كلمة فضيلة المشرف العام
هناك غاية محددة لوجود الجن والإنس تتمثل في أداء مهمة سامية هي عبادة الله وحده كما شرع لعباده أن يعبدوه، ولا تستقيم حياة العبد كلها إلا على ضوء هذه المهمة والغاية. قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}( الذاريات: 56، 57، 58).
ولهذه المهمة أرسل الله عز وجل الرسل وأنزل الكتب فقام الرسل بما كلّفهم الله به من الدعوة إلى عباداته وحده لا شريك له .
والدعوة إلى الله عزّ وجلّ من أفضل الأعمال، وأوجب الواجبات؛ وعد الله القائمين بها أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً في الدنيا والآخرة، بل إن الله _ جلّ وعلا _ جعلها شعاراً لأتباع الرسل _ عليهم الصلاة والسلام _.
وتتجلى أهمية الدعوة إلى الله تعالى في ما يلي:
1- أن الله تعالى أعلى منزلة الدعاة؛ قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ}(فصلت: 33).
2- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمن بلَّغ قوله إلى غيره، فعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: {نَضّرَ اللهُ امْرِأ سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلّغَهَا فَرُبّ حَامِلُ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِم: إِخُلَاصُ الْعَمَلِ لله، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنّ الدّعْوَةَ تُحِيطُ من ورائهم}
[رواه الترمذي: 2658، وأحمد: 21630، وهو حديث صحيح].
3- الأجر العظيم المترتب على هداية الناس؛ يدل لذلك ما ثبت عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه لما أعطاه الراية يوم خيبر: {أُنْفُذْ عَلَى رَسْلِكَ حَتّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فِيهِ، فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَمْ}
(رواه البخاري: 3498، ومسلم: 2406).
وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله، فقد روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (مَنْ دَلّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ) ( رواه مسلم، 1893).
وأكّد في سنته أن مما يتبع الشخص بعد موته وينفعه وهو في قبره العلم الذي يبثه في الناس، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) (رواه مسلم، 1631).
وربنا جلّ وعلَا يقول الله تعالى:[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل:125)، هذه الآية بيّنت أساليب الدعوة إلى الله، ورسمت المنهج الأمثل لها، وبينت حال المدعوين والوسائل التي تعين في الدعوة إلى الله.
والدعوة إلى الله دعوة إلى عبادة الله وحده إيماناً ويقيناً ودعوة إلى الإيمان الجازم بكل ما ثبت لله تعالى من أسماء وصفات من طريق الكتاب ودعوة إلى اتباع الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ ودعوة إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، وحفظ الحقوق، وإقامة العدل بين الناس بإعطاء كل ذي حق حقه، وبذلك يتحقق الإخاء والمودة بين المؤمنين ويستتب الأمن التام والنظام الكامل داخل شريعة الله وتضمحل كل الأخلاق السافلة والظواهر السيئة من المجتمع المسلم.
وأهم وسائل الدعوة التي تصل من خلالها الكلمة الهادفة إلى الآخرين ما يأتي:
1) الكتابة ـ وهي الكلمة المقروءة ـ عن طريق التأليف والصحف والمجلات وهذه الوسيلة تكمل الوسيلتين التاليتين لأنها تبقى عند المدعو ويقرؤها مرة بعد أخرى.
2) المشافهة المباشرة كالخطابة وغيرها.
3) المشافهة غير المباشرة كالدعوة عن طريق الأجهزة المسموعة والمرئية وهذه الوسيلة أكثر انتشاراً من الأولى.
والدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والمرسلين ولذا ينبغي لمن يتصدى لها أن يكون متصفاً بصفات أساسية ليسمع الناس منه ويتقبلوا دعوته ومن هذه الصفات:
1) الإخلاص لله في عمله بحيث يقصد بدعوته التقرب إلى الله ونصر دينه وإصلاح عباده؛ فإخلاص الداعي في دعوته لله تعالى أمر مهم بالنسبة لنجاحه فيها وثوابه عليها.
2) أن يعتقد أنه بدعوته إلى الله وارث لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في نشر سنته وهديه ليكون ذلك حافزاً له على الصبر على أذى الناس قال تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ](يوسف: 108).
3) أن يكون ثابتاً في دعوته إلى الله تعالى راسخ القدمين لا تزعزعه مضايقات الناس وسخريتهم واستهزاؤهم.
4) أن يصبر ويصابر؛ على ما يناله من أذى المناوئين للدعوة الذين لا يريدون للخير انتشاراً وأذاهم قولي وفعلي وقد حصل ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام وأخبر بذلك الكتاب العزيز، قال تعالى:[وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ](الأنعام: 34).
5) أن يسلك طريق الحكمة ويعامل الناس على قدر عقولهم فليسوا سواءً في قبول الحق والانقياد له، بل يحرص على الأسلوب المناسب لعل الله أن ينفع به.
6) أن يكون الداعي عالماً بشريعة الله التي يدعو إليها وعالماً بأحوال من يدعوهم لتؤتي دعوته ثمارها على الوجه الصحيح.
7) أن يكون الداعي على جانب كبير من الأخلاق ليكون قدوة صالحة في العلم والعمل، وصدق الله العظيم[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ] (الصف: 2، 3).
8) أن يكون الداعي وقوراً في هيئته وقوله وفعله بدون جفاء ليكون أهلاً للتوقير.
ولعلّ لنا عبرة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في الدعوة إلى الله،
فحينما ننظر إلى سيرة الرسول e العملية في الجانب الدعوي نجده يدعو في جميع الأماكن، والأزمان، والأحوال فلم يوجه دعوته صلى الله عليه وسلم لصنف من الناس دون صنف؛ بل دعا الناس جميعاً مَن أحبّوه ومَن أبغضُوه، ومَن استمع إليه، ومَن أعرض عنه، بلْ يوجّه دعوته إلى من آذاه لأن الدعوة تكليف من الله لابد من القيام بها كسائر التكاليف الشرعية.
ولم يخص صلى الله عليه وسلم مكاناً دون غيره للدعوة؛ بل كان يدعو في المسجد، والطريق، والسوق، والحضر، والسفر، بل وحتى في المقبرة، وعلى رأس الجبل لم يترك الدعوة .
وكان صلى الله عليه وسلم يستغل المواسم وأماكن تجمع الناس ليكون ذلك أبلغ في دعوته ولتصل أكبر عدد من الناس، واستمر صلى الله عليه وسلم في أداء هذه المهمة الجليلة مشمراً عن ساعديه، باذلاً كل ما في وسعه، مستخدماً كل وسيلة متاحة، متحملاً كل أذى في سبيل إبلاغ الدعوة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
وقد امتلأت سيرته وفاضت بالمواقف الدعوية الرائدة التي تتمثل فيه القدوة العملية للدعاة والعلماء والمصلحين، وسبيله في ذلك ومنطلقه، وقاعدته العريضة:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل: 125).
ولم يزال الرسول صلى الله عليه وسلم قائماً بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء دون كذب أو ظلم أو غدر مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وقلة وكثرة وظهور على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة حتى أظهر الله الدعوة في أرض العرب.
وعلى نهجه وهديه سار أصحابه من بعده حاملين لواء الدعوة مقتدين بالداعية الأول e ففتحوا البلاد والبقاع ووصل دين الله تعالى مشارق الأرض ومغاربها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.