لا تغضب – خطبة الجمعة 13-11-1444هـ

الجمعة 13 ذو القعدة 1444هـ 2-6-2023م

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ إلى يوم الدين، أمَّــا بَعْـدُ:

فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِوَصِيَّةِ اللهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} النساء: [131].

أيُّهَا المُؤمنونَ: أرشدَ اللهُ عزَّ وجلَّ المؤمنينَ إلى التَّحَلِّي بالفضَائِلِ، وتَجَنُّبِ النَّقَائِصِ والرَّذَائِلِ، دَعَاهُمْ إِلَى كَرِيمِ الْأَخْلَاقِ، ونَهَاهُمْ عَن النَّفَاقِ والشِّقَاقِ، أَمَرَهُمْ بِالرِّفْقِ واللِّينِ وحَذَّرَهُمْ مِنَ الْقَسْوَةِ والْغَضَبِ، فَقَالَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الأعراف: [199].

عِبَادَ اللهِ: ومِنَ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ، والطَّبَائِعِ السَّقِيمَةِ، والآفَاتِ السَّامَّةِ الَّتِي تَفْتِكُ بالأَخْضَرِ والْيَابِسِ، وتَقْتَلِعُ الْمَحَبَّةَ مِنَ الصُّدُورِ، وتَجْتَثُّ الْعَلَاقَاتِ مِنَ الْجُذُورِ، آَفَةُ الْغَضَبِ، وَسُرَعَةِ الانْفِعَالِ، وَإِطْلَاقِ الْعَنَانِ للنَّفْسِ، تُحَرِّكُهَا الْأَهْوَاءُ، وتَتَحَكَّمُ بِهَا الْأَمْزِجَةِ، دُونَ ضَابِطٍ مِنَ الشَّرْعِ، أَوْ لِجَامٍ مِنَ الْعَقْلِ.

أيُّهَا المؤمنونَ: والغضبُ غَلَيَانٌ فِي الصَّدْرِ، وثَوَرَانٌ فِي النَّفْسِ، مِنْهُ مَا هو مَحْمُودٌ ومَمْدُوحٌ، وهُوَ امْتِعَاضُ الوجْهِ، وتَغَيُّرِهِ حِسْبَةً للهِ عزَّ وجلَّ، إِذَا انْتُهِكَت الْمُحَرَّمَات، وقَدْ امْتَدَحَ اللهُ عزَّ وجلَّ نبيَّهُ موسَى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فِي قَوْلِهِ لِأَخِيهِ: {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} طه: [29-93] وَدَخَلَ النبيُّ ﷺ على عائشةَ وفي البَيْتِ قِرامٌ فيه صُوَرٌ، فَتَلَوَّنَ وجْهُهُ ثُمَّ تَناوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ، وقالَتْ: قالَ النبيُّ ﷺ: إنّ مِن أشَدِّ النّاسِ عَذابًا يَومَ القِيامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هذِه الصُّوَر) رواه البخاري (6109)، ومسلم (2107) وجاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنِّي واللَّهِ لَأَتَأَخَّرُ عن صَلاةِ الغَداةِ مِن أجْلِ فُلانٍ؛ ممّا يُطِيلُ بنا فِيها، قالَ ابن مسعود: فَما رَأَيْتُ النَّبيَّ ﷺ قَطُّ أشَدَّ غَضَبًا في مَوْعِظَةٍ منه يَومَئذٍ، ثُمَّ قالَ: (يا أيُّها النّاسُ، إنَّ مِنكُم مُنَفِّرِينَ، فأيُّكُمْ ما صَلّى بالنّاسِ فَلْيُوجِزْ؛ فإنَّ فِيهِمُ الكَبِيرَ، والضَّعِيفَ، وذا الحاجَةِ) أخرجه البخاري (7159).

أيُّهَا المؤمنونَ: وأمَّا الْغَضَبُ المذمومُ، فهوَ جَمْرَةٌ يلقِيهَا الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ فَتَحْمَرُّ عَيْنُهُ، وتَنْتَفِخُ أَوْدَاجُهُ، وتَنْتَفِضُ أَعْصَابُهُ، وتَتَخَبَّطُ أَفْعَالُهُ، وتَضْطَّرِبُ حَرَكَاتُهُ، وَلَوْ يَرَى الْغَضْبَانُ حَالَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ لَسَكَنَ غَضَبُهُ حَيَاءً مِنْ صُورَتِهِ وَهُوَ غَضْبَان، وقَدْ سَأَلَ رَجُلٌ النبيَّ ﷺ: بقولِهِ: أَوْصِنِي، فقالَ ﷺ: (لَا تَغْضَبْ..) فَأَعَادَ الرَّجُلُ سُؤَالَهