محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم – خطبة الجمعة 18-11-1443هـ
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين؛ هدانا بفضِله إلى صراطِه المستقيمِ، ومنَّ علينا ببعثةِ سيدِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُاللهِ ورسولُه الناصحُ الأمينُ، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، فتلكَ وصيةُ اللهِ تعالى للأولينَ والآخرينَ:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ..}[النساء:131].
عبادَ اللهِ: محمدٌ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم أضاءَ اللهُ بهِ الأرضَ بعد ظلامِها، وهَدَى به العالمينَ بعد ضلالِها، وأحيَا به قلوبَ المؤمنينَ بعد مَواتِها، وأطفأَ به الشركَ، وأعلا به التوحيدَ، هو الرحمةُ المسداةُ، والنعمةُ المهداةُ.
هو أزكَى الأنامِ، وبَدرُ التمَامِ، ومِسكُ الخِتامِ، وخَيرُ من صلّى وصامَ.
هو أجملُ النّاسِ خَلْقاً، وأحسنُهم خُلُقاً، وأرحبُهم صدرًا، وأوسعُهم حِلمًا، وأسهلهم طبعًا، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختارَ أيسرَهما ما لم يكن إثمًا.
هو أوفرُ الناسِ عقلاً، وأسدُّهم رأيًا، وأقواهُم إرادةً، وأشجعُهم قلبًا، وأعدلُهم حُكماً. فَلَقَ اللهُ لهُ القمرَ فِلقتينِ، وتكلمَّتْ الحيواناتُ بحضرتِه، وسبَّحَ الطعامُ بين يديْهِ، ونَبَعَ الماءُ من بينِ أصابعِه، وسلَّمَ الحجرُ والشجرُ عليه، وتكاثرَ الطعامُ والشرابُ بين كفَّيهِ.
هو قرةُ العينِ، وحبيبُ القلبِ، الشافعُ المشفَّعُ، إمامُ المتقينَ، وقدوةُ الموحِّدينَ، وسيِّدُ ولدِ آدمَ أجمعينَ، هو أغلى عِندنَا من نفوسِنا، وأثمنُ من أرواحِنا، وأولى من والدِينا وأهلينَا، وأولى بنا من أنفسِنا.
هو الحبيبُ والقدوةُ والرسولُ والأسوةُ، وخاتمُ الأنبياءِ والمرسلينَ، وهو بنَا الرؤوفُ الرحيمُ، ﷺ.
هو إمامُ المتَّقينَ، وصفوةُ الخلقِ أجمعينَ، وأفضلُ الأنبياءِ والمرسلينَ، وأعلاهم قَدْرًا ومقامًا وجاهًا، وهو أولُ من تَنْشقُ الأرضُ عنهُ يومَ القيامةِ، وأوَّلُ من يُفتحُ لهُ بابُ الجنَّةِ، وهو أوَّلُ شافعٍ وأوَّلُ مشفّعٍ، وهو سيّدُ ولدِ آدمَ أجمعين.
له الوسيلةُ والفضيلةُ والمقامُ المحمودُ، واللواءُ المعقودُ، والموقِفُ المشهودُ، والحوضُ المورودُ، وله الشفاعةُ العظمى وله الكوثر، وعُرجَ به إلى السماءِ السابعةِ.
أيُّها المؤمنونَ: محمدٌ رسولُ اللهِ هو رسولُنا ﷺ الذي هدانا اللهُ تعالى به من الضلالةِ، وعلَّمنا به من الجهالةِ، وأرشدَنا به من الغوايةِ، وفَتَحَ به أعينًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقُلوبًا غُلفًا، وكثَّرَ بِه بعدَ القلَّةِ، وأعزَّ بِه بعد الذلَّةِ، وأغنَى بِه بعد العَيلَةِ، وهو الذي عَرَّفنَا الطريقَ الموصلةَ إلى رضوانِ اللهِ ودارِ كرامتِه، فلم يدعْ لنَا حَسَنًا إلا أَمرَنَا به، ولا قَبيحًا إلا نهانَا عنه، جزاهُ اللهُ عنَّا وعنْ أمَّتِه أفضلَ الجزاءِ وأحسنَه وأجْزلَه.
زكَّى اللهُ تعالى عقلَه، وزكَّى عِلْمَه، وزكَّى نُطْقَه، وزكَّى بصَرَه، وزكَّى قَلْبَه، وزكَّى ذِكْرَه، وزكَّى خُلقَه، فما تركَ فيه شيئًا إلا زكََّاه وشرََّفه.
خصَّه اللهُ عزَّ وجلَّ بما لم يُعْطِ أحدًا سواهُ، قال ﷺ:(أُعطِيتُ خَمسًا لم يُعطَهنَّ أحَدٌ قبْلي: نُصِرْتُ بالرُّعبِ مسيرةَ شهرٍ وجُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطَهورًا فأيُّما رجُلٍ مِن أمَّتي أدرَكَتْه الصَّلاةُ فلْيُصَلِّ وأُحِلَّتْ لي الغَنائمُ ولم تحِلَّ لأحَدٍ قبْلي وأُعطِيتُ الشَّفاعةَ وكان النَّبيُّ يُبعَثُ إلى قومِه خاصَّةً وبُعِثْتُ إلى النّاسِ عامَّةً) رواه البخاري (335) واللفظ له، ومسلم (521).
كانَ وجودُه ﷺ أمانًا للأمَّةِ؛ فهو القائلُ: (وَأَنا أَمَنَةٌ لأَصْحابِي، فَإِذا ذَهَبْتُ أَتى أَصْحابِي ما يُوعَدُونَ) رواه مسلم (2531).
وكانَ مولدُه ﷺ وبعثتُه وحياتُه ومماتُه نعمةٌ ورحمةٌ للعالمين، يقولُ اللهُ تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].
