فضل الصدقة على المعسرين والمحتاجين – خطبة الجمعة 21-4-1443هـ
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، كثيرِ الجودِ والعطاءِ والكرمِ، يَدَاهُ مبسوطتانِ يُنفقُ كيفَ يشاءُ، وهي سحَّاءُ لا تغيضُ، اصطفى مِنْ خلقِه مَنْ يَبذلُ الخيرَ ويُعطيْه محبةً لهُ واحتسابًا للأجرِ والمزيدِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وَحْدَه لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أمّا بعدُ:
فاتّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيْمًا}[الأحزاب:].
أيُّها المؤمنونَ: أثْنى اللهُ جلَّ وعلا على عبادِه المنفقينَ، وبشَّرَهم بكريمِ فضلِه وكرمِه، وَوصَفَهم بأجملِ الصفاتِ في كتابِه، فقال جلَّ وعلا:{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 1 ـ 3]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُور* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُور}[فاطر:29، 30].
وقد وَرَدَتْ كثيرٌ من النصوصِ الشرعيةِ تدلُّ على عظيمِ فضلِ الإنفاقِ، والمؤمنُ الصادقُ هو مَنْ يتاجرُ مع اللهِ لعلمهِ بما عندَه من عظيمِ الأجرِ والثَّوابِ، قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 261]، وقال ﷺ:(مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ) رواه البخاري (1410)، ومسلم (1014)، وقال ﷺ:(مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) رواه البخاري (1442)، ومسلم (1010)، وقال ﷺ:(مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كُتِبَتْ لَهُ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ) رواه أحمد (19058)، والترمذي (1625)، والنسائي (3186)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6110)، وقال أيضا ﷺ:(قَالَ اللَّهُ:(أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ) رواه البخاري (5352)، ومسلم (993) ، والكيِّسُ مَنْ تعاملَ مع اللهِ بصدقٍ ويقينٍ وحُسْنِ ظنٍّ به، فكلُّ ما يُنفقُه العبدُ ابتغاءَ مرضاتِ ربِّه يَعودُ عليه بما يَنفعُه في أمرِ دينِه ودنياهُ وآخرتِه.
عبادَ اللهِ: وقد كانَ نبُّينَا ﷺ أعظمَ الناسِ إنفاقًا في سبيلِ اللهِ، وكانَ يُنفقُ إنفاقَ مَنْ لا يَخشى الفقرَ، وهكذا صحابتُه الكرامُ رضيَّ اللهُ عنهم كانوا أسرعَ النَّاسِ في الإنفاقِ، وكانوا أحرصَ النَّاسِ على الإخلاصِ في عملِهم.
فعنْ زيدِ بنِ أسلمَ عن أبيهِ، قال: سمعتُ عمرَ بنَ الخطَّابِ، يقولُ: أَمَرَنَا رسولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ نتصدَّقَ فوافقَ ذلِكَ عندي مالاً فقلتُ اليومَ أسبقُ أبا بَكرٍ إن سبقتُهُ يومًا قالَ فَجِئْتُ بنِصفِ مالي فقالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ ما أبقيتَ لأَهْلِكَ قلتُ مثلَهُ وأتى أبو بَكرٍ بِكُلِّ ما عندَهُ فقالَ يا أبا بَكرٍ ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ فقالَ أبقيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ قلتُ لا أسبقُهُ إلى شيءٍ أبدًا) رواه أبو داود (1678)، والترمذي (3675) واللفظ له، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (3675).
وهكذا عمرُ رضيَّ اللهُ عنه تصدَّق بأرضٍ لهُ في خيبرْ وَجَعَلهَا صدقةً للمسلمينَ، وهذا عثمانُ رضيَّ اللهُ عنه لمَّا رأى معاناةَ المسلمينَ من أجلِ الحصولِ على الماءِ اشترى بِئْرَ رومةَ من يهوديٍّ في المدينةِ وجَعَلهَا للمسلمينَ، وهذا أبو طلحةَ رضيَّ اللهُ عنه كانَ يملكُ حائطًا في المدينةِ يُسمَّى بَيرُحاءَ، وكانتْ مِنْ أحبِّ المالِ إليه، فتصدَّقَ بها رضيَّ اللهُ عنه ابتغاءَ الأجرِ والثَّوابِ من اللهِ.
عبادَ اللهِ: الإنفاقُ في سبيلِ اللهِ مِنْ أجلِّ الأعمالِ الصالحةِ التي يُحبُّها اللهُ تعالى لما فيها من المواساةِ وإدخالِ السرورِ على الفقيرِ والمسكينِ وذي الحاجةِ، ورغَّبَ فيها رسولُنا ﷺ ورتَّب عليها أجراً عظيمًا، قال ﷺ: (كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقتِه حتى يُقضى بين الناسِ) رواه أحمد (17333)، وابن خزيمة (2431)، وابن حبان (3310) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4510).
