف لها صفات متعددة جاءت بها نصوص الكتاب والسنة والمختار منها أن يجعلهم الإمام طائفتين: طائفة تحرس والأخرى تصلي معه ركعة، فإذا قام إلى الثانية نوت مفارقته وأتمت صلاتها وذهبت تحرس، وجاءت الأخرى فصلت معه الركعة الثانية، فإذا جلس للتشهد قامت فأتت بركعة أخرى، وينتظر حتى تتشهد فهذه هي الصفة المختارة، فإذا حصل للإمام حدث في أثنائها فماذا يفعل؟ الجائز في حقه أن يستخلف من يتم بهم، فإن كان قد صلى بهم ركعة قبل قيامه إلى الثانية فليقدم من يقوم بهم ثم يثبت المستخلف ويتم من خلفه، ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة ويسلم. ولو أحدث في الثانية أي بعد قيامه للثانية فلا يستخلف لأن من خلفه خرجوا من إمامته، فإذا أتموها وذهبوا أتت الطائفة الأخرى بإمام فقدموه.

أما إن كانت الصلاة صلاة المغرب فإنه يستخلف بكل حال مثل ما ذكرناه سابقاً.

(6) الاستخلاف في صلاة الخسوف:

شرع الله لعباده عند خسوف القمر وكسوف الشمس صلاة بصفة معينة جاءت بها نصوص السنة، ولما كانت هذه الصلاة تطول فيها القراءة ويطول فيها الركوع والسجود فقد يطرأ فيها للإمام ما ينبغي أو يوجب عليه تركها، كأن يحدث فيها مثلاً، أو يحصل له عذر شرعي مما يكون سبباً في خروجه منها، ولذا شرع له الاستخلاف في الصلوات المفروضة وغيرها.

لكن المسْتَخْلَف هل يكمل قراءة الإمام أم يبتدئ؟

الأولى أن يكمل إن كان حافظاً مما وقف عنده الإمام، وإن لم يكن حافظاً جاز له أن يبتدئ من أي موضع يحفظه، والأمر في هذا واسع ولله الحمد.

(7) الاستخلاف في صلاة الاستسقاء:

الكلام فيها كالكلام في صلاة العيدين فليراجع.

 (8)  الاستخلاف في صلاة الجنازة:

إذا أحدث الإمام في صلاة الجنازة: فإن كان المتوفى قد أوصى بأن يصلي عليه فلان من الناس، فإن لم يكن ففلان، فجاءا جميعاً فأحدث الأول فإنه يستخلف الموصى إليه الثاني،وإن لم يكن وصياً فإنه يأخذ بيد من يراه من أهل التقوى والورع وممن يغلب على ظنه قبول دعائه لأن ذلك أنفع للميت فيأخذ بيده ويستخلفه ويتم ما بقي من صلاة من استخلفه.

لكن إذا عارض أقارب الميت من استخلفه الإمام فالمعتبر في هذه الحالة قولهم فيختارون من شاءوا للصلاة عليه لأن الولاية ثابتة لهم.

 

المبحث الثاني

فيمن يصح استخلافه ومن لا يصح

تمهيد:

إذا نظرنا إلى الشروط المعتبرة في الإمامة نجد أنها أيضاً شروط معتبرة في الاستخلاف ولذا اشترط كون المستخلف صالحاً للإمامة كما ذكرناه سابقاً، لكن قد يكون من يصلى خلف الإمام ليس على الدرجة المطلوبة يعنى قد يكون أخف منه درجة وهذا يحدث كثيراً، بل إن شئت فقل إن الغالب على المأمومين كونهم غير مجيدي القراءة أو أميين.

ولما كان هذا الأمر مهماً بالنسبة للإمام والمأموم جعلنا لذلك مبحثاً نبين فيه من يصلح للاستخلاف ومن لا يصلح، ومتى يكون من لا يصلح مستخلفاً.

استخلاف الفاسق:

مما ينبغي نصح الأئمة به أنه إذا عزم أحدهم على الخروج من الصلاة لعذر قام به وأراد أن يستخلف أن يتقي الله ويحرص على اختيار أهل الدين والفضل لإكمال صلاة المأمومين مراعاة لحق صلاة المأموم فإن صلاة المأموم أمانة في عنق الإمام.

لكن لو أن إماماً استخلف فاسقاً فهل ينعقد الاستخلاف به؟

نقول اختلف أهل العلم في الصلاة خلف الفاسق هل هي صحيحة أم غير صحيحة؟

والصحيح أن في هذه المسألة تفصيلاً من جهة فسقه:

الجهة الأولى: أن يكون فِسْقِهِ من جهة الأعمال كأن يكون مرتكباً لكبيرةً من كبائر الذنوب كشرب خمرٍ وسرقةٍ وزنا، أو مرتكباً لصغيرةٍ من صغائر الذنوب كشرب دخان وحلق لحية فهذا اختلف أهل العلم في صحة استخلافه.

والصحيح أنه لا ينبغي للإمام أن يقدم مثل هؤلاء إذا أراد الاستخلاف لكن إذا قدمهم صحت الصلاة خلفهم.

