السؤال رقم (682) : بعض شبهات الجبرية

نص السؤال: بسم الله الرحمن الرحيم.. أكتب بعض شبهات الجبرية، فأرجو من فضيلتكم أن ترد عليها من الكتاب حتى لا تكون ريبة في قلوبنا، وتكون عقيدة السلف واضحة بينة بين هذه الأمة، وجزاكم الله خيرا.
الشبهة الأولى: قول الله تعالى:[إنا كل شيء خلقناه بقدر](القمر:49). هذه الآية الكريمة تدل على أن الخلق خلق بقدر من الله عز وجل، مايشاء من خير أو شر، إذا شاء خير فخير، وإذا شاء شر فشر، فالخلق لا يقدر على تغيير القدر لأن الخالق يستأثر به، كل يجري بإرادته من الخير والشر، والآيات القرآنية الأخرى كثيرة تدل على مشيئة الله على الخلق حتى تكون مشيئة الخلق لا فائدة منها.
الشبهة الثانية: حديث أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي  يوماً فقال:(…. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)
هذا الحديث الشريف يدل على أن النفع والضر قد كتبهما الله من قبل، إذا كتب النفع للخلق فوقع النفع له، وإذا كتب الضر على الخلق فوقع عليه فلا يستطيع الخلق شيئاً إلا قد كتبه الله من قبل، وجاء في الحديث الآخر:(أن القدر قد سبق).
الشبهة الثالثة: نعم، الخلق له مشيئة لك مشيئته تحت مشيئة الخالق، لذا نستطيع أن نقول أن الخلق مجبور على مشية الخالق ولا يستطيع الشيء إلا موافقاً لمشيئة الخالق، فالخلق ريشة تطير بقدر الله ما شاء.