عبادَ اللهِ: ومن فضائلِ الصدقةِ وآثارِها: أنّها تزيدُ في المالِ، وتُطهِّرهُ، وتُطْفئُ غضبَ اللهِ، وتمحو الخطيئةَ وتُذهبُ نارَها، وهي وقايةٌ لصاحبِها من النَّار، ودواءٌ للأمراضِ البدنيةِ والقلبيةِ، ويَدْفعُ اللهُ بها البلاءَ عن صاحبِها، ويُخْلِفُه خيرًا منها، وهيَّ مِنْ أفضلِ ما يبقَى لصاحبِها عندَ اللهِ، والمتصدِّقُ في ظلِّ صدقَتِه يومَ القيامةِ، ويُدعى صاحبُها من بابِ الصدقةِ، وتُوجِبُ لصاحبِها الجنَّةَ.
واعلموا عبادَ اللهِ أنَّ أعظمَ أمانيِّ العبدِ عندَ موتِه أَنْ يُؤخِّرَ اللهُ أجلَه كيّ يتصدَّقَ ويبذلَ الخيرَ، قال تعالى:{وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِين * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}[المنافقون:10، 11]. باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على النبي الكريم محمد بن عبدالله، صلى اللهُ عليه وآلهِ وصحبِه وسلم تسليما كثيرا. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أنَّ أفضَلَ أنواعِ الإنفاقِ المشروعِ، الإنفاقُ على المحتاجينَ والمعسرينَ مِمَّنِ ابتُلوا بقضايا ديونٍ، وَثَبتَ أنَّهم يَحتَاجونَ المساعدةَ والمساندةَ، فهؤلاءِ ينبغي الوقوفُ معهُم ومدُّ يدِ العونِ لهم، وقد أوصَانَا الرسولُ ﷺ بكلِّ ما يُقوِّي العلاقةَ بين المؤمنينَ، ويُعمِّقُ التكافلَ بينهم، ويُربِّي فيهم الرَّحمةَ والرِّفقَ بالفقراءِ والضعفاءِ والتيسيرَ على المعسرينَ، والسَّترَ على ذوي الأخطاءِ، قال ﷺ:(مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ، وَمَن يَسَّرَ على مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، واللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ) رواه مسلم (2699)، وقال أيضا ﷺ:(مَن كانَ معهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ به على مَن لا ظَهْرَ له، وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زادٍ، فَلْيَعُدْ به على مَن لا زادَ له…) رواه مسلم (1728) ، فتنفيسُ كروبِ المؤمنينَ وإزالةُ همومِهم، والتيسيرُ على المعسرينَ وتوسيعُ مواردِهم والسَّترُ على النَّاسِ وإظهارُ محاسِنهم، والتكافلُ الاجتماعيُّ بينَ أفرادِ المجتمعِ هيَ من أفضلِ أنواعِ البرِّ والإحسانِ.
عبادَ اللهِ: وَقَد أَطْلقتْ المنصةُ الوطنيةُ للعملِ الخيري (إحسان) خدمةَ (تَيسَّرتْ) لفتحِ بابِ التبرعِ لفكِّ كُربِ المعسرينَ الذين صَدَرَ بحقِّهم أمرُ تنفيذٍ قضائيٍ وتَنْطبقُ عليهم شروطُ الاستحقاقِ، وقد وُضِعًتْ هذه الخدمةُ لدعمِ جميعِ المجالاتِ الخيريةِ بناءً على دراسةِ واقعِ الاحتياجِ، وبالتكاملِ مع الجهاتِ الرسميةِ ذاتِ العلاقةِ، وتُتيحُ هذه الخدمةُ للمتبرعينَ مساعدةَ المعسرينَ على سدادِ المطالباتِ الماليةِ وذلكَ بضغطةِ زرٍّ عن طريقِ الدخولِ إلى قائمةِ (فُرصِ التبرُّعِ) واختيارِ خدمةِ (تَيسَّرتْ)، ثمَّ التبرعُ للحالةِ التي يَخْتارُها المتَبرِّعُ، وهذا طريقٌ رسميٌّ عبْر الجهاتِ الرسميةِ، وهو مأمونٌ ومضمونٌ.
فبادروا أيُّها المؤمنونَ إلى التِّجارةِ مع اللهِ تعَالى، فهوَ سبحانَه صاحبُ العطايَا، وهوَ الذي سخَّر لنَا هذا المالَ لنتاجرَ بِه معه، وَوَعَدنَا بجزيلِ الأجرِ والثَّوابِ.
أسألُ اللهَ تعالى أَنْ يُفرِّجَ كُربَ المكروبينَ، وأَنْ يُيسِّرَ على كلِّ معسرٍ ابتُليَ بالدَّينِ، وأَنْ يُوفِّقَ الجميعَ وخصوصًا الأغنياءَ للبذلِ والعطاءِ في وجوهِ الخيرِ والبرِّ المختلفةِ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56].
الجمعة: 21/4/1443هـ