الجهة الثانية: أن يكون فسقه من جهة الاعتقاد أو من جهة الأعمال التي بها

يصير المستخلف كافراً، كأن يكون ممن يذبح لغير الله، أو ممن يعتقد أن النفع والضر من غير الله، أو ممن يقوم بالسحر، فهذا لا يجوز استخلافه بلا خلاف بين أهل العلم، فمتى صلى المأموم خلف واحد من هؤلاء أو استخلفه الإمام جاز للمأموم أن ينفرد ويكمل صلاته وحده فإن أتمها خلفه أعاد([12]).

استخلاف الصبي:

اختلف أهل العلم في ثبوت الإمامة في حق الصبي، فذهب بعضهم وهم الأحناف والمالكية ورواية عند الحنابلة أن الصبي لا تصح إمامته، فإذا كانت لا تصح إمامته فلا يصح استخلافه هذا في الفريضة، أما في النافلة فلم يمنع إمامته إلا الأحناف.

وقال الشافعية وهي إحدى الروايات عند الحنابلة أن الصبي تصح إمامته وبالتالي يصح استخلافه وهذا هو الصحيح لثبوت الخبر في ذلك. فقد جاء في صحيح البخاري من حديث:عمرو بن سلمة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه صلوا كذا في حين كذا وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني، لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي ألا تغطون عنا است قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص)([13]).

استخلاف اللقيط:

المراد باللقيط: هو ولد الزنا، ولا خلاف بين أهل العلم في صحة الصلاة خلفه، غير أنهم اختلفوا في كراهية الصلاة خلفه، وبالتالي هل يكره استخلافه أم لا يكره؟

والصحيح عدم الكراهة في إمامته ما دام أنه أهلٌ لها، فكل من صحت صلاته صحت إمامته.

استخلاف العاجز:

إذا استخلف الإمام عاجزاً نقول: لا يخلو العاجز من حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون عجزه عن القيام في الصلاة، فهنا الصحيح من أقوال أهل العلم جواز استخلافه، لأنه متى صحت إمامته صح استخلافه، ولكن هل يصلى المأموم جالساً لجلوس المستخلَف؟

نقول: يصلى المأموم قائماً لأنه ابتدأ الصلاة قائماً ولا يضر جلوس الإمام المستخلف في هذه الحالة.

الحالة الثانية: أن يكون عجزه عن الركوع أو السجود، وهذا محل خلاف قوي بين أهل العلم والأولى أن يقال إنه ينبغي على الإمام أن لا يستخلف العاجز عن الركوع والسجود خروجاً من الخلاف، فإن لم يجد غيره للاستخلاف جاز له أن يقدمه فيصلى بإيمائه ويصلى المأموم بالركوع والسجود التَّامّين.

استخلاف من قومه له كارهون:

هذه المسألة مهمة جداً وبخاصة في هذه الأزمنة التي التبس فيها الحق بالباطل على كثير من الناس حيث أن بعضهم يكرهون بعض الأئمة لا لقصور في دينهم بل لغرض من أمور الدنيا أو نتيجة لأمر حصل بين الإمام وبين بعضهم فاختلفوا في مصلحة ما، ومن هنا تأتي الكراهية، لذا فلابد من وجود ضوابط تضبط بها هذه المسألة، فنقول وبالله التوفيق:

لا تخلو كراهية المأموم للمستخلف من حالتين:

الأولى: أن يكرهونه لنقص في دينه، كأن يكون المستخلف ظالماً، أو ممن يعاشر أهل الفسق ويجعل له أخلاء، أو يكون ممن ينقص هيئات الصلاة ولا يكملها، وهذا يصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم : (ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً رجل أمّ قوماً وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وأخوان متصارمان)([14]) أي متقاطعان.

الحالة الثانية: أن تكون كراهية المأموم للمستخلف من أجل تدينه وتمسكه بالسنة، فهنا لا اعتبار بهذه الكراهية، بل على المأموم أن يجاهد نفسه وأن يحمد ربه على أن من استخلفه إمامه صاحب دين وسنة.

استخلاف الأمي:

المراد بالأمي هنا الذي لا يقرأ الفاتحة على الوجه المطلوب فيحيل معانيها عن المعنى الذي جاءت به فهنا هل يجوز استخلافه؟

نقول: اختلف أهل العلم في حكم إمامة الأمي :فذهب الأئمة الأربعة إلى أنها لا تصح الصلاة خلفه، وهذا هو الصحيح وبالتالي إذا قلنا بعدم جواز إمامته فلا يصح عندئذ استخلافه، لكن إن استخلفه في الصلاة السرية دون الجهرية فالأمر في ذلك هين، بل نقول الأفضل في حقه استخلافه في السرية إذا كان من أهل الصلاح والدين لأنه لا يترتب على ذلك بطلان صلاة المأموم ما دام أنه لا يجهر بالقراءة.

وإذا كان المستخلف يجيد الفاتحة ولا يخطئ فيها في لحن وغيره ولا يجيد غيرها في القراءة الزائدة على الفاتحة فهل يشرع للإمام استخلافه؟

الصحيح: أنه يجوز استخلافه وتصح الصلاة خلفه لأن الفاتحة ركن، فما دام جاء به على الوجه المطلوب شرعاً صحت الصلاة بذلك، أما الزيادة على الفاتحة في الصلاة فهي سنة،وإن كان الأولى على الإمام اختيار من تصح قراءته في الزائد على الفاتحة.

