82 – من أحكام المتهم في الفقه الإسلامي

الأربعاء 19 رجب 1445هـ 31-1-2024م

 

82 –  من أحكام المتهم في الفقه الإسلامي pdf

 

 

رسالة بعنوان

من أحكام المتهم

في الفقه الإسلامي

 

تأليف

أ.د عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار

 

  

المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فالإسلام دين شامل يتناول شئون الحياة كلها، وقد جاءت شريعته الغراء خالدة كاملة مبرأة من النقص والقصور، تأوي إلى كنفها البشرية فتجد في ظلالها الوارفة ما يعالج مشكلاتها ويفصل بين خصوماتها بما تطيب به النفس ويطمئن إليه القلب ويرتاح له الفؤاد، ومتى تأزمت الأمور وضاق بالناس المخرج فإن شريعة الإسلام سفينة النجاة وطريق السلامة والبلسم الشافي بإذن الله من كل داء.

لكن لا بد من الأحكام لهذه الشريعة في صغار الأمور وكبارها، والرجوع إليها في شئون الحياة كلها، وصدق الله العظيم:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65).

وقد اجتهد علماء الإسلام في فهم نصوص الشريعة وفقه وجوه الدلالة المختلفة واستنباط الأحكام التي أَثْرتْ الفقه الإسلامي في كل باب من أبوابه.

لقد أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد الحق والعدل، وبيّن كيف يحتكم الناس إلى شرع الله، ولم يحجر على أحد أن يجتهد في هذا الدين مما ليس فيه نص في كتاب الله أو سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الاجتهاد المأذون فيه مشروط أن يكون في إطار النصوص الشرعية لا يتعداها إلى غيرها.

ولعل من أكثر الأمور التي يتجلى فيها هذا الاجتهاد مجال القضاء والتحاكم بين الناس.

وقد حرص الإسلام أن يكون القضاء بين الناس منهياً للخصومات قاضياً على دوافع الشر والمنازعات، ولذا كان تاريخ القضاء بين الناس في الإسلام حافلاً ومتميزاً من حيث نوعية القضاة والدقة في اختيارهم ومتابعتهم من قبل ولاة الأمور وإكرامهم ليقوموا بعملهم أتم قيام.

وها هو الشاهد الواقعي على هذا في بلدنا المملكة العربية السعودية؛ يحتل القضاة فيها مكانة رفيعة ومنزلة عالية، ولهم حصانة وحماية متميزة.

نسأل الله أني يزيد بلادنا تمسكاً بشرعه، وأن يديم عليها نعمة الأمن والاستقرار، وأن يحفظها من كل سوء ومكروه.

 

المتهم في نظر الإسلام

 من مبادئ شريعة الإسلام المقررة وقواعدها الأساسية في نظام الجزاء والعقوبة مبدأ ـ شخصية المسئولية ـ، فلا يُسأل عن الجرم إلا فاعلُه، ولا يُؤخذ امرؤ بجريرة غيره مهما كانت درجة القرابة أو العلاقة بينهما، وقد قرر القرآن هذا المبدأ.

قال تعالى:{وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى..} (فصلت: الآية 46).

وقوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}(فصلت: الآية 46).

وقوله تعالى:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}(النساء: الآية 123).

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤخذ الرجل بجناية أبيه ولا بجناية أخيه)([1]).

وأما تحميل العاقل الدية وإيجاب الزكاة في مال الغني للفقير فهذا من باب المواساة وليس من باب اشتراكه في الذنب، بل لتحقيق أوجه التعاون والتراحم في المجتمع المسلم وصدق الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)([2]).

تعريف التهمة:

التهمة في اللغة: الشك والريبة، واتهم الرجل اتهاماً، واتهمته: ظننت به سوءًا([3]).

والتهمة في الاصطلاح: يمكن تعريفها بما يأتي:

ـ هي أنه يدعى على شخص جريمة من الجرائم التي توجب الحد أو القصاص أو التعزير وتكون هذه الدعوى مصحوبة بالارتياب في المدعى عليه.

ـ وقد يكون مبعث التهمة وجود المدعى عليه بين السُّرَّاق أو الزناة ونحوهم، وقد يكون مبعثها وجود المال الكثير مع المدعى عليه ينفقه في شهواته ببذخ وإسراف غير معروف عنه، وليس مصدر رزق بل المعهود من حاله الفقر وقلة ذات اليد.

ـ وقد يكون منشؤها وجود المدعى عليه مع امرأة أو أمرد في لحاف واحد أو محلولي السراويل.

