شهر شعبان فضائل وأحكام – خطبة الجمعة 1-8-1446هـ

الجمعة 1 شعبان 1446هـ 31-1-2025م

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطرِ الأرضِ والسَّمَاوَاتِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلى النِّعَمِ والْهِبَاتِ، وأشْكُرُهُ عَلى مَا أَوْدَعَ في الأيامِ مِنَ البَرَكَاتِ، وجَعَل في الشُّهورِ مِنَ الْخَيْرِ والنَّفَحَاتِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَتَمَ بِهِ الرِّسَالاتِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ: فاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الأنفال: [29].
أيُّهَا المؤمنونَ: إنّ مِنْ نِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ عَلى الْعَبْدِ أَنْ يُبَلِّغَهُ مواسمَ الطَّاعَاتِ، ويُوَفِّقهُ لاغتنامِ الأوْقَاتِ، فيكونَ عُمُرُهُ مَزْرَعَةً للغرسِ والْحَرْثِ، وأيَّامُهُ مَيْدَانًا لِلْعَمَلِ وَالْجِدِّ قالَ تعالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) الفرقان: [62] وقالَ ﷺ: (ألا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِكُمْ؟) قالوا: نَعَمْ، قال: (خِيارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمارًا وأَحْسَنُكُمْ أَعْمالًا) أخرجه أحمد (7212) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3361).
عِبَادَ اللهِ: هَا هِيَ الأيامُ تَتَعَاقَبُ، والشُّهُورُ تَتَوَالَى، والدَّهْرَ يَمْضِي، والأَعْمَارُ تَنْقَضِي، وفي ثَنَايَاهَا هِبَاتٌ رَبَّانِيَّةٌ، وعَطَايَا إِلَهِيَّةٌ، كُنُوزٌ مَكْنُونَةٌ، وجَوَاهِرُ مَسْتُورَةٌ، يَنْتَفِعُ بِهَا السَّعِيدُ، وَيَفْطِنُ لَهَا الأَرِيبُ اللَّبِيبُ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ق: [37].
أيُّهَا المؤمنونَ: حَلَّ بِنَا سَفِيرٌ عَزِيزٌ لِضَيْفٍ كَرِيمٍ، شَهْرُ شعبانَ، وهُوَ مَحَطَّةٌ إِيمَانِيَّةٌ يَتَزَوَّدُ المسْلِمُ منهَا بالتوبةِ والإخلاصِ؛ ونبذِ الخلافاتِ، وإصْلاحِ النِّيَّاتِ، والإقلاعِ عنِ المحرماتِ، والتهيؤ لاستقبالِ رمضانَ، وقد سألَ أسامةُ بنُ زيدٍ رضي اللهُ عنهُ النبيَّ ﷺ قائلًا: يَا رسولَ اللهِ: لَمْ تَكُنْ تَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ فَقَالَ ﷺ: (ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفَلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرفَعُ فِيهِِ الأعمالُ إلى ربِّ العالمينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ) أخرجه النسائي (2357) وأحمد (21753) مطولًا.
وَفِي الْحَدِيثِ جُمْلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ شَهْرِ شَعْبَانَ أُوجِزُهَا فِيمَا يَلِي:
أولًا: مشروعيةُ الإكثارِ منَ الصِّيَامِ في شعبان، تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (فَمَا رَأَيْتُ رَسولَ اللهِ ﷺ اسْتَكْمَلَ صِيامَ شَهْرٍ إلّا رَمَضانَ، وما رَأَيْتُهُ أكْثَرَ صِيامًا منه في شَعْبانَ) أخرجه البخاري (1969).
ثانيًا: مَعَ حِرْصِ النبيِّ ﷺ على الصيامِ في شعبان، إلا أنَّهُ نَهَى عن الصيامِ في آخِرِهِ بِقَوْلِه: (لا يَتَقَدَّمَنَّ أحَدُكُمْ رَمَضانَ بصَوْمِ يَومٍ أوْ يَومَيْنِ، إلّا أنْ يَكونَ رَجُلٌ كانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذلكَ اليَومَ) أخرجه البخاري (1914) ومسلم (1082) وقد علَّلَ أهلُ العلمِ النَّهْيَ لئلا يُزَادَ في رمضانَ ما ليسَ مِنْهُ، وللفصلِ بينَ صومِ الفرضِ وصومِ النفلِ.
ثالثًا: أخبرَ النبيُّ ﷺ أَنَّ شعبانَ شهرٌ يغفلُ عنهُ الناسُ بقولِهِ: (ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفَلُ النَّاسُ عَنْهُ..) والعبادةُ في وقتِ الغفلةِ أفضلُ مِنْ غيرِهَا؛ فَبَيْنَمَا النَّاسُ مُنْشَغِلُونَ بِالْعَادَاتِ والمَلَذَّاتِ، والاسْتِكْثَارِ مِنَ المُتَعِ والمُبَاحَاتِ، تَجِدُ أَهْلَ الطَّاعَةِ مُقْبِلُينَ عَلَى الْعِبَادَاتِ، يَسْتَكْثِرُونَ مِنَ النَّوَافِلِ، وَيَتَزَوَّدُونَ بِالطَّاعَاتِ، وَقَدْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ يَسْتَحِبُّونَ إِحْيَاءَ مَا بينَ العِشَاءيْنِ بالصَّلاةِ، ويقُولُون: هي ساعةُ غَفْلَةٍ، ومثله ذِكْرُ اللهِ تعالى في السوقِ؛ لأنَّه ذِكْرٌ في مَوْطِن الْغَفْلَةِ.
رابعًا: بَيَّنَ النبيُّ ﷺ أنّ شعبانَ شهرٌ تُرْفَعُ فيه الأعمالُ إلى اللهِ عزّ وجلّ بقوله: (وَهُوَ شَهْرٌ تُرفَعُ فِيهِِ الأعمالُ إلى ربِّ العالمينَ) فجميع أعمال بَني آدمَ مِنَ الخيرِ والشَّرِّ والطَّاعةِ والمَعصيةِ، تُرفع إلى رَبِّ العالمينَ؛ ولِذا قال النبيُّ ﷺ: (فأُحِبُّ أن يُرفَعَ عَملي وأنا صائمٌ).
