حفظ النفس وتحصين الآبار – خطبة الجمعة 17-7-1443هـ
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أكرمنَا بالإسلامِ، وشَرَحَ صُدورَنا بالإيمانِ، وهدانَا لطريقِ خيرِ الأنامِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ المتَّصفُ بالكمالِ والجمالِ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه خيرُ الرسلِ والأنبياءِ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].
عبادَ اللهِ: أعلى الإسلامُ مِنْ شأنِ النَّفسِ الإنسانيةِ ورَفَعَ قدرَها، وأَمَرَ بالمحافظةِ عليها، وأكَّد سبحانَه على عَظَمةِ النَّفسِ وعِظَمِ حُرمتِها، فأقْسمَ بهَا سبحانَه قائلاً: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}[الشمس: 7]، وبيَّن عِظَمَ الجُرمِ في التَّعدِّي عليها، قائلاً سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة: 32].
ومِنْ مقاصدِ الشريعةِ حفظُ النَّفسِ، وسلامتُها ممَّا يضرُّهَا، لتقومَ بما أُوكِلَ إليها مِنْ عمارةِ الأرضِ والاستخلافِ فيهَا، والإنسانُ في هذهِ الدُّنيا لا يملكُ إسقاطَ حقِّّه في الحياةِ بإهلاكِ نفْسِه أو إنهاءِ حياتِه بيدِه، أو بإتلافِ أيِّ عضْوٍ من أعضاءِ جسْمِه، لأنَّها ليستْ ملكًا له، بل هي ملكٌ لخالقِها جلَّ وعلا.
أيُّها المؤمنونَ: ولقد عُنِيتْ الشريعةُ الإسلاميةُ بالنَّفسِ عنايةً فائقةً، فَشَرَعتْ مِنَ الأحكامِ ما يُحقِّقُ لها المصالحَ ويدرأُ عنها المفاسدَ، وذلك مبالغةً في حفْظِها وصيانتِها ودرءِ الاعتداءِ عليهَا، وَوَضَعتْ تدابيرَ عديدةً كفيلةً بإذنِ اللهِ بِحفْظِها من التَّلفِ, بلْ سَدَّتْ جميعَ الطُّرقِ المفضيةِ إلى إزْهاقِها أو إتْلافِها أو الاعتداءِ عليها، فحرَّمتْ قَتْلَ النَّفسِ بغيرِ حقٍّ وأَنْزلتْ أشدَّ العقوبةِ بمُرتكِبِ جريمةِ القَتْلِ، قالَ تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، وكذلكَ وَضَعتْ الحدَودَ والدِّياتِ مِنْ أجلِ احترامِ النَّفسِ والمحافظةِ عليهَا والبُعدِ عن التفكيرِ بالثأرِ أو الاعتداءِ أو أيِّ جريمةٍ من هذا النَّوعِ.
وممّا جاءتْ به الشريعةُ لتحقيقِ هذا المقصدِ:
أولاً: تحريمُ الانتحارِ والوعيدِ الشديدُ لِمنْ قَتَلَ نَفسَه: قال ﷺ:(مَن قَتَلَ نَفْسَهُ بحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بها في بَطْنِهِ في نارِ جَهَنَّمَ خالِدًا مُخَلَّدًا فيها أبَدًا، ومَن شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهو يَتَحَسَّاهُ في نارِ جَهَنَّمَ خالِدًا مُخَلَّدًا فيها أبَدًا، ومَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهو يَتَرَدَّى في نارِ جَهَنَّمَ خالِدًا مُخَلَّدًا فيها أبَدًا) رواه مسلم (109).
ثانيًا: النَّهيُ عن القتالِ في الفتنةِ.
ثالثًا: النَّهيُ عن الإشارةِ بالسلاحِ ونحوِه من حديدةٍ وغيرِها: فعن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قال: قال أبو القاسم:(مَن أشارَ إلى أخِيهِ بحَدِيدَةٍ، فإنَّ المَلائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حتَّى يَدَعَهُ، وإنْ كانَ أخاهُ لأَبِيهِ وأُمِّهِ) رواه مسلم (2616).
رابعًا: النَّهيُ عن الغَضبِ والسَّبِّ والشَّتمِ المُفضيْ للعداوةِ، ثمَّ التَّقاتلِ: قال اللهُ تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]، يقولُ ابنُ سِعْدِيٍّ: ” أَيْ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَقْتُلُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِلْقَاءُ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَفِعْلُ الْأَخْطَارِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى التَّلَفِ وَالْهَلَاكِ “أ.هـ تفسير السعدي (1/175).
عبادَ اللهِ: ومِنْ صورِ حفظِ النَّفسِ: إماطةُ الأذى عن طريقِ النَّاسِ، وتعبيدُ طُرقِ المسلمينَ، وهي أصلٌ شرعيٌّ ومنهجٌ نبويٌ. قال ﷺ: (لقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ، في شَجَرَةٍ قَطَعَها مِن ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ) رواه مسلم (1914).