شرَّفه ربُّه سبحانَه بالإقسامِ بحياتِه قائلًا:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، وسارَعَ سبحانه في رضاهُ:{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}[البقرة: 144]، وَوَعَدَهُ بما يُرْضِيْه:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}[الضحى: 5].
عبادَ اللهِ: محمد رسول الله ﷺ هو سيدُ البشريةِ جمعاءَ وأوَّلُها في كلِّ فضيلةٍ، قال ﷺ: (أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ يَومَ القِيامَةِ، وأَوَّلُ مَن يَنْشَقُّ عنْه القَبْرُ، وأَوَّلُ شافِعٍ وأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) رواه مسلم (2278).
وهوَ حاملُ اللواءِ الذي تَنْضَويْ تَحْتَه جميعُ الأنبياءِ، فعن أبي سعيدٍ رضي اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: (وبيدي لواءُ الحمدِ ولا فَخْرَ وما من نبيٍّ يومئذٍ آدمَ فمنْ سُواهُ إلا تَحتَ لوائي..) رواه الترمذي (3615)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3615).
وهو صاحبُ الشفاعةِ العُظمى والمقامِ المحمودِ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قالَ: (إنَّ النّاسَ يَصِيرُونَ يَومَ القِيامَةِ جُثًا، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّها يقولونَ: يا فُلانُ اشْفَعْ، يا فُلانُ اشْفَعْ، حتّى تَنْتَهي الشَّفاعَةُ إلى النبيِّ ﷺ، فَذلكَ يَومَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ المَقامَ المَحْمُودَ) رواه البخاري (4718).
وكلَّ أبوابِ الجنَّةِ مغلقةٌ حتَّى يَفْتحَها؛ قال ﷺ:(آَتيْ بابَ الجَنَّةِ يَومَ القِيامَةِ فأسْتفْتِحُ، فيَقولُ الخازِنُ: مَن أنْتَ؟ فأقُولُ: مُحَمَّدٌ، فيَقولُ: بكَ أُمِرْتُ لا أفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ) رواه مسلم (197).
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة: 128].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على فضْلهِ وإحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلَه إلا اللهُ وحْدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحْبِه ومَنْ سارَ على نَهْجِه إلى يومِ الدِّينِ، أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ تعالى أيَّها المؤمنونَ حقَّ التَّقوى: فهي طريقُ الوصولِ إلى الجنَّةِ.
عبادَ اللهِ: إِنَّ انْتِقَاصَ النبيِّ ﷺ والاستهزاءَ بهِ أو بشيءٍ من شريعتهِ جُرمٌ عظيمٌ وإثمٌ كبيرٌ يُوجبُ العقوبةَ واللَّعنةَ، وقد أَنَزلَ اللهُ تعالى آياتٍ في كتابِه في حقِّ كلِّ مَنْ يُؤذيْ النبيَّ ﷺ ، ومِنْ ذلكَ قولُه تعالى:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر}، أي: إنَّ مبغضَك يا محمدُ ومبغضَ ما جئتَ به من الهدى، والحقِّ والبرهانِ الساطعِ، والنورِ المبينِ هو الأبترُ، والأبترُ من الرِّجالِ الذي لا ولدَ له ومن الدَّوابِ الذي لا ذَنَبَ له، وكلُّ أمٍر انْقَطَع مِنَ الخيرِ أثرُه فهو أبترُ.
قالَ شيخُ الإسلامِ رحمهُ اللهُ: «فإنَّه سبحانه وتعالى بَتَرَ شانئِ رسولِه من كلِّ خيرٍ، فيبترُ ذكْرَه وأهلَه ومالَه فيخسرُ ذلكَ في الآخرةِ، ويبترُ حياتَه فلا ينتفعُ بها ولا يتزوَّدُ فيها صالحًا لمعادِه، ويبترُ قَلْبَه فلا يعي الخيرَ ولا يُؤهِّلُه لمعرفَتَه وَمَحبَّتِه والإيمانِ برُسلِه ، ويبترُ أعمالَه فلا يستعملُه في طاعةٍ، ويبترُه من الأنصارِ فلا يجدُ له ناصرًا ولا عونًا، ويبترُه من جميعِ القُرَبِ والأعمالِ الصالحةِ، فلا يذوقُ لها طعمًا ولا يجدُ لهَا حلاوةً وإنْ باشرَها بظاهرِه فقلبُه شاردٌ عنها.. » مجموع فتاوى شيخ الإسلام (16/526).
وقالَ الشيخُ السعديُّ رحمه اللهُ: «هذا وَعْدٌ من اللهِ لرسولِه، أَنْ لا يضرَّه المستهزئونَ، وأن يكفيَه اللهُ إيَّاهم بما شاءَ من أنواعِ العقوبةِ، وقد فَعَلَ تعالى ذلكَ، فإنَّه ما تظاهرَ أحدٌ بالاستهزاءِ برسولِ اللهِ ﷺ ، وبما جاءَ بِه، إلا أَهْلَكه اللهُ، وقَتَلَه شرَّ قِتْلةٍ» تفسير السعدي (ص435).
فعلينَا يا عبادَ اللهِ: أن نتمسَّكَ بدينِه، وأن نقرأَ سيرتَه، وأن نتخلّقَ بأخلاقِهِ، وأن نتأدَّبَ بآدابِه، وأن نتَّبِعَ سنَّتَه، وأن نسعى في نشرِها.
أسألُ اللهَ تعالى أن يُعينَنَا على التمسّكِ بسنَّتِه، والاهتداءِ بهدْيهِ، والتمسكِ بطريقتِه، وأن يحشرنَا في زمرتِه.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].
الجمعة: 18/11/1443هـ