ـ أو وجود المدعى عليه واقفاً عند القتيل وليس هناك أحد سواه، أو وجود بعض المال المسروق عند المدعى عليه مع دعواه أنه اشتراه ولا بيّنة.

ـ أو كون المدعى عليه معروفاً بتعرضه للنساء وتلطفه لهن في الحديث.

ـ أو كون المدعى عليه مع عصابة اشتهرت بتعاطي المخدرات والاتجار فيها.

ـ أو كون المدعى عليه في محل توجد به أشربة مسكرة مخبأة.

إلى غير ذلك من الأمثلة.

والتهمة قد تكون قوية، وقد تكون ضعيفة، والعبرة بشواهد الحال.

فقد يكون الشاكي معروفاً بالبرِّ والصلاح والصدق في القول ولا حامل له على الاتهام من ظهور عداوة أو سبب داعٍ إلى ريبة في ذلك.

وقد يكون المتهم معروفاً بالجناية وسلوك الطريق الذميمة كالمعروفين بالسرقات أو غيرها مما اتهم به. وإذا كان الأمر عكس ذلك في الطرفين فلا يعوّل على هذه التهمة لضعفها.

أقسام التهم وأقسام المتهمين:

الدعاوى تنقسم إلى قسمين:

1) دعاوى غير تهمة:

كأن يدّعي عقداً من بيعٍ أو قرض أو رهن أو ضمان وغير ذلك.

فهذه الدعاوى إن أقام المدعي حجَّة شرعية على صدق دعواه فالحكم ظاهر. وإلا فالقول قول المدعى عليه مع يمينه.

وقد أخرج مسلم([4]) بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطي الناس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه).

وفي رواية عند البيهقي([5]) بسند حسن: (ولكنَّ البينة على المدعي واليمين على من أنكر).

قال النووي في شرحه على مسلم: “وهذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد أحكام الشرع، ففيه أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه، بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدّعى عليه فإن طلب يمين المدّعى عليه فله ذلك”.

2) دعاوى التهم:

وهي دعاوى الجنايات والأفعـال المحرمة كدعوى القتل وقطع الطريق والسرقة والقذف والزنا والعدوان وغير ذلك مما يقع بين الناس.

والمتهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1) فإما أن يكون بريئاً ليس من أهل تلك التهمة.

2) أو يكون فاجراً من أهل تلك التهمة.

3) أو يكون مجهول الحال لا يُعرف ببرٍّ ولا فجور.

وهذا التقسيم هو أظهر ما ذكره العلماء حول المتهمين، وقد ارتضاها شيخ الإسلام([6]) ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم([7]) رحمها الله تعالى.

أولاً: المتهم المعروف بالصلاح والتقى:

لا خلاف بين أهل العلم أن المتهم المعروف بالدين والورع لا يسجن ولا يضرب لأجل تلك التهمة الكاذبة بل يخلى سبيله لأنه برئ.

لكن السؤال الذي يرد هل يعاقب مُتَّهِمُه؟

ذهب بعض أهل العلم إلى أن المدّعي إذا ظهر كذبه في دعواه فإنه يعزر عقاباً له على كذبه وسواء كان قصده أذية المدعى عليه بهذه التهمة أو لا.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن المدعي لا يؤدب إذا صدر ذلك منه على وجه الدعوى عند حاكم شرعي، أما إذا صدر على وجه السب والشتم أو الانتقاص فإنه يعزر.

والراجح أنه يؤدب قصد الأذية أو لم يقصدها وذلك دفعاً للأضرار التي تنجم عن هذه الدعوى، ولئلا يتساهل الناس بهذا الأمر ويقدمون على الدعوى، بل يوضع لهم رادع يردعهم وخصوصاً إذا كانوا من الأشرار والسفهاء والمدعى عليهم من الأتقياء الصالحين.

ثانياً: المتهم المجهول الحال:

اختلف العلماء في حكم سجنه وتأديبه ـ إذا كان لا يُعرف ببرٍّ ولا فجور ـ ولهم في ذلك قولان:

الأول: ذهب ابن حزم([8]) رحمه الله وغيره من أهل العلم إلى أنه لا يجوز سجن المتهم المجهول الحال.

قالوا: لأن سجن المتهم المجهول الحال مبناه على الظن، والاعتماد على الظن منهي عنه في شرعنا المطهر.

الثاني: وذهب بعض أهل العلم إلى القول بسجن المتهم المجهول الحال ورجّحه كثير من العلماء، ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ([9])، وتلميذه ابن القيم([10]) رحمهما الله.

