ورحمتي وسعت كل شيء – خطبة الجمعة 30-3-1443هـ
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شُرورِ أنفسِنَا ومِنْ سَيّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلَا مُضِلّ لَهُ، ومنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].
عبادَ اللهِ: إنَّ رحمةَ اللهِ تعالى نعمةٌ عظمى ومنةٌ كُبرى، فاضتْ على جميعِ العالمينَ، فما مِنْ شيءٍ في هذا الكونِ إلا وقد غَمَرتهُ رحمتُه جلَّ وعلا، قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}[الأعراف:156]، وقد ورد في كتابِ الله ِتعالى أكثرُ من مائتيْ آيةٍ تدلُّ على سعةِ رحمتِه تعالى، والرحمةُ شاملةٌ لجميعِ الخلائقِ في الدنيَا، وخاصًّةً للمؤمنينَ في الآخرةِ، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[الروم: 46]، وقال تعالى:{فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الروم: 50]، وقال:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}[الشورى: 28].
ومن أرجى الآياتِ الدَّالةِ على سعةِ رحمةِ اللهِ بعبادِه المؤمنين قولُه تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر: 53].
وروى مسلمٌ في صحيحِه أنَّ النبيَّ ﷺ قال:(إنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَومَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ مِئَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِباقَ ما بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَجَعَلَ منها في الأرْضِ رَحْمَةً، فَبِها تَعْطِفُ الوالِدَةُ على وَلَدِها، والْوَحْشُ والطَّيْرُ بَعْضُها على بَعْضٍ، فَإِذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ أَكْمَلَها بِهذِه الرَّحْمَةِ)(رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2753).
قالَ النووِيُّ: (هَذَا مِنْ أَحَادِيثِ الرَّجَاءِ وَالْبِشَارَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا كَانَ حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ رَحْمَةٍ وَاحِدَةٍ الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ، وَالصَّلَاةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ؛ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِمِائَةِ رَحْمَةٍ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ وَدَارُ الجَزَاءِ، وَاللهُ أَعْلَمُ؟!) [شرح مسلم 68/17].
وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي اللهُ عنه أنَّ النبيَّ ﷺ قال:(لَوْ تَعْلَمُونَ قَدْرَ رَحْمَةِ اللهِ لَاتَّكَلْتُمْ، وَمَا عَمِلْتُمْ مِنْ عَمَلٍ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ قَدْرَ غَضَبِهِ، مَا نَفَعَكُمْ شَيْءٌ) رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَصَححه الألباني في صحيح الجامع (5260)، وعن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنِطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ) رواه مسلم (2755).
عبادَ اللهِ: ومن رحمةِ اللهِ بنَا أنَّه أوجَدَنا من العدمِ ولم نكنْ شيئًا مذكورًا؟، وكلَأَنا وتولَّانَا ورَزَقَنَا وهدَانَا وعافَانَا وآَوانَا ومن كلِّ شيءٍ أَعْطَانَا، ومن رحمتِه أَنْ شَرحَ صدورَنا للإسلامِ، وأنارَ قُلوبَنا بنورِ الإيمانِ، وَشَرعَ لنَا شرائعَ الإسلامِ، وهدانَا إلى طريقِ خيرِ الأنامِ، وأَذِنَ لنَا برفْعِ حوائجِنَا إليه؛ ولم يَجْعلْ لنا بَيْننَا وبَيْنَه واسطةً من مَلَكَ، أو إنسٍ، أو جانٍّ.
ومِنْ رحمتِه أَنْ جَعَلَ هذا الكونَ بما فيهِ من الآياتِ والبراهينِ دليلاً على وحدانيتِه وعظمتِه وقدرتِه، ومِنْ رحمتِه إرسالُه الرسلَ وإنزالُه الكتبَ، ودعوتُه لخلقِه بتوحيدِه ومحبتِه وتعظيمِه وخشيتِه، وتعليقِ قلوبِهم به، ومِنْ رحمتِه دلالتُهم على طريقِه وهدايتِهم إليه، ومِنْ رحمتِه إرسالُه الرياحَ وتسخيرُه السَّحابَ وإنزالُه المطرَ، ومِنْ رحمتِه إنبَاتُه للزرعِ وملئُه للضَّرعِ وإشباعُه لخلقِه، ومِنْ رحمتِه سترُه لذنوبِهم وحلُمه لعاصِيهم وقبولُه لتوبتِهم واستجابتُه لدعائِهم، ومِنْ رحمتِه محبتُه للمنيبينَ إليه، وشفقتُه بمحبِيه، وفتحُه بابَ الرجاءِ لهم، والتوكُّلُ عليه وتفويضُ الأمورِ إليه، ومن رحمتِه تفريجُه لكروبِهم وتنفيسُه لهمومِهم وغمومِهم وتيسيرُه لأمورِهم، ومن رحمتِه عطاؤُه ومنعُه، وإغناؤُه وإفقارُه، وشفاؤُه وعافيتُه، ومن رحمتِه تأليفُه بينَ قلوبِ الزوجينِ، وإلقاءُ المحبةِ والمودةِ والرحمةِ بينهمَا، ومن رحمتِه حفظُه للمولودِ في بطنِ أمِّهِ، ورعَايتُه له وإمدادُه بما يحفظُه ويُصلِحُه، ومن رحمتِه إعانتُه لأُمِّهِ على حملِه في بطنِها تسعةَ أشهرٍ، ومن رحمتِه بشارتُه لأهلِ الإيمانِ بالجنَّةِ والخلودِ فيهَا، ووعْدُه الصادقُ لهم برضاهُ ورضوانِه، والنظرِ إلى وجهِه الكريمِ.