استخلاف الوافدين العاملين من غير المواطنين:

إن مما نلاحظه عند الكثير انزعاجه عند رؤية من يصلي بهم من غير هذه البلاد وإن سألت عن السبب في ذلك رأيت الإجابة قد يكون لها شيء من القبول، فهم يرون أن غير هذه البلاد أهلها يكثر فيهم الشرك لما يكون في بلادهم من أضرحة وقبور يتوسل بها أهلها أو يستشفعون بهم أو يكون أهلها ممن يكون فيهم السحر كما هو مشاهد ويسمع به القاصي والداني، وبهذا نرى الكثير من الناس ينزعجون عند وجود من يؤمهم من غير هذه البلاد، بل تراهم يحرصون أشد الحرص على أن لا يؤمهم من غير جنسهم.

وهذا الأمر في الحقيقة غير مسلم به دائماً، بل نقول هناك من فيهم هذه الصفات المذكورة ومنهم من لا توجد فيهم إطلاقاً، بل يحارب أصحابها فنجد معتقده خالياً تماماً من هذه الأمور، لذا فلابد من الإنصاف والعدل في هذه المسألة فنقول:

للإمام أن يستخلف من الوافدين من يعرف عنه أنه ممن يخلو من هذه المعتقدات ممن يراه سلفي العقيدة، ولا عبرة بكراهية المأموم لذلك وبخاصة إذا كان المستخلف قارئاً للقرآن ومن طلبة العلم، لكن هذا مقرون بعدم التشويش على الناس، فإن كان في استخلافه له فيه فرقة واختلاف وبخاصة عند العامة فالأولى أن لا يستخلفه.

أما إن كان لا يعرف المستخلف أو كونه عنده أشياء في العقيدة وغير ذلك فلا ينبغي له أن يستخلفه لأنه ضامن لصلاة المأموم والمسؤولية عليه أعظم.

استخلاف الأعمى:

يجوز استخلاف الأعمى وهو كالبصير في الحكم ولا عبرة بقول من قال بأن البصير يقدم على الأعمى فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ابن أم مكتوم على غيره،بل إذا وجد الإمام حين استخلافه أعمى ذا دين وفضل وتتحقق فيه شروط الإمامة من كونه أقرأ لكتاب الله وأعلم بالسنة فهنا الأولى تقديمه على غيره.

استخلاف من يجن أحيانا:

والمراد به من يجن تارة ويفيق أخرى، وهذا يكره استخلافه وذلك لئلا يعرض الصلاة للإبطال في أثنائها فقد يجن في أثنائها، فإن قدمه صحت الصلاة خلفه ما لم يجن في أثنائها لأن الأصل السلامة فلا تفسد بالاحتمال.

استخلاف من به سلس بول:

قال ابن قدامة رحمه الله: (والمستحاضة ومن به سلس البول وأشباههم تصح صلاتهم في أنفسهم وبمن حاله كحالهم ولا تصح لغيرهم لأنهم أَخَلُّوا بغرض الصلاة فأشبه المضطجع يؤم القوم)([15])، والعلة عند الحنابلة في عدم إمامة من به سلس بول: أن حال من به سلس بول دون حال من سلم منه ولا يمكن أن يكون المأموم أعلى حالا من الإمام.

والقول الصحيح في ذلك: أن إمامة من به سلس بول صحيحة لمثله وبمن ليس به سلس بول لعموم قوله صلى الله عليه وسلم :(يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ)([16]). وهذا الرجل صلاته صحيحة لأنه فعل ما يجب عليه، وإذا كانت صلاته صحيحة لزم من ذلك ثبوت صحة إمامته.

وعلى ذلك نقول: يجوز للإمام أن يستخلف من به سلس بول ولا عبرة بقول من يقول بعدم صحة إمامته ولكن ينصح بأن لا يكون إماماً راتباً.

استخلاف من لبس لباس شهرة:

لباس الشهرة هو كل لباس يخالف فيه لابسه عرف أهل بلده وعاداتهم كمن يلبس في بلادنا البنطال أو الملابس المعلمة كلباس لاعبي الكرة، وكذا الملابس الضيقة وغيرها من الملابس التي تخالف عرفنا وعاداتنا. فنقول: إنه لا ينبغي للإمام أن يستخلف من لبس لباس شهرة وذلك لأمرين:

الأول: لكونه قد تلبس بالمعصية فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن أن يلبس الإنسان لباس شهرة. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ)([17]). وفي رواية: (مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ نَارًا)([18]).

الثاني: أنه مما يسبب نوعاً من المشاكل داخل المسجد بين الإمام والمأموم فإن غالب الناس يتحرون أن يكون الإمام على تقوى ودين وصلاح.

استخلاف المسبل:

لقد جاءت نصوص السنة تحذر تحذيراً شديداً من الإسبال في الثياب وإني لأعجب أشد العجب من أناس يسمعون قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء ذلك عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاثَ مِرَارٍ قَالَ أَبُو ذَرٍّ خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ)([19])، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسبل إزاره.