الرد على الفتوى

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:ـ فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بالقدر: خيره وشرّه، وهو: (تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته)، وهو من أركان الإيمان الستة، لقوله  في الحديث الصحيح عندما جاءه جبريل في صورة إنسان فسأله عن الإسلام، ثم سأله عن الإيمان فأخبره بأركان الإيمان الستة ومنها الإيمان بالقدر خيره وشره، وللقدر أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم، فنؤمن بأن الله تعالى بكل شيء عليم، علم ما كان، وما يكون، وكيف يكون بعلمه الأزلي الأبدي، فلا يتجدد له علم بعد جهل، ولا يلحقه نسيان بعد علم.
المرتبة الثانية: الكتابة، فنؤمن بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة:[أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِى كِتَـبٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ](الحج: 70).
المرتبة الثالثة: المشيئة، فنؤمن بأن الله تعالى قد شاء كل ما في السموات والأرض، لا يكون شيء إلا بمشيئته، ما شاء الله كان وما لم يشأْ لم يكن.
المرتبة الرابعة: الخلق، فتؤمن بأن الله تعالى [خَـلِقُ كُـلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَى كُل شَىْءٍ وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ](الزمر: 62، 63).
وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من الله تعالى نفسه ولما يكون من العباد، فكل ما يقوم به العباد من أقوال أو أفعال أو تروك فهي معلومة لله تعالى مكتوبة عنده، والله تعالى قد شاءها وخلقها [لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـلَمِينَ ](التكوير: 28، 29)، [وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ](البقرة: 253)، [وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ](الأنعام: 137)، [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ] (الصافات: 96).
ولكننا مع ذلك نؤمن بأن الله تعالى جعل للعبد اختياراً وقدرة بهما يكون الفعل.
والدليل على أن فعل العبد باختياره وقدرته أمور:
الأول: قوله تعالى: [فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ](البقرة: 223) وقوله: [وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً](التوبة: 46) فأثبت للعبد إتياناً بمشيئته وإعداداً بإرادته.
الثاني: توجيه الأمر والنهي إلى العبد، ولو لم يكن له اختيار وقدرة لكان توجيه ذلك إليه من التكليف بما لا يطاق، وهو أمر تأباه حكمة الله تعالى ورحمته وخبره الصادق في قوله:[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا](البقرة: 286).
الثالث: مدح المحسن على إحسانه وذم المسيء على إساءته، وإثابة كل منهما بما يستحق، ولولا أن الفعل يقع بإرادة العبد واختياره لكان مدح المحسن عبثاً، وعقوبة المسيء ظلماً، والله تعالى منزّه عن العبث والظلم.
الرابع: أن الله تعالى أرسل الرسل [مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ](النساء: 165)، ولولا أن فعل العبد يقع بإرادته واختياره، ما بطلت حجّته بإرسال الرسل.
الخامس: أن كل فاعل يحسُّ أنّه يفعل الشيء أو يتركه بدون أي شعور بإكراه، فهو يقوم ويقعد، ويدخل ويخرج، ويسافر ويقيم بمحض إرادته، ولا يشعر بأن أحداً يكرهه على ذلك، بل يفرّق تفريقاً واقعياً بين أن يفعل الشيء باختياره وبين أن يكرهه عليه مكرِه. وكذلك فرّق الشرع بينهما تفريقاً حكمياً، فلم يؤاخذ الفاعل بما فعله مكرهاً عليه فيما يتعلق بحق الله تعالى.
ونرى أنه لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله تعالى، لأن العاصي يقدم على المعصية باختياره، من غير أن يعلم أن الله تعالى قدّرها عليه، إذ لا يعلم أحد قدر الله تعالى إلا بعد وقوع مقدوره [وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً](لقمان: 34) فكيف يصح الاحتجاج بحجة لا يعلمها المحتجّ بها حين إقدامه على ما اعتذر بها عنه، وقد أبطل الله تعالى هذه الحجة بقوله:[سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَءَابَآؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ](الأنعام: 148).
ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لماذا لم تقدم على الطاعة مقدراً أنّ الله تعالى قد كتبها لك، فإنه لا فرق بينها وبين المعصية في الجهل بالمقدور قبل صدور الفعل منك؟ ولهذا لمّا أخبر النبي  الصحابة بأن كل واحد قد كُتِبَ مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا: أفلا نتكل وندع العمل؟ قال: (لا، اعملوا فكلٌّ ميسّر لما خُلِقَ له).
ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لو كنت تريد السفر لمكة وكان لها طريقان، أخبرك الصادق أن أحدهما مخوف صعب والثاني آمن سهل، فإنك ستسلك الثاني ولا يمكن أن تسلك الأول وتقول: إنه مقدر عليَّ؛ ولو فعلت لعدّك الناس في قسم المجانين.
ونقول له أيضاً: لو عرض عليك وظيفتان إحداهما ذات مرتب أكثر، فإنك سوف تعمل فيها دون الناقصة، فكيف تختار لنفسك في عمل الآخرة ما هو الأدنى ثم تحتجّ بالقدر؟
ونقول له أيضاً: نراك إذا أصبت بمرض جسمي طرقت باب كل طبيب لعلاجك، وصبرت على ما ينالــك من ألـم عملية الجراحـــة وعلى مرارة الدواء؛ فلمـاذا لا تفعل مثل ذلك في مرض قلبك بالمعاصي؟
ونؤمن بأنّ الشر لا ينسب إلى الله تعالى لكمال رحمته وحكمته، قال النبي : (والشر ليس إليك) (رواه مسلم)، فنفس قضاء الله تعالى ليس فيه شر أبداً، لأنّه صادر عن رحمة وحكمة، وإنّما يكون الشرُّ في مقضياته، لقول النبي  في دعاء القنوت الذي علّمه الحسن: (وقني شر ما قضيت)، فأضاف الشر إلى ما قضاه، ومع هذا فإنّ الشر في المقضيات ليس شراً خالصاً محضاً، بل هو شر في محله من وجه، خير من وجه، أو شر في محله، خير في محل آخر.
فالفساد في الأرض من: الجدب والمرض والفقر والخوف شر، لكنه خير في محل آخر. قال الله تعالى: [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] (الروم: 41).
وقطع يد السارق ورجم الزاني شر بالنسبة للسارق والزاني في قطع اليد وإزهاق النفس، لكنه خير لهما من وجه آخر، حيث يكون كفارة لهما فلا يجمع لهما بين عقوبتي الدنيا والآخرة، وهو أيضاً خير في محل آخر، حيث إن فيه حماية الأموال والأعراض والأنساب.