وفي الصحيحينِ من حديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ ﷺ قالَ: (بيْنَما رَجُلٌ يَمْشِي بطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ علَى الطَّرِيقِ، فأخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ له فَغَفَرَ له) رواه البخاري (652) مطولا، ومسلم (1814).
والمرادُ بإماطةِ الأذى عن الطريقِ إزالةُ كلِّ ما مِنْ شأنِه أَنْ يؤذيَ المارَّةَ من شوكٍ أو حَجَرٍ أو شجرٍ وتمهيدُ الأماكنِ الوَعِرَةِ.
ومِنْ إماطةِ الأذى ما هو واجبٌ، يتعيَّنُ إزالتُه، لرفعِ الضَّررِ المترتِّبِ عليه، لأنَّ بعضَ الأذى له أثرٌ على النَّفسِ البشريةِ، وربما أَوْدى إلى هلاكِها، فتكونُ إزالتُه في هذِه الحالةِ واجبةً، حفظاً للأنفسِ المعصومةِ التي جاءتْ الشريعةُ بصيانتِها، وحفْظِها.
ومِنْ أمثلةِ ذلكَ الآبارُ، والحفرُ، التي في وَسَطِ الطَّريقِ، أو في أماكنَ سكنيةٍ، ويُخشى أَنْ يَسقُطَ فيها الأعمى، أو الصغيرُ، أو الدابةُ، أو السيارةُ، فإنَّه يجبُ طمسُها، أو التحويطُ عليها، أو إبلاغُ الجهاتِ المسؤولةِ بشأنِها؛ ليتمَّ ردمُها أو تسويتُها بالأرضِ.
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: {.. وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا}[النساء:30].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنون، واعلموا أنَّ مِنْ مقاصدِ الشريعةِ لحفظِ النَّفسِ البعدَ عن أيِّ سببٍ يُوصلُ لهلاكِها أو الإضرارِ بها، ومِنْ ذلكَ ما يُتْركُ إهمالاً أو تعمدًا من الآبارِ والحُفَرِ المفتوحةِ أو المغطاةِ بقطَعٍ من الخَشَبِ غيرِ الواقيةِ من الأخطارِ، وأُخْرى متواريةٍ وَسَطَ الزراعاتِ والأوديةِ والتي تَقَعُ في بعضِ الأراضي، والمزارعِ.
ومِنْ ذلكَ الحُفرُ التي تنتشرُ في البرِّ والتي قامَ بحفْرِهَا بعضُ الناسِ للحصولِ على ماءٍ للشُّربِ، أو للزراعةِ أو لسقي الإبلِ والغنمِ، ولكنَّها تُرِكَتْ وأُهمِلتْ، فهذه الحُفُرُ قَدْ تَتَسبَّبُ في موتِ بعضِ الكِبارِ والصغارِ ممَّنْ لا ينتبهونَ لوجودِها.
وكذلكَ وجودُ بعضِ الخزَّاناتِ التي بُنيتْ بجوارِ بعضِ الآبارِ لاستقبالِ الماءِ والتي تُتْركُ مفتوحةً فيحصلُ بها الأذى والضَّررُ.
وكذلك بعضُ الخزَّاناتِ التي يَحفْرُها أصحابُها لبيوتِهم وهي ما زالتْ تَحتَ الإنشاءِ، وتكونُ مفتوحةً دون غطاءٍ، أو مغطاةً ببعضِ الأخشابِ التي لا تمنعُ حصولَ الضَّررِ بها، وهنا تقعُ المسؤوليةُ على الجميعِ، فيجبُ التَّعاونُ مِنْ جانبِ المواطنينَ والمقيمينَ في الإبلاغِ عن أيِّ حُفَرٍ أو آبارٍ أو فَتَحَاتٍ غيرِ مُغطاةٍ، حتى يَتمَّ استدراكُ الأمرِ ولا تحصلُ منها فواجعُ وحوادثُ يتألَّمُ منها الناسُ والمجتمعُ كلُّه.
عبادًَ اللهِ: وقد وجَّهتْ وزارةُ البيئةِ والمياهِ والزراعةِ بتخصيصِ آليةٍ تسمحُ للمواطنينَ والمقيمينَ بالإبلاغِ عن أيِّ حُفَرٍ أو آبارٍ أو خزَّاناتٍ غير مُغْلقةٍ، حتَّى تَتَمكَّنَ من اتِّخاذِ الإجراءاتِ اللازمةِ حيالَها للحفاظِ على أرواحِ المواطنينَ والمقيمينَ وعدمِ تعريضِهم للخطرِ، وذلك بالاتصالِ على الرَّقمِ 939 ، أو عبرَ الرابطِ في حسابِها على تُويتَر.
أسألُ اللهَ تعالى أَنْ يحفظَنا وإيَّاكم من جميعِ الشُّرورِ والأضرارِ، وأنْ يَمنَّ علينا وعليكم بالعفوِ والعافيةِ في الأنفسِ والأهلِ والأولادِ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56].
الجمعة: 17 / 7 / 1443هـ