فبأي وجه يقابل المسبل إزاره ربه ونبيه بعد سماعه النصوص الشرعية الدالة على تحريم ذلك ولا يبالي.

ومن أجل ذلك اختلف أهل العلم في صحة صلاة المسبل، فهناك روايتان عن الإمام أحمد؛ إحداها أنها تبطل، وإذا قلنا ببطلانها كانت صلاة من خلفه باطلة إن كان إماماً.

 واحتج من قال بذلك بما جاء في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(بينما رجل يصلي مسبل إزاره قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :اذهب فتوضأ، فذهب فتوضأ ثم جاء فقال: اذهب فتوضأ فقال له رجل: يا رسول الله مالك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه؟ قال إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل)([20]).

وأخرجه أيضاً أبو داود بسنده عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام)([21]).

والصحيح عندي أن صلاة المسبل صحيحة مع الإثم فإن استخلفه الإمام صحت صلاته وصلاة من خلفه لكن لا ينبغي للإمام استخلافه ويتحرى كما ذكرنا سابقاً أهل الدين والفضل والتقوى لكي ينتهي كل مقصر في حق الله عن تقصيره، فلو علم المسبل أنك لم تستخلفه لكونه مسبلاً لثوبه لكان ذلك من باب دعوته ونصحه وردعه عن هذا المنكر.

استخلاف المرأة:

اختلف أهل العلم في جواز إمامة المرأة للرجال: فمنهم من قال إنها تجوز مطلقاً، أي في الفرض والنفل، وبه قال ابن جرير الطبري، ومنهم من قال لا تجوز مطلقاً، وبه قال جمهور أهل العلم، ومنهم من قال تجوز في النفل ولا تجوز في الفرض، وهي إحدى الروايتين عن أحمد واختارها ابن قدامة وهي المذهب عند الحنابلة احتجاجاً بحديث أم ورقة بنت نوفل رضي الله عنها فقد استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تتخذ في دراها مؤذناً فأذِنَ لها وأمرها أن تؤم أهل دارها. قال عبد الرحمن بن خلاد الأنصاري الذي روى الحديث عن أم ورقة فأنا رأيت مؤذنهاً شيخاً كبيراً([22]).

والصحيح عندي قول جمهور أهل العلم بعدم جواز إمامة المرأة في الفرض والنفل، فإن نصوص الشريعة جاءت لسد الذريعة في كل شيء فلما كانت المرأة باباً من أبواب الفتنة التي يفتتن بها الرجال أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون في آخر الصفوف إذا حضرت صلاة الرجال فقال:(خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)([23]).

بل بين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاتها في بيتها أفضل من شهودها الصلاة في جماعة مع الرجال كل ذلك صيانة لها وصيانة للرجال منها، ومن هنا نقول بأنه لا يجوز للمرأة أن تؤم الرجال في فريضة ولا نافلة.

أما حديث أم ورقة([24]) فهو لا يدل على أن مؤذنها كان يصلي معها وإنما دل على أنه كان يؤذن لها، فمن الممكن أنه كان يؤذن لها ثم يذهب إلى بعض المساجد فيصلي بها، وإذا كان الدليل محتملاً فهنا يسقط الاستدلال به. ومن هنا لا يجوز للإمام أن يستخلف المرأة لإتمام صلاة المأموم إذا حصل له من الأعذار التي تمنعه من إتمام الصلاة للأدلة العامة التي أمرت بقرارها في البيت وبعدها عن الرجال.

استخلاف الأصم:

الأصم هو من لا يسمع كلام غيره.

حكم استخلافه:

يجوز استخلاف الأصم وذلك لجواز إمامته، فإن كان أصم أعمى ففيه روايتان عند الحنابلة.

فقال بعضهم: لا تصح لأنه قد يسهو فلا يمكن تنبيهه.

وقال البعض: تصح لأنه لا يخل بشيء من واجبات الصلاة والسهو عارض وهذا هو الصحيح وهو الذي اختاره ابن قدامة في الكافي([25]).

استخلاف الأخرس:

يرى الحنابلة عدم جواز إمامة الأخرس لا بمثله ولا بغيره لأنه لا يستطيع النطق بالركن وهو قراءة الفاتحة ولا بالواجبات، ولا ما تنعقد به الصلاة وهو تكبيرة الإحرام فيكون عاجزاً عن الأركان والواجبات فلا يصح أن يكون إماماً لمن هو قادر على ذلك.

واختار شيخنا محمد الصالح العثيمين رحمه الله أن إمامة الأخرس تصح بمثله وبمن ليس بأخرس لأن القاعدة أن كل من صحت صلاته صحت إمامته([26]).

استخلاف الجندي (الشرطي):

الجندي يصح استخلافه لأن إمامته تصح ولا تكره وحتى لو كان في لباسه العسكري لأنه رجل من المسلمين، بل قد نقول إنه قام بعمل مصلحة عامة فيكون من هذا الوجه أحسن عملاً من الذي يعمل عملاً لمصلحة خاصة لعموم الحديث (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله)([27]) .

استخلاف المتيمم:

يجوز استخلاف المتيمم بالمتوضئ ولا حرج في ذلك فإن الله I سمّى التيمم تطهراً، فقال تعالى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} ([28]) فهو كالوضوء في الحكم غير أنه يختلف عند وجود المتيمم الماء فإنه يبطل تيممه.

