بشراكم يا أهل الفجر – خطبة الجمعة 27-5-1446هـ
الحمدُ للهِ، قَضَى ألا تعبدُوا إلا إيَّاهُ، لا مَانِعَ لما أَعْطَاهُ، ولا رَادَّ لما قَضَاهُ، لا ضَالَّ لمنْ هَدَاهُ، ولا هَادِيَ لمنْ أَعْمَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، جعلَ الصَّلاةَ عِمَادُ الدِّينِ، وخَصِيصَةَ الموَحِّدِينَ، وَعِبَادَةَ المقَرَّبِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَوْصَى بِالصَّلاةِ عُمُوم المسْلِمِينَ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ أجْمَعِينَ أمّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَأَطِيعُوهُ، واعْلَمُوا أنَّكُمْ مُلاقُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَُمون) البقرة: [281].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: أَسْلَفْنَا في الْخُطْبَةِ المَاضِيَةِ الْحَدِيثَ عَنْ صَلاةِ الْفَجْرِ وَفَضْلَهَا، وَعُلُوِّ مَكَانَتِهَا وَعَظِيمِ قَدْرِهَا، وَأَرْدَفْنَا ذَلِكَ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ إِضَاعَتِهَا أَوْ تَأْخِيرِهَا، وَعَوَاقِبِ النَّوْم عَنْهَا أَوْ تَرْكِهَا؛ لِتَكُونَ نَذِيرًا لِلْمُفَرِّطِينَ، وَبَلاغًا لِلْجَاهِلِينَ، وَإِيقَاظًا لِلْغَافِلِينَ، قَالَ تَعَالَى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الذاريات: [55].
وَفي هذا الْيَوْمِ نَزُفُّ الْبُشْرَى لِلْعَابِدِينَ، وَالتَّهْنِئَةَ لِلْمُصَلِّينَ، فَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِحِفْظِ أُجُورِ الْعَامِلِينَ فَقَالَ: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) الكهف: [30] وَصَرَّحَ بِالْبِشَارَةِ لِلطَّائِعِينَ؛ لِتَكُونَ لَهُمْ أُنْسًا وَأَملًا، وَطُمَأْنِينَةً وَعَوْنًا، قَالَ تَعَالَى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) النحل: [89].
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَالْبِشَارَة بِالْخَيْرِ تَشْحَذُ الْهِمَمَ، وَتَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَزِيدُ الثِّقَةَ بِمَوْعُودِ اللهِ عزّ وجلّ، كَمَا أَنَّهَا تُثَبِّتُ الْقَلْبَ وَتُنِيرُ الدَّرْبَ، قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ العَمَلَ مِنَ الخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النّاسُ عليهِ؟ قالَ: (تِلكَ عاجِلُ بُشْرى المُؤْمِنِ) أخرجه مسلم (2642).
عِبَادَ اللهِ: وَهَا هِيَ بَعْضُ الْوُعُودِ الإِلَهِيَّةِ وَالْبُشْرَيَاتِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا النُّصُوصُ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ خَاصَّةً لأَهْلِ الْفَجْرِ، وَالمُحَافِظِينَ عَلَى صَلاةِ الْفَجْرِ وَمِنْهَا:
الْبِشَارَةُ الأُولَى: الضَّمَانُ الإِلَهِيُّ، وَالْحِصْنُ الرَّبَّانِيُّ، فَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ لا يَخْلُصُ إِلَيْهِ سُوءٌ، ولا يَمَسُّهُ مَكْرُوهٌ، قَالَ ﷺ: (مَن صَلّى الصُّبْحَ فَهو في ذِمَّةِ اللهِ) أخرجه مسلم (657) وهذا أَعْظَمُ أَمَان، وَأَشَدُّ ضَمَان، يَنْشُدُهُ الْعَبْدُ في يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ.
الْبِشَارَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، فَقَدْ حَظِيَ بِخَيْرِ جَلِيسٍ، وَأَفْضَلِ وَنِيسٍ وَهُمُ الملائِكَةُ الْكِرَامُ، قَالَ تَعالى: (وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) الإسراء: [78]. ولا يَزَالُ فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ، وَفَضْلٍ كَبِيرٍ، مَا دَامَ في مُصَلاهُ، قَالَ ﷺ: (مَن صلّى الفَجرَ، ثُم جَلَسَ في مُصلّاه صلَّتْ عليه الملائكةُ، وصلاتُهم عليه: اللَّهُمَّ اغفِرْ له، اللَّهُمَّ ارحَمْه) أخرجه أحمد (1251) وحسن إسناده أحمد شاكر في تخريج المسند (2/306).
الْبِشَارَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ ثَمَرَةٌ عَاجِلَةٌ، وَغَايَةٌ نَاجِزَةٌ، تَتَمَثَّلُ في هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، وَنَفْسٍ مُشْرِقَةٍ، وَطَاقَةٍ هَائِلَةٍ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ وَمُجَرَّبٌ، فَمَا أَنْ يَخْرُجَ الْعَبْدُ مِنَ المسْجِدِ إلا وَدَبَّ فِي نفْسِهِ الأَمَل، وأَبْصَرَ مِنْ نَفْسِهِ طَاقَةً عَلَى الْجِدِّ وَالْعَمَلِ، وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ في جَمَاعَةٍ تَعْرِفهُ بِطَلاقَةِ وَجْهِهِ وَطِيبِ نَفْسِهِ، وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ؛ لمَا ظَفِرَ بِهِ مِنَ الأُنْسِ وَالْحُبُورِ، وَالسَّعَادَةِ والسُّرُورِ، والرِّضَا والْقَبُولِ وَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا.
الْبِشَارَةُ الرَّابِعَةُ: إِدْرَاكُ أَجْرِ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلّه، وَلَوْ كَانَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَهَذَا خَبرُ الصَّادِقِ المَصْدُوق بِقَوْلِهِ: (وَمَن صَلّى الصُّبْحَ في جَماعَةٍ فَكَأنَّما صَلّى اللَّيْلَ كُلَّهُ) أخرجه مسلم (656).
الْبِشَارَةُ الْخَامِسَةُ: أَجْرُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّة، وَهُوَ في مُصَلاهُ، لمَنْ قَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ، وَجَلَسَ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، قَالَ ﷺ: (مَن صلى الفجرَ في جماعةٍ، ثم قَعَد يَذْكُرُ اللهَ حتى تَطْلُعَ الشمسُ، ثم صلى ركعتينِ، كانت له كأجرِ حَجَّةٍ وعُمْرَةٍ تامَّةٍ، تامَّةٍ، تامَّةٍ) أخرجه الترمذي (586) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: (6346).
الْبِشَارَةُ السَّادِسَةُ: صَلاةُ الْفَجْرِ في جَمَاعَةٍ شَهَادَةٌ بِالإِيمَانِ، وَخَلاصٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ، قَالَ ﷺ:(إنَّ هاتينِ الصلاتَيْنِ أثقَلُ الصَّلَواتِ على المُنافِقينَ، ولو تَعلَمونَ ما فيهما لَأتَيتُموهما ولو حَبوًا على الرُّكبِ) أخرجه أبو داود (554).
الْبِشَارَةُ السابعةُ: وَهِيَ النَّعِيمُ المُقِيمُ، والْفَوْز العَظِيم، الْبِشَارَةُ بِالْجَنَّةِ، قَالَ ﷺ: (مَن صَلّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ) أخرجه مسلم (574) فَكَمَا أَنَّ صَلاةَ الْفَجْرِ أَمَانٌ لِلْعَبْدِ في الدُّنْيَا بِدُخُولِهِ في ذِمَّةِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، فَهِيَ أَيْضًا نَجَاةٌ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ النَّارِ، وَسَبِيلٌ لمرَافَقَةِ النَّبِيِّينَ وَالأَبْرَار، والفَوْز بدَارِ الْقَرَار، قَالَ ﷺ: (لَنْ يَلِجَ النّارَ أَحَدٌ صَلّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِها، يَعْنِي الفَجْرَ والْعَصْرَ) أخرجه مسلم (634).
البشارةُ الثَّامِنَةُ: بَشَّرَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ أَهْلَ الْفَجْرِ بِقَوْلِهِ: (بشِّرِ المشَّائينَ في الظُّلمِ إلى المسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أخرجه أبو داود (561) وصححه الألباني، فَكَمَا أَنَّهُمْ قَامُوا للهِ عَزَّ وَجَلَّ في اللَّيَالِي المظْلِمَةِ، وَالأَجْوَاءِ الْبَارِدَةِ، يُؤَدُّونَ حَقَّهُ، وَيَقُومُونَ بِأَمْرِهِ، كَانَ جَزَاؤُهُم النُّور التَّام مِنَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الحديد: [12].
بَارَكَ اللهُ لِي ولَكُمْ فِي الْقُرْآنِ والسنةِ، وَنَفَعَنَا بما فيهما من الآياتِ والحكمَةِ، أقولُ قَوْلِي هَذَا، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتوبوا إليه، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي إلى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بعد فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ:
واعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْبِشَارَاتِ لأهْلِ الْفَجْرِ وَهِيَ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ، وَغَنِيمَةٌ ثَمِينَةٌ، تَرْنُوا إلَيْهَا أَفْئِدَتُهُم، وَتَقَرُّ بِهَا عُيُونُهُم، وَتَطِيبُ بِهَا نُفُوسُهُم، وَيَبْلُغُونَ بِهَا آَمَالهم، وَهِيَ الظَّفر بِرُؤْيَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، والنَّظَر لِوَجْهِهِ، والتَّلَذُّذ بِقُرْبِهِ قَالَ ﷺ: (إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كما تَرَوْنَ هذا القَمَرَ، لا تُضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لا تُغْلَبُوا علَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا) أخرجه البخاري (554).أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يَرْزُقَنَا لذَّةَ النَّظَرِ إلى وَجْهِهِ، والشَّوْقَ إلى لِقَائِهِ، في غيرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ.اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا المسْلِمِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في كُلِّ مَكَانٍ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْه وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الجمعة27-5-1446