اليقين وأثره في حياة المسلم – خطبة الجمعة 13-5-1446هـ
الْحَمْدُ للهِ وليِّ الصالحينَ، وَمَوْلَى المُؤْمِنِينَ، زيَّنَ بِالْيَقِينِ قُلُوبَ الْعَابِدِينَ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، وَالنَّعِيمَ المُقِيمَ، وَأَشْهَدُ أَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسانِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ فالتَّقْوَى خَيرُ زَادٍ لِيَوْمِ المَعَادِ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجِعُون فيه إلى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) البقرة : [281].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إنَّ الْيَقِينَ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ وَأَثْبَتُهَا، وَهِيَ مَنْزِلَةٌ يَتَفَاضَلُ بِهَا الْعَابِدُونَ ويَتَسَابقُ إِلَيْهَا المُتَسَابِقُونَ، وَهِيََ أرْقَى دَرَجَاتِ الإِيمَانِ وأَخصُّ صفاتِ أهْلِ التَّقْوَى والإِحْسَانِ، قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لقمان: [4-5].
عِبَادَ اللهِ: وَالْيَقِينُ هوَ الاعْتِقَادُ الْجَازِمُ بِأَنَّهُ لا خَالِقَ وَلا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إلا اللهُ تَعَالَى وأَنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَضُرُّ وَيَنْفَعُ، وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَالْيَقِينُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ، وَالْيَقِينُ الْإِيمَانُ كُلُّهُ) الزهد لوكيع (456/ 203) وقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ-رَحِمَهُ اللهُ-:(بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ) مجموع الفتاوى (3/ 358) قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة: [24].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَالْيَقِينُ هُوَ خَيْرُ مَا عُمِرَتْ بِهِ النُّفُوسُ، قَالَ ﷺ: (سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ) أخرجه الترمذي (3558) وصححه الألباني.
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ صِفَاتِ المُوقِنينَ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ: الصَّبرُ عَلَى الشَّدَائِدِ واحتِمَالُ المصَائِبِ فَأَعْظَمُ النَّاسِ صَبْرًا، أَكْثَرُهُمْ يَقِينًا، قَالَ تَعَالَى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) الروم: [60] وكانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: (اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا..) أَخْرَجَهُ الترمذي (3502) والنَّسَائي في عمل اليوم والليلة (402).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَمِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْيَقِينِ بِاللهِ عزَّ وجلَّ: سُكُونُ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَة النَّفْسِ وخَاصَّةً عِنْدَ المِحَنِ وَالأَزَمَاتِ، وَالْفِتنِ والابْتِلاءَاتِ، قَالَ تَعَالى: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) الشعراء: [61-62].
عِبَادَ اللهِ: وَأَهْلُ الْيَقِينِ بِاللهِ عزَّ وجلَّ أَشَدُّ النَّاسِ إِنْفَاقًا في الْخَيْرَاتِ، وَمُسَارَعَةً فِي الصَّدَقَاتِ، وَبَذْلًا بِالمَعْرُوفِ؛ لمَا وَقَرَ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الْيَقِينِ بِمَوْعُودِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سبأ: [39] وَقَدْ دَخَلَ النبيُّ ﷺ عَلَى بلالٍ وَعِنْدَهُ صُبْرَةٌ مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا بِلالُ؟! قال: شيءٌ ادَّخَرْتُهُ لِغَدٍ فَقَالَ: أَمَا تَخْشَى أن تَرَى له غَدًا بُخَارًا في نارِ جهنمَ يومَ القيامةِ؟ أَنْفِقْ بلالُ! ولا تَخْشَ من ذِي العرشِ إِقْلالًا) أخرجه الطبراني في المعجم (1/342) وقال الألباني في هداية الرواة: صحيح بمجموع طرقه.
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: وَالْيَقِينُ رُوحُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَهُوَ قَرِينُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ ثَمَرَةُ الْيَقِينِ، قَالَ تَعَالَى: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) النمل: [79].
عِبَادَ اللهِ: وَالمُوقِنُونَ بِرَبِّهِمْ أَشَدُّ النَّاسِ عِزَّةً وَإِبَاءً، وَرِفْعَةً وَسَنَاءً؛ لِيَقِينِهِمْ أَنَّ اللهَ وَحْدَهُ المُتَكَفِّلُ بِأَرْزَاقِهِمْ وَآَجَالِهِمْ، وَالمُدَبِّرُ لأَحْوَالِهِمْ وشُؤُونِهِمْ، فَفِي الْحَدِيثِ: (واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت على أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ) أخرجه الترمذي (2516) وصححه الألباني.
عِبَادَ اللهِ: وَأَهْلُ الْيَقِين هُمُ المُتَّقُونَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِالآَيَاتِ وَيَنْتَفِعُونَ بِالْعِظَاتِ، قَالَ تَعَالَى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ) الذاريات: [24] أَمَّا الْكُفَّار وَأَهْل النَّارِ، فَقُلُوبُهُمْ خَالِيَةٌ مِنَ الْيَقِينِ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) الجاثية:[32].
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَمِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْيَقِينِ الْخُشُوعُ وَالاسْتِقَامَةِ والزُّهْدُ في الدُّنْيَا وَحُطَامهَا وَالتَّطَلُّعُ للآَخِرَةِ وَنَعِيمِهَا، فَمَا أَيْقَنَ عَبْدٌ بِالْجَنَّةِ حَقَّ يَقِينِهَا، إلا جَدّ في طَلَبِهَا، وَاسْتَفْتَحَ أَبْوَابَهَا، وَانْصَرَفَ عَن الدُّنْيَا، وَزُخْرُفهَا، قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ: (إِذَا امْتَلأَ الْقَلْبُ بِالْيَقِينِ طَارَ شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَهُوَ يَأْمَنُ النَّارَ).
عِبَادَ اللهِ: وَمِمَّا يُعِينُ المرْءَ عَلَى التَّحَلِّي بِالْيَقِينِ، وَالتَّرَقِّي لمنَازِلِ المتَّقِينَ، الإقْبَالُ عَلَى الْقُرْآَنِ الْكَرِيمِ تِلاوَةً وَتَدَبُّرًا، وَتَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا، فَكُلَّمَا تَعَلَّقَ الْعَبْدُ بِالْقُرْآَنِ، وَقَرَ الْيَقِينُ في قَلْبِهِ بِمَا يَقْرَأُ وَيَسْمَعُ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ص: [29].
بَارَكَ اللهُ لِي ولَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنَي وَإِيَّاكُم بِهَدْيِ خَيْرِ المرسلين، قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتوبوا إليه، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي إلى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بعد فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَاعْلَمُوا أنَّ الْيَقِينَ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ مُوجِبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ الْيَقِينِ هُمْ أَهْلُ الإِيمَانِ وَالْوَارِثُونَ لِلْجِنَانِ، قَالَ تَعَالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) [الحجرات: 15] وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَعْطَاهُ نَعْلَيْهِ وَقَالَ: (اذْهَبْ بنَعْلَيَّ هاتَيْنِ، فمَن لَقِيتَ مِن وراءِ هذا الحائِطَ يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بها قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ) أخرجه مسلم (31) اللَّهُمَّ ارْزُقنَا صِدْقَ اليقينِ بِكَ، وَحُسْنَ التَّوَكُّلِ عليك.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا المسْلِمِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في كُلِّ مَكَانٍ برحمتك يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْه وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ.اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ.اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الجمعة 13/ 5/ 1446هـ