فإن وجد الماء حال صلاته هل يخرج منها لكي يتوضأ؟ الصحيح عندي أنه يكملها ولا يخرج منها حال استخلافه وصلاة من خلفه صحيحة.

 استخلاف المسافر بالمقيم:

إذا استخلف إمام مقيم رجلاً مسافراً فإن استخلافه له صحيح لأن المسافر داخل بنية الإتمام فلا إشكال في استخلافه، وهل يشرع له القصر إذا صار إماماً؟

الجواب: لا يشرع له القصر لأنه ابتدأ الصلاة بنية الإتمام فلا يجوز له أن يجعلها قصراً بخلاف من يرى جواز ذلك.

استخلاف المقيم بالمسافر:

إذا استخلف إمام مسافر مقيماً يجوز له ذلك فإن كان هناك من المأمومين من هو مسافر أي دخل بنية القصر فإنه يبقى على نية القصر، فإذا قام المستخلف المقيم لإكمال صلاته جلس من دخل بنية القصر وله أن يتم تشهده وينصرف لكن الأولى أن ينتظر حتى ينتهي الإمام من صلاته فيسلم بتسليمه وذلك لحصول أمر المتابعة للإمام.

ويرى بعض أهل العلم أنهم إذا نووا الاقتداء به أتموا، بل قالوا وإن لم ينووا عليهم الإتمام([29]). والصحيح أنه لا يلزمهم الإتمام.

استخلاف المتنفل:

اختلف أهل العلم في جواز صلاة المفترض خلف المتنفل والصحيح من أقوالهم جوازها.

وبناء على ذلك نقول يجوز استخلاف المتنفل لإتمام صلاة المفترض.

 

المبحث الثالث

المسائل المتعلقة بأحكام الاستخلاف في الصلاة

المسألة الأولى: إذا خرج الإمام ولم يستخلف أحداً، فما العمل؟

الجواب : للمأمومين في هذه المسألة فعل أحد أمور ثلاثة:

الأول: يشرع لأحد المأمومين أن يتقدم لإتمام صلاتهم.

الثاني: يشرع للمأمومين أن يستخلفوا أحدا منهم لإكمال صلاتهم. ويشترط في كلا الأمرين أن لا يطول الفصل حال الاستخلاف، فإن طال لم يشرع لهم الاستخلاف وأتم كل واحد منهم صلاته منفرداً.

الثالث: إذا لم يستخلفوا أحداً جاز لهم أن يتموا صلاتهم فرادى.

المسألة الثانية: هل يتشرط الاستخلاف عن قرب؟

معنى قول الشافعي يشترط الاستخلاف عن قرب: أي على أن لا تطول المدة التي يحصل فيها الاستخلاف، وقد حددوها بقدر الإتيان بركن من أركان الصلاة.

والصحيح: أنه يرجع فيها إلى العرف.

وقيل في معنى الاستخلاف عن قرب: أي كون المستخلف قريباً من الإمام أي في الصف الذي يليه لأنه أدرى بأفعاله ويتيسر تقدمه فيقتدون به.

المسألة الثالثة: من الأحق بأن يستخلف الإمام أم المأموم؟

ذهب الفقهاء إلى أن الأحق بالاستخلاف الإمام وذلك لأنه أعلم بمن يستحق التقديم فهو من باب التعاون على البر والتقوى ولئلا يؤدي تركه إلى التنازع فيمن يتقدم فتبطل صلاتهم، فإن خرج ولم يستخلف جاز للمأمومين الاستخلاف لأنفسهم وذلك لتنازل الإمام عن حقه.

المسألة الرابعة: إذا تقدم أكثر من واحد، فما الحكم؟

هذه المسألة لها حالتان:

الأولى: أن يتقدم أكثر من واحد مع من استخلفه الإمام فهنا الأحق بها من

استخلفه الإمام.

الثانية: أن يتقدم أكثر من واحد وليس هناك أحد استخلفه الإمام فهنا الأحق بها الأسبق إذا تساويا في شروط الإمامة وإلا فالأولى بها من توفرت فيه شروط الإمامة.

الثالثة: أن يتقدم أكثر من واحد مع من استخلفه المأمومون فهنا الأحق من استخلفه المأموم والعبرة في ذلك للأكثر.

المسألة الخامسة: استخلاف مقطوع الرجل:

ذكرنا فيما سبق جواز استخلاف العاجز وبينا أن للعاجز حالتين:

إما أن يمنعه عجزه عن القيام فقط فهذا يجوز استخلافه وإما أن يمنعه عجزه عن الإتيان بالركوع والسجود فهنا الأولى للإمام أن لا يستخلفه خروجا من الخلاف الحاصل بين الأئمة.

المسألة السادسة: حكم استخلاف من يترك بعض السنن في صلاته:

كمن يترك وضع اليدين على الصدر في صلاته، ولا يجلس متوركاً، ومفترشاً، ولا يأتي بغير ذلك من السنن لا خلاف عند العلماء أن صلاة من ترك السنن صحيحة وعلى ذلك لو استخلف الإمام أحدا ممن لا يأتي بهذه السنن صح استخلافه ولكن الأولى له أن يستخلف من يحافظ على السنن في صلاته.