عِبَادَ اللهِ: وَمِمَّا يَجْدُرُ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ، والتَّذْكِيرُ بِهِ فِي اسْتِقْبَالِ شَعْبَان، المبَادَرَةُ بصيامِ القضاءِ لمنْ كانَ عليهِ قضاء ٌمِنْ رمضانَ الماضِي؛ لمرضٍ أوْ غَيْرِهِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهٌورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي، لَكِن قَيَّدُوا التَّرَاخِي بِمَا إذا لَمْ يَفُتْ وقتُ قضائِهِ، بأنْ يَهِلَّ رمضانٌ آخَرُ؛ لحديثِ عائشةَ رضي الله عنهَا أنَّها قالتْ: (كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلا فِي شَعْبَانَ، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَوْ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ ) أخرجه البخاري (1950) ومسلم (1146) وَعَلَيْهِ: فَلا يَجُوزُ لمنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ تَأْخِيرَ الْقَضَاءِ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ آَخَرُ، فَإِنْ أخَّرَهُ لغيرِ عذرٍ؛ فإنَّه يأثمُ بِذَلِكَ، وَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ فِدْيَةٌ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ أخّرَهُ بِلا عُذْرِ-إنْ كَانَ قَادِرًا- وأمَّا إنْ أخَّرَهُ لِعُذْرٍ؛ فَلَيْسَ عليهِ إلا الْقَضَاءُ فَقَط.
وَلا يَجُوزُ للزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ منَ القَضَاءِ، ولا يَلْزَمُهَا اسْتِئْذَانُهُ إِذَا بَقِيَ مِنْ شَعْبَانَ بِعَدَدِ الأيَّامِ الَّتِي عَلَيْهَا مِنْ قَضَاءِ رَمَضَان.
أعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) الأحزاب: [21].
أقولُ قولِي هذا، وأستغْفِرُ اللهَ العظيمَ لِي ولَكُمْ ولِسَائِرِ المسلمينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الواحدِ القَهَّار، يَخْلُقُ مَا يشاءُ ويَخْتَارُ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا أمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ واعلمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أنَّهُ لا يَلْزَمُ التَّتَابُعُ في صَوْمِ الْقَضَاءِ، ومَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءٌ لَمْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ، فَلا شَيْءْ عَلَيْهِ؛ لأنّ الْقَضَاءَ فَرْضٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ إلى المَوْتِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ، وأمَّا مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءٌ مِنْ رَمَضَان أخَّرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّهُ يُطعَمُ عَنْهُ عَنْ كُلِّ يوْمٍ مسكينًا إنْ كانَ لَهُ تَرِكَةٌ، فإنْ لمْ يكنْ لهُ شَيْءٌ مِنْ مَالٍ اسْتُحِِبَّ لأوليائِهِ أَنْ يُخْرِجُوا عَنْهُ، ولا يَلْزَمهُم، وإنْ تَبَرَّعَ أحدُ أقاربِهِ فصامَ عنْهُ، جازَ لَهُ ذَلِكَ، أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يُوَفِّقَنَا لاغْتِنَامِ شَعْبَانَ، وأَنْ يُبَلِّغَنَا رَمَضَانَ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللَّهُمَّ أمِّنَا في أوطانِِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلاةَ أمُورِنا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ عامةً لِلْحُكْمِ بكتابِكَ والعملِ بسنَّةِ نبيِّكَ، اللهم وفِّق خادمَ الحرمينِ الشريفينِ وسموَّ ووليِّ عهدِهِ لكلِّ خيرٍ، واصْرِفْ عَنْهُمَا كُلَّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ سَدِّدْهُمْ وأَعْوَانَهُم ووُزَرَاءهُمْ لما فِيهِ خَيْرُ الْبِلادِ وَالْعِبَادِ، ولمَا فِيهِ عِزُّ الإسْلامِ وصَلاحُ المسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ ارْبِطْ عَلَى قُلُوبِ رِجَالِ الأَمْنِ، والمرَابِطِينَ عَلَى الْحُدُودِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هَذَا الجمعَ مِن المؤمِنِينَ، اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّهُمْ، وَنَفِّس كَرْبَهُمْ، وَاقْضِ دِيُونَهُم وَاشْفِ مَرْضَاهُم، وَارْحَمْ مَوْتَاهُمْ، واغْفِرْ لَهُم ولآبَائِهِم وأُمَّهَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وَإِيَّاهُمْ وَوَالِدِينَا وَأَزْوَاجنا وذُرِّيَّاتِنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

الجمعة: 30 /7/ 1446هـ