خلق البشاشة – خطبة الجمعة 26-7-1444هـ – أ.د عبدالله بن محمد الطيار
الْحَمْدُ لِلَّهِ القاهر فوق عبادِهِ وهو الحكيمُ الخبيرُ، يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ، أحمدُهُ سبحانَهُ على الدَّوَامِ، وأسألُهُ المزيدَ مِنْ الفَضْلِ والإِنْعَامِ، سبحانَهُ لا مَانِعَ لمَا وَهَبَ، ولا مُعْطِيَ لمَا سَلَبَ، تَعَالَى عن الشَّبِيهِ والنَّظِيرِ والنِّدِّ والْوَلَدِ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:
فاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعلمُوا أنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} المائدة:[7].
أيُّهَا المؤمنونَ: تضافرت النصوصُ القرآنية والأحاديثُ النبوية على الأمرِ بالتحَلّي بالأخلاقِ الحسنةِ والتعاملِ بهَا، ونشرِهَا في المجتمعِ تعليمًا وتطبيقًا، قالَ تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}الأعراف: [199] وجعلَ اللهُ عزّ وجلّ التَّحَلِّي بالأخلاقِ الحسنةِ سببًا للفلاحِ، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}الشمس: [9] .
والأخلاقُ عبادَ اللهِ: رحمةٌ إلهيةٌ، ومِنْحَةٌ ربَّانِيَّةٌ، يهبها اللهُ عزّ وجلّ مَنْ يشاءُ مِنْ عبادِهِ، قالَ تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } آل عمران: [159]
قال طاووسٌ رحمه اللهُ: (إِنَّ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ مَنَائِحُ يَمْنَحُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا مَنَحَهُ مِنْهَا خُلُقًا صَالِحًا) مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (ص26).
أيُّهَا المؤمنونَ: ومِنَ الأخلاقِ الإسلاميةِ البشاشةُ، وهي طلاقةُ الوجهِ، والتَّبسُّم وحُسْنُ الإقبالِ والاستقبالِ، واللُّطفُ في المسألةِ، ولينُ القولِ، وسهولةٌ الطبعِ، وهي صدقةٌ منسيَّةٌ، وعبادةٌ مهجورةٌ، قالَ ﷺ: (وتَبَسُّمُكَ في وجْهِ أخيكَ صدقةٌ) أخرجه ابن حبان (٤٧٤) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (٢٩٧٠) والبشاشةُ بِذْرَةٌ طَيِّبَةٌ تُؤْتِي أُكُلهَا ضِعْفَيْنِ، قَبُولًا ومحبةً عندَ النَّاسِ في الدُّنْيَا، وأجْرًا ورِفْعَةً عندَ اللهِ يومَ القِيَامَةِ.
عِبَادَ اللهِ: وبشاشةُ الوجهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ أهلِ الجَنَّةِ، وَصَفَهُمُ اللهُ عزَّ وجلَّ بِهَا فِي قولِهِ تعالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}القيامة: [22-23] وقالَ سبحانَهُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} عبس: [38-39] وكانَ النبيُّ ﷺ دائم البِشْرِ طَلْقَ الوَجْهِ، قالَ جريرُ بنُ عبدِاللهِ رضي الله عنه : (ما حَجَبَنِي النبيُّ ﷺ مُنْذُ أسْلَمْتُ، ولا رَآنِي إلّا تَبَسَّمَ في وجْهِي) أخرجه البخاري (٣٠٣٥) وقالَ عبدُاللهِ بنُ الحارثِ رضي الله عنه: (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللهِ) أخرجه الترمذي(٣٦٤١) وصححه الألباني.
أيُّهَا المؤمنونَ: وقَدْ حَثَّ النبيُّ ﷺ على البشاشةِ وطَلاقَةِ الوجْهِ، وعَدَّهَا مِنْ خِصَالِ الخيرِ، قالَ ﷺ (لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ) أخرجه مسلم (2626) قالَ أحدُ السلفِ: (إِنَّ البِرَّ شَيْءٌ هَيِّنٌ، وَجْهٌ طَلِيقٌ، وَكَلَامٌ لَيِّنٌ).
والبشاشةُ عِبَادَ اللهِ: سَمْتُ العلماءِ، وسَجِيَّةُ الحكماءِ، وهي مصيدةُ القلوبِ، وسببٌ لائتلافِهَا، ودليلُ الجودِ والكرمِ، ولذَا قِيلَ: (مَنْ ضَنَّ ببِشْرِهِ كَانَ بِمَعْرُوفِهِ أَضَنَّ)
والبَشَاشَةُ تَنْثُرُ عَبِيرَ المودَّةِ، ونَسَائِمَ المحبَّةِ، وتَسْتَلُّ عُقَد الضغينةِ والبغضاءِ؛ لتحِلَّ الأُلْفَةُ والإِخَاءُ، قالَ عبدُاللهِ بنُ المبارَكِ رحمهُ اللهُ: (حُسْنُ الْخُلُقِ: طَلاقَةُ الْوَجْهِ وَبَذْلُ المعْرُوفِ، وكَفُّ الأذَى) رواه الترمذي (2005).