المسألة السابعة: حكم استخلاف من يترك صلاة الفجر في الجماعة:

كل من تلبس بمعصية لا ينبغي أن يكون إماما ولا مستخلفاً فالذي يترك صلاة الفجر في جماعة أو الذي حلق لحيته وهكذا المدخن وشارب المسكر وغيرهم من العصاة لا ينبغي أن يكونوا أئمة في الصلاة فإن استخلفهم صح استخلافهم فالمعصية لا تمنع الاستخلاف ولكن الأولى عدم استخلافهم.

المسألة الثامنة: صلاة أحد الحاضرين بدون إذن الإمام:

لا تخلو هذه المسألة من حالتين:

الأولى: أن يتأخر الإمام عن الموعد المعتاد أي الموعد المحدد بين الأذان والإقامة فهنا يجوز لبعض الحاضرين  أن يصلي بالناس بدون إذن الإمام لفعل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حين تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لما حضر وقت الصلاة وقد أقيمت فتقدم عبد الرحمن رضي الله عنه فصلى بالناس فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يتأخر عبد الرحمن أشار له النبي صلى الله عليه وسلم فكمل الصلاة وصلى معه النبي صلى الله عليه وسلم الركعة التي بقيت.

الثانية: أن لا يتأخر الإمام ولكن يتسرع المؤذن في الإقامة فيقيم قبل الوقت المحدد من قبل الأوقاف فهذا غلط ولا يجوز لأحد أن يتقدم على الإمام الراتب قبل مجيء الوقت المحدد بين الأذان والإقامة.

المسألة التاسعة: إذا تذكر الإمام أنه على غير وضوء فما العمل؟

ذكرنا ذلك سابقا وخلاصة القول في هذه المسألة أن يقال: للإمام أن يستخلف بهم وإن لم يستخلف واستخلفوا من يكمل بهم الصلاة صح ذلك. وإن كان دخلها على غير وضوء ولكنه لما انتهى تذكر أنه على غير وضوء صحت صلاتهم.

فالمهم إن قدم من يكمل بهم فالحمد لله وإن لم يقدم فلهم أن يقدموا من يكمل بهم وإن أتم كل واحد لنفسه أجزأ ذلك في أصح القولين لأهل العلم.

المسألة العاشرة: في حكم استخلاف من استُخْلِفَ:

إذا استخلف الإمام زيدا من الناس فلا ينبغي لمن استخلفه الإمام أن يستخلف مكانه  لأن هذا شبه الوكيل ولا يوكل في مثل هذا غيره مادام الإمام استخلفه وارتضاه للمأمومين، فإن حصل له عارض يمنعه من القيام والسجود جاز له أن يجلس ويتموا صلاتهم قياما.

فإن كان المستخلف مسبوقا أشار إليهم أن يجلسوا ثم يأتي بما فاته  فإذا جاء به سلم ويسلم المأموم  بتسليمه وهذا هو المشروع في حقهم.

فإذا حصل للمستخلف عذر من حدث ونحوه مما يوجب له الخروج من الصلاة فهنا يجوز له أن يستخلف للضرورة.

المسألة الحادية عشرة: إذا رأى الإمام في ثوبه دماً:

هل يجزئه أن ينزعه وهو في الصلاة ثم يكملها أم يخرج ويستخلف مكانه؟

هذه المسالة محل خلاف بين أهل العلم:

فقال بعضهم: بل على الإمام أن يخرج ثم ينزع ثوبه ويغسله إن أحب ثم يرجع مع الناس فيما أدرك ويُدخل عند خروجه رجلا فيبنى الداخل على صلاة الإمام لأن ما مضى منها مجزئ عمن خلفه ومنتقض عليه هو فلذلك لزمه الخروج.

وقال آخرون: إن كان عليه من الثياب ما تجزئه الصلاة به نزعه وتمادى في صلاته وإن لم يكن عليه غير هذا الثوب استخلف غيره وهذا هو الذي نرجحه.

ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل في صلاته وهو لابس نعله وفيها نجاسة جاء إليه جبريل فأخبره فخلعها صلى الله عليه وسلم ولم يخرج من صلاته بل أكملها([30]) فهذا دليل صريح على ما ذكرناه والله أعلم.

المسألة الثانية عشرة: إذا أحدث الإمام ثم استخلف مسبوقاً فلما قام ليقضي لنفسه قام رجل فأتم به فيما بقي لأنه هو الآخر مسبوق، هل تكون صلاته مجزئة؟

الصحيح أن صلاته مجزئه تامة لأن الإمام المستخلف قام مقام الإمام الأصلي فجاز للمسبوق أن يأتم به كما لو ائتم بالإمام الأصلي.

المسألة الثالثة عشرة: في تعدد المسبوقين ثم قدم الإمام آخرهم:

إمام مسجد أقام الصلاة وصلى ركعة مع رجل واحد ثم جاء رجل آخر فصلى به ركعة مع الأول ثم جاء ثالث فصلى به الثالثة ثم قام في الرابعة فدخل معه فيها رجل رابع فأحدث الإمام فيها فقدم الرابع وهذا آخرهم كيف يصنع ويصنعون في صلاتهم؟

نقول في هذه المسألة:

أولاً: الأولى للإمام أن يستخلف من ائتم به من أول الصلاة لكي لا يحدث نوع تشويش على المصلين وإن كان المستخلف أقل رتبة في القراءة والفقه من المسبوق إلا أن يكون من ائتم به أولاً مخروق العدالة والدين فهنا الأولى له أن يقدم المسبوق.

ثانياً: فإن قدم المسبوق الذي هو الرابع كما هو المذكــور في هذه المسألة فالمشروع

في حقه أن يتم بقية صلاة الإمام ثم يقوم فيقضي ما عليه وهم قعود ثم يسلم ويسلم من أتم الصلاة ويقوم من فاته بعض الصلاة فيتم ما بقي عليه([31]).

المسألة الرابعة عشرة: إمام أحدث فقدم رجلاً قد دخل في الصلاة قبل حدث الإمام وهو جاهل بما مضى للقوم وللإمام كيف يصنع المقدم؟

له في هذه الحالة عدة أمور:

إما أن يشير إليهم حتى يفهم ما ذهب من الصلاة، أو ما بقي منها، أو أن يمضي فيها حتى يسبح له فلا بأس بذلك، وإن لم يجد بداً إلا أن يتكلم فلا بأس به عند بعض أهل العلم لأن الكلام فيما تدعو إليه الضرورة من إصلاح الصلاة جائز، وبهذا قال بعض المالكية([32])، وهو عندي غير جائز.

المسألة الخامسة عشرة: إمام أحدث فقدم رجلاً أمياً لا يحسن القراءة كيف يصنع؟

هل يتأخر ويقدم غيره؟ أم يمضي بالقوم في الصلاة التي استخلف فيها يسبح ويهلل ويحمد الله ويكبر؟ وإذا صلى بهم بغير قراءة حتى فرغ هل تكون عليهم إعادة الصلاة؟

نقول: الصحيح أنه مادام أمياً لا يحسن أن يقرأ فإنه يتأخر ويقدم غيره ممن يحسن القراءة فيصلي بالقوم، وإن لم يفعل ولم يقدم غيره فإن كان ممن يجيد الفاتحة أجزأتهم هذه الصلاة وإن لم يكن من أهل إجادتها بل عنده فيها لحن جلي يحيل المعنى فهنا لا تصح إمامته.

المسألة السادسة عشرة: إمام صلى برجل وامرأتين فأحدث الإمام وخرج ولم يقدم صاحبه ونوى صاحبه أن يؤم نفسه والمرأتين حتى صلى بقية الصلاة، هل تكون صلاته مجزئة ولا تفسد عليهم؟

نعم لا بأس به وتجزئهم صلاتهم، وإن لم يستخلفه إذا نوى أن يكون إمامهم([33]).

المسألة السابعة عشرة: إذا قدم الإمام إنساناً فتقدم غيره فأم القوم فاقتدى به مستخلف الإمام:

هنا ينظر إلى حال من تقدم فإن اجتمعت فيه شروط الاستخلاف صحت صلاة الجميع على نحو ما تقدم في المبحث الثاني ممن يصح استخلافه.

قلت: هذا آخر ما تم بيانه في فقه الاستخلاف في الصلاة.

أسأل الله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به كاتبه وقارئه، وأن يوفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