والراجح: أن المجهول الحال يسجن إذا لحقته التهمة؛ لأنه لا مناسبة بين ذمّ الظن وسجن مجهول الحال؛ لأن سجن مجهول الحال من باب الاحتياط حتى يتبين أمره.

لا سيما وقد ثبت سجن مجهول الحال من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الغفاريين بسند مرسل، وبعض العلماء يحتج بالحديث المرسل.

وإذا قلنا بسجن مجهول الحال فهل تقدر المدة بزمن محدد أم أن مرد ذلك للحاكم حسب اجتهاده.

والراجح: أن الأمر راجع إلى اجتهاد الحاكم؛ لأن التوقيت يحتاج إلى دليل ولا دليل هنا، ثم إن القضايا تختلف حسب ظروفها وملابستها وأطرافها ومن الذي يتولى سجنه؟

الراجح: أن الذي يتولى سجن مجهول الحال الحاكم المسلم أو من ينيبه من القضاة.

ثالثاً: المتهم المعروف بالفجور:

أ_ سجن المتهم المعروف بالفجور:

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: قيل يجوز سجنه ورجح ذلك العلامة ابن حزم([11]) رحمه الله، قالوا: لأن حبس هذا النوع من المجرمين معارض للأدلة الدالة على درء الحدود بالشبهات والأدلة الدالة على الستر على المسلم.

ومن هذه الأدلة حديث الترمذي([12]): (ادرءوا الحدود بالشبهات)، وقد ضعفه جمع من أهل العلم.

وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ([13]).

وقوله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مسلم كربة..)، إلى قوله: (.. ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)([14]).

القول الثاني: وذهب الجمهور إلى جواز سجن المتهم المعروف بالفجور.

لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم (حبس رجلاً في تهمة)([15]).

ولما ثبت في قصة عم حيي بن أخطب حينما أخفى المسك والذهب فدفعه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسَّه بعذاب حتى اعترف، ودلَّهم على الخربة التي فيها المسك. والحديث أخرجه البيهقي([16]) بسند رجاله ثقات.

والراجح قول الجمهور إذ لا معارضة بين درء الحدود والستر وبين حبس المتهمين إذ لو لم يحبس المتهم لما اعترف بما ارتكبه ولزاد شره وتعدى ضرره للآخرين.

لكن هل تحدد مدة السجن؟

الذي يترجح لي أن تقرير المدة مرده لولي الأمر أو من ينيبه من القضاة، فهم الذين يقدرون المدة وهي دونما شك تتفاوت حسب الأشخاص المتهمين وحسب التهم التي توجه لهم. والله أعلم.

ب_ ضرب المتهم المعروف بالفجور:

اختلف أهل العلم في حكم ضرب المتهم المعروف بالفجـور ليعترف بما اتهم به، على قولين:

أولاً: ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا يجوز ضرب المتهم بل يكتفي بحبسه، واستدلوا بحديث حجَّة الوداع في خطبته صلى الله عليه وسلم التي أخرجها البخاري([17]) وغيره.

وفيه: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام …) الحديث.

ثانياً: ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يجوز للإمام ضرب المتهم المعروف بالفجور إذا رأى أن من المصلحة ضربه، واستدلوا بقصة عم حيي بن أخطب حيث مسَّه الزبير بالضرب في قصة إخفاء المسك والذهب.

وكذا استدلوا بالمعقول؛ لأن من وجب عليه حق وهو قادر على أدائه وامتنع فيعاقب حتى أدائه، فكذلك المعروف بالفجور إذا اتهم يعاقب حتى يصدق عن حاله ذلك أن الهدف من ضرب المتهم إيصال الحق إلى مستحقه؛ ولأنه لو لم يضرب المتهم لتعطل وصول الحقوق إلى أصحابها.

لكن هؤلاء الذين أجازوا الضرب هل يقصرونه على حق الآدميين أن يشمل حقوق الله جل وعلا.

المسألة عندهم محل خلاف:

والصحيح أنه يشمل الأمرين معاً، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله([18]).

مسألة: ومتى أقر المتهم بسبب طول مدة السجن أو بسبب الضرب فهل يؤخذ بإقراره.

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:

أ_ ذهب الجمهور إلى أنه لا يؤخذ بإقراره تحت الضرب، بل لا بد من إقرار آخر خارج السجن، وبعيداً عن الضرب، واستدلوا بما ثبت:(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)([19]). قال المناوي إسناده حسن .