أيُّهَا المؤمنونَ: إِنَّ بَشَاشَةَ الوَجْهِ كَسْبٌ للقلوبِ بِلا بَذْل، قالَ ﷺ: (إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُم ولَكِن يَسَعُهم مِنْكُم بَسْطُ الوَجْهِ وحُسْنُ الخُلُقِ) حسّنه الألباني في صحيح الترغيب (٢٦٦١) والبشاشةُ قِرَى الضيف، ودليلُ سلامةِ الصَّدْرِ، فالوَجْهُ مِرْآةُ الْقَلْبِ، يُظْهِرُ مَا بَطَنَ فِيهِ، وعَلَى قَدْرِ مَا في الْقَلْبِ مِنَ الوُدِّ والحُبِّ، تَكُونُ البَشَاشَةُ والطَّلاقَةُ في الْوَجْهِ.
عِبَادَ اللهِ: وكانَ النبيُّ ﷺ بَاشَّ الوَجْهِ حَتَّى عِنْدَ الغَضَبِ، ففي حديثِ كعب بن مالكٍ رضي اللهُ عنه لمَّا تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تبوك، يَقُولُ كَعْبٌ: فَجِئْتُ النبيَّ ﷺ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: (تَعَالَ) فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ..) أخرجه البخاري (٤٤١٨)، ومسلم (٢٧٦٩)
أعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }آل عمران: [159].
أقولُ قولِي هذا، وأستغْفِرُ اللهَ العظيمَ لِي ولَكُمْ ولِسَائِرِ المسلمينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الواحدِ القَهَّار، يُقَدِّرُ الليلَ والنَّهَار، ويَخْلُقُ مَا يشاءُ ويَخْتَارُ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه أرسَلَهُ رَحْمَةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بــــــعــــــــــدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ واعلمُوا أنَّ طَلاقَةَ الْوَجْهِ والبِشْر المحمود تكونُ وَسَطًا بينَ التَّعْبِيسِ والتَّقطيبِ وتصعيرِ الْخَدِّ، وَطَيِّ البِشْر عن البَشَر، وبينَ الاسترسالِ مَعَ كُلِّ أحدٍ بما يُذهِبُ الهيبةَ، ويُزِيلَ الوَقَارَ، ويخِلُّ بالمروءة، ويَقْدَح في الحياءِ.
وهذا مَا كانَ عليه النبيُّ ﷺ فكانَ مَنْ رآهُ بَدِيهَةً هَابَهَ، ومَنْ خَالَطَهُ عِِشْرَةً أَحَبَّهُ.
فاحذروا عبادَ اللهِ عُبُوس الوجْهِ، وتقطيَ الجبينِ، وتَصْعِيرَ الْخَدِّ، وتَزَيَّنُوا بالبشاشةِ والبِشْرِ، والسهولةِ والْيُسْرِ، فكمْ منْ مُقبلٍ أَبْعدتْهُ غِلْظَةٌ وتَقْطِيب وجْهٍ وَكَمْ مِنْ مُدْبِرٍ أعادَتْهُ بشاشةٌ ولينٌ طبعٍ.
وإِذَا كانت البشاشةُ وطلاقةُ الوجْهِ واجبةً مع سائرِ النَّاسِ، فهيَ مع الأبناءِ أَوْجَبُ وبِهِمْ أَرْفَقُ، فاجْعلوهَا تَوْطِئَةً للسلامِ، وبَابًا للحوارِ، وعُنْوَانًا عندَ تَقْدِيمِ الأعْذَارِ تَأْسِرُونَ قُلُوبَهُمْ، وتَحْظَوْنَ بقُرْبِهِم، وتَمْلِكُونَ سِرَّهُمْ.
اللَّهمَّ اهدنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يَهدي لأحسنِها إلَّا أنتَ ، واصرف عنا سيِّئَها لا يَصْرِفُ عَنِّا سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، اللَّهُمَّ آَتِ نُفُوسَنَا تقواهَا، وَزَكّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ.
اللَّهُمَّ أمِّنَا في أوطاننا، وأَصْلِح أَئِمَّتَنَا وَوُلاةَ أمُورِنا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ عامة لِلْحُكْمِ بكتابِكَ والعملِ بسنَّةِ نبيِّكَ، اللهم وفِّق خادمَ الحرمينِ الشريفينِ وسموَّ وليِّ عهدِهِ لكلِّ خيرٍ، واصرف عنهمَا كلَّ شرٍّ، اللهم سَدِّدْهُمْ وأَعْوَانَهُم ووُزَرَاءهُمْ لما فيه خيرُ البلادِ والعِبَادِ، ولما فيه عزُّ الإسلامِ وصلاحُ المسلمينَ.
اللهمَّ ارْبِطْ على قلوبِ رجالِ الأمنِ، والمرَابِطِينَ عَلَى الْحُدُودِ، الّذِينَ يُدَافِعُونَ عن الدِّينِ والمقدساتِ والأعراضِ والأموالِ، اللهُمَّ احفظهمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمِ ومِنْ خَلْفِهِمِ وعَنْ أَيْمَانِهِمْ وعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هَذَا الجمع مِن المؤمِنِينَ، اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّهُمْ، وَنَفِّس كَرْبَهُمْ، وَاقْضِ دِيُونَهُم وَاشْفِ مَرْضَاهُم، وَارْحَمْ مَوْتَاهُمْ، واغْفِرْ لَهُم ولآبَائِهِم وأُمَّهَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وَإِيَّاهُمْ وَوَالِدِينَا وَأَزْوَاجنا وذُرِّيَّاتِنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
ربَّنَا أَنْتَ وليُّنَا في الدنيَا والآخرةِ، تَوَفَّنَا مسلمينَ، وَأَلْحِقْنَا بالصَّالِحِينَ.
عِبَادَ اللهِ: اذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، واشْكُرُوهُ عَلى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}.
الجمعة: 1444/7/26هـ