فهرس الموضوعات

الموضوع الصفحة
المقدمة:  
المبحث الأول: الاستخلاف: تعريفه، وحكمه، وشروطه، وكيفيته:  
أولاً: تعريف الاستخلاف:  
ثانياً: حكم الاستخلاف في الصلاة:  
ثالثاً: شروط الاستخلاف:  
(1) الشروط المعتبرة في الاستخلاف في حق الإمام:  
(2) الشروط المعتبرة فيمن يستخلفه الإمام:  
(3) الشروط المعتبرة في حق الأمومين:  
رابعاً: كيفية الاستخلاف؟  
الاستخلاف في الصلاة:  
(1) الاستخلاف في الأذان والإقامة:  
أولاً: الاستخلاف في الأذان:  
ثانياً: الاستخلاف في الإقامة:  
(2) الاستخلاف في صلاة الجماعة:  
المسألة الأولى: استخلاف من سبق ببعض الصلاة:  
المسألة الثانية: في استخلاف غير المأموم:  
المسألة الثالثة: في رجوع الإمام الراتب بعد إحرام نائبه.  
(3) الاستخلاف في خطبة الجمعة:  
أولاً: الاستخلاف في خطبة الجمعة:  
ثانياً: الاستخلاف في صلاة الجمعة:  
(4) الاستخلاف في صلاة العيدين:  
(5) الاستخلاف في صلاة الخوف:  
(6) الاستخلاف في صلاة الخسوف:  
(7) الاستخلاف في صلاة الاستسقاء:  
(8) الاستخلاف في صلاة الجنازة:  
المبحث الثاني: فيمن يصح استخلافه ومن لا يصح:  
تمهيد:  
استخلاف الفاسق:  
استخلاف الصبي:  
استخلاف اللقيط:  
استخلاف العاجز:  
استخلاف من قومه له كارهون:  
استخلاف الأمي:  
استخلاف الوافدين العاملين من غير المواطنين:  
استخلاف الأعمى:  
استخلاف من يجن أحياناً:  
استخلاف من به سلس بول:  
استخلاف من لبس لباس شهرة:  
استخلاف المسبل:  
استخلاف المرأة:  
استخلاف الأصم:  
استخلاف الأخرس:  
استخلاف الجندي (الشرطي)  
استخلاف المتيمم  
استخلاف المسافر بالمقيم:  
استخلاف المقيم بالمسافر  
استخلاف المتنفل  
المبحث الثالث: المسائل المتعلقة بأحكام الاستخلاف في الصلاة:  
المسألة الأولى: إذا خرج الإمام ولم يستخلف أحداً، فما العمل؟  
المسألة الثانية: هل يشترط الاستخلاف عن قرب؟  
المسألة الثالثة: من الأحق بأن يستخلف: الإمام أم المأموم؟  
المسألة الرابعة: إذا تقدم أكثر من واحد، فما الحكم؟  
المسألة الخامسة: استخلاف مقطوع الرجل:  
المسألة السادسة: حكم استخلاف من يترك بعض السنن في صلاته:  
المسألة السابعة: حكم استخلاف من يترك صلاة الفجر في الجماعة؟  
المسألة الثامنة: صلاة أحد الحاضرين بدون إذن الإمام:  
المسألة التاسعة: إذا تذكر الإمام أنه على غير وضوء، فما العمل:  
المسألة العاشرة: في حكم استخلاف من استخلف:  
المسألة الحادية عشرة: إذا رأى الإمام في ثوبه دماً:  
المسالة الثانية عشرة: إذا أحدث الإمام ثم استخلف مسبوقاً…  
المسألة الثالثة عشرة: في تعدد المسبوقين ثم قدم الإمام آخرهم..  
المسالة الرابعة عشرة: إمام أحدث فقدم رجلاً قد دخل في الصلاة قبل حدث الإمام:  
المسألة الخامسة عشرة: إمام أحدث فقدم رجلاً أمياً لا يحسن القراءة كيف يصنع؟  
المسالة السادسة عشرة: إمام صلى برجل وامرأتين فأحدث الإمام وخرج ولم يقدم صاحبه…  
المسألة السابعة عشرة: إذا قدم الإمام إنساناً فتقدم غيره فأم القوم فاقتدى به مستخلف الإمام..  
فهرس الموضوعات  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) يونس الآية (58)

([2]) لسان العرب (26/82-83-85).

([3]) الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/648).

([4]) المغني لابن قدامة (2/507).

([5]) بدائع الصنائع (1/22).

([6]) الهداية للمرغيناني (1/267-268).

([7]) حاشية ابن عابدين (1/600).

([8]) حاشية ابن عابدين (1/600)، بدائع الصنائع (1/222).

([9]) البحر الرائق لابن نجيم (1/391).

([10]) رواه مسلم ـ كتاب الصلاة ـ باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول (1/323).

([11]) رواه البخاري ـ كتاب الأذان ـ باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول (643)، ومسلم ـ كتاب الصلاة ـ باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام (639).

([12]) انظر كلام شيخنا الشيخ محمد ابن العثيمين رحمه الله في شرحه للزاد في حكم الصلاة خلف الفاسق (4/304).

([13]) مختصر البخاري للزبيدي حديث رقم (1588) كتاب المغازي.

([14]) رواه ابن ماجة (1/311) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها – باب من أم قوما هم له كارهون، قال الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجة (1/160) ضعيف بهذا اللفظ، وحسن بلفظ (العبد الآبق) مكان (الأخوان متصارمان).

([15]) الكافي (1/184).

([16]) رواه مسلم ـ كتاب المساجد ـ باب من أحق بالإمامة (1078).

([17]) رواه ابن ماجة، وحسنه الألباني في سنن ابن ماجة (2/284) رقم (2905).

([18]) رواه ابن ماجة، وحسنه الألباني في سنن ابن ماجة (2/284) رقم (2906).

([19]) رواه مسلم ـ كتاب الإيمان ـ باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية، (154).

([20]) رواه أبو داود، وضعفه الألباني في سنن أبي داود (1/172) رقم (638).

([21]) رواه أبو داود رقم (637)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/126) رقم (595).

([22]) رواه أبو داود ـ كتاب الصلاة ـ باب إمامة النساء (1/396-397) وحسنه الألباني.

([23]) رواه مسلم ـ كتاب الصلاة ـ باب تسوية الصفوف وإقامتها (1/329).

([24]) سبق تخريجه، ص .

([25]) الكافي (1/181).

([26]) الممتع شرح زاد المستقنع (4/318-319).

([27]) الممتع شرح زاد المستقنع (4/356).

([28]) سورة النساء: 43.

([29]) انظر في ذلك: مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج (1/269).

([30]) رواه أبو داود، وصححه الألباني في سنن أبي داود (1/175) رقم (650).

([31]) البيان والتحصيل لابن رشد القرطبي (2/125).

([32]) البيان والتحصيل لابن رشد القرطبي (2/126).

([33]) المرجع السابق (2/128).