أيُّها المؤمنونَ: ومن عجائبِ رحمتِه جلَّ وعلا، ما قاله نبيُّنا ﷺ حينما رأى امرأةً وَجدَتْ صبيًّا في السَّبْيِ، فألصقتهُ ببطنهَا وأرضعتهُ، فقال: (أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ) قَالُوا: لاَ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ ﷺ: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)(رواه البخاري (5999) ومسلم (2754).
وَصَدقَ اللهُ العظيمُ: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[الأنعام: 54]. باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنون، واعلموا أنَّ من صورِ رحمتِه جلَّ وعلا بعبادِه أيضًا أنَّه يتقرَّبُ إليهم وهو غنيٌّ عنهم، ويدنو منهم ليُقبلُوا عليه، ويقبلُهم متَى ما تابُوا وأنابُوا إليه، وَيذْكُرهم سبحانَه في ملأِه الأعلى إذا ذَكَروه وسبَّحوه وعظَّموه.
ومِنْ أعظمِ صورِ رحمتِه جلَّ وعلا أنَّه يَحلمُ على مَنْ آذَوْهُ، وَأشركوا معه غيرَه، ويَرْزُقُهم ويعافيهم ويمهلهم، قال ﷺ: (مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ)(رواه البخاري (7378) ومسلم (2804).
عبادَ اللهِ: اعلموا يقينًا أنَّه لا يستطيعُ أحدٌ في هذهِ الدُّنيا أَنْ يَحْجِبَ رحمةً اللهِ تعالى أو يَمْنَعهَا عن أحدٍ من خلقِه، قال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[فاطر: 2]، فرحمةُ اللهِ أدْركَتْ إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ وهوَ في لهيبِ النَّارِ، وَوقَى اللهُ بها يُوسُفَ وهوَ في غياباتِ الجُبِّ، ونالتْهَا هاجرُ ووليدُهَا في وادٍ غيرِ ذي زرْعٍ، وحصَّلهَا يُونُسُ في بطنِ الحُوتِ، وأَنْقذَ اللهُ بها مُوسَى الرَّضيعَ وهو في اليمِّ، ومِنْ شرِّ فرعونَ وجنوده بغرقِهم وهلاكِهم، وأنْجَى اللهُ بهَا أصحابَ الكهْفِ، وأنْجَى بها إسماعيلَ منَ الذَّبحِ، وأَدْركتْ رحمتُه نبيِّنا محمدًا ﷺ وصاحبهُ الصدِّيقَ في الغارِ.
فمن كانتْ هذهِ صفتُه فجديرٌ بنَا أَنْ نحبَّه وأَنْ نجلَّه ونعظِّمه، وأَنْ نحسنَ الظنَّ به، ونُفوِّضَ جميعَ أمورِنا إليه، وأَنْ نطيعَه فيما أَمَرَ وأَنْ نَنْتَهي عما نَهى عنه وَزَجَرَ، وأَنْ نتمسَّك بدينِه، وأَنْ نتَّبعَ سنةَ نبيِّه حتَّى نَنَالَ بفضلِه رحمتَه وجنَّتَه ورضوانَه.
أسألُ اللهَ تعالى الذي وسعتْ رحمتُه كلَّ شيءٍ أَنْ يتغمدَّنا ووالدينَا وذرياتِنا بواسعِ فضلِه ورحمتِه، وأَنْ يمنَّ علينَا بمغفرتِه وسُكنى جنَّتهِ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56].
الجمعة: 30 / 3 / 1443هـ