ولأن الإكراه على البيع لا يجوز بالاتفاق، فكذلك الإكراه على الإقرار بجامع أن كليهما إقرار بغير حق.

ب_ وذهب جماعة من العلماء إلى أنه يؤخذ بإقرار المتهم، وإذا رجع عن هذا الإقرار بعد الضرب لم يقبل منه. واستدلوا بأنه لا خلاف في صحة إسلام الكافر تحت ظلال السيوف وأنه مأخوذ به، فكذلك الإقرار مع التعذيب بالضرب والسجن يؤخذ به بجامع أن العلة فيهما أن الإكراه بطريق صحيح.

ج_ وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يؤخذ بإقرار المتهم إذا ظهر صدقه مثل أن يخرج السرقة بعينها.

والراجح: أنه يؤخذ بالإقرار إذا انضم إليه ما يعضده، أما مجرد الإقرار فلا يلتفت إليه؛ لأنه تهمة والتهمة شبهة والحدود تدرأ بالشبهات.

  • فائدة:

ولكن لقائل أن يقول: ما فائدة سجن المتهم وضربه إذا لم يؤخذ بإقراره؟.

والجواب على ذلك:

أن في سجن المتهم وضربه ردعاً وزجراً لغيره من أفراد المجتمع وبذلك يقل الفساد في الأرض، ثم أنه ليس كل اعتراف موجب للحد فالسارق قد يدّعي :

أ_ أنه أخذه بوجه حق كالاستعارة والاستيداع وغير ذلك.

ب_ أنه قد يستمر على إقراره وهنا يؤخذ بهذا الإقرار وتوقع عليه العقوبة.

  • فائدة:

قال ابن حزم رحمه الله: وأما إيهامه دون تهديد ما يوجب عليه الإقرار فحسن، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين فرّق بين المدعى عليهم القتل وأسر إلى أحدهم، ثم رفع صوته بالتكبير فوهم الآخر أنه أقر، ثم دعى الآخر فسأله فأقر، ثم لا زال بهم حتى أقروا كلهم دون إكراه أو ضرب.

سجن المجرم احتياطاً حتى استيفاء العقوبة منه:

هناك قاعدة عامة تندرج تحتها الأمثلة الكثيرة التي ذكرها الفقهاء حول سجن المجرم حتى استيفاء العقوبة منه.

وهذه القاعدة هي: (كل من وجبت عليه عقوبة وأخرت لعذر فإنه يسجن حتى زوال ذلك العذر).

قال الجويني الشافعي([20]) رحمه الله: “كل من أُخِّر حده لعذر فلا يخلّى، بل يحبس حتى يزول عذره”.

وقال ابن قدامة الحنبلي([21]) :”وكل موضع وجب تأخير الاستيفاء فإن القاتل يحبس حتى يبلغ الصغير ويعقل المجنون ويقدم الغائب”.

ومن الأمثلة التي ذكرها الفقهاء حول هذه القاعدة:

أ_ سجن الحامل: فالصحيح من كلام أهل العلم أن الحامل تسجن ولا يقام عليها الحد إذا كان يذهب بالنفس كالرجم مثلاً، وكذلك عقوبة الجلد، لكن هل تجلد بعد الولادة مباشرة أو بعد انقطاع النفاس؟ محل خلاف بين أهل العلم.

ودليل ذلك حديث الغامدية حيث ردّها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولدت ثم أقام عليها الحد ([22]).

لكن هل تحبس هذه المدة؟ محل خلاف بين أهل العلم. قيل: تحبس في حق الله وحق العباد. وقيل: تحبس في حق العباد فقط لأن مبناها على المشاحة.

ب_ ومن الأمثلة: سجن القاتل حتى بلوغ القُصَّر وعقل المجنون ـ إذا كان ممكنا ـ وقدوم الغائب؛ لأن القتل للتشفي، وهؤلاء لهم حق فيه فينبغي انتظارهم.

ج_ وكذلك وجود البرد الشديد والحر الشديد الذي يؤثر على الجاني؛ لأن المقصود جلده وليس المقصود إزهاق روحه، وكذلك لو كان مريضاً فيحبس حتى زوال مرضه …. وهكذا.

سجن كل من يخشى من قوله أو فعله على الناس:

هناك قاعدة عامة تجمع شتات الأمثلة التي ذكرها الفقهاء حول هذا الأمر وهي: (كل من يخشى من قوله أو فعله على الناس يسجن حتى يتوب أو يموت اتقاء لشره).

ومن الأمثلة على ذلك:

أ_ المبتدع الداعي إلى بدعته: وهي لا توجب كفراً، ينبغي أن يؤدب ويودع السجن حتى يحدث خيراً.

ب_ البغاة الخارجون عن طاعة ولي الأمر: ينبغي أن يؤدبوا ويحبسون حتى يتوبوا وإلا فلا يخلى سبيلهم دفعاً لشرهم بقدر الإمكان، ومن اعتدى منهم على أحد أو روّع الآمنين أو قتل الأبرياء أو اعتدى على الممتلكات فلولي الأمر إزهاق روحه دفعاً لشره وعدوانه.

ج_ الكاهن والساحر والعراف: فهؤلاء يستتابون؛ فإن تابوا وإلا لولي الأمر أن يحبسهم حتى الموت أو يزهق أرواحهم اتقاء لشرهم وفسادهم.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة فقالت: يا رسول الله والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليَّ أن يذلوا من أهل خبائك وما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليَّ أن يعزوا من أهل خبائك، ثم قالت: إن أبا سفيان رجل مسِّيك، فهل عليَّ من حرج أن أطعم الذي له عيالنا. قال لها: (لا حرج عليك أن تطعميهم من معروف)([23]).

عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة ثم خلى عنه) ([24]).

عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناساً من قومي في تهمة فحبسهم فجاء رجل من قومي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال يا محمد علام تحبس جيرتي، فصمت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ناساً ليقولون إنك تنهي عن الشر وتستخلى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يقول؟)، قال فجعلتُ أعرض بينهما بالكلام مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي دعوة لا يفلحون بعدها أبداً، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم به حتى فهمها، فقال: (قد قالوها أو قائلها منهم، والله لو فعلت لكان عليَّ وما كان عليهم خلو له عن جيرانه)([25]).

عن النعمان بن بشير أنه رفع إليه نفر من الكلاعيين أن حاكة سرقوا متاعاً فحبسهم أياماً ثم خلى سبيلهم فأتوه فقالوا خليَّت سبيل هؤلاء بلا امتحان ولا ضرب، فقال النعمان: ما شئتم إن شئتم أضربهم فإن أخرج الله متاعكم فذاك وإلا أخذت ظهوركم مثله، قالوا: هذا حكمك قال: هذا حكم الله عز وجل ورسوله([26]).

 

فهرس الموضوعات

الموضوع
المقدمة:
المتهم في نظر الإسلام:
تعريف التهمة:
أقسام التهم وأقسام المتهمين:
1) دعاوى غير تهمة:
2) دعاوى التهم:
والمتهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: المتهم المعروف بالصلاح والتقى:
ثانياً: المتهم المجهول الحال:
ثالثاً: المتهم المعروف بالفجور:
فهرس الموضوعات:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) انظر: سنن النسائي ج8 كتاب القسامة.

([2]) رواه البخاري ومسلم، صحيح البخاري ج7 ص77 ، وصحيح مسلم ج8 ص20.

([3]) القاموس المحيط 4/189. 

([4]) السنن الكبرى للبيهقي ج10 ص252.  

([5]) شرح النووي على مسلم ج12 ص3.

([6]) مجموع الفتاوى ج35 ص396. 

([7]) الطرق الحكيمة، ص146. 

([8]) المحلى ج11 ص131.  

([9]) الفتاوى ج35 ص397. 

([10]) الطرق الحكيمة ص147.  

([11]) المحلى ج11 ص131.  

([12]) سنن الترمذي ج4 ص688.  

([13]) سورة النور: آية 19.  

([14]) صحيح مسلم ج4 ص2074.  

([15]) رواه أبو داود سنن أبي داود ج10 ص58، والترمذي ج4 ص28 والنسائي جج8 ص66 والحاكم في المستدرك ج4 ص102. 

([16]) انظر سنن البيهقي ج9 ص137.  

([17]) صحيح البخاري ج9 ص90.  

([18]) الفتاوى ج4 ص604.   

([19]) صحيح الجامع الصغير ج3 ص179.   

([20]) أسنى المطالب ج4 ص133.   

([21]) المغني ج8 ص350.   

([22]) رواه مسلم انظر صحيح مسلم ج3 ص1323.

([23]) رواه البخاري 8/109 كتاب الأحكام باب 14..

([24]) رواه الترمذي 4/28ح 1417 وقال: حديث حسن.

([25]) مسند أحمد بن حنبل 5/2 من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.

([26]) رواه النسائي (8/66 كتاب قطع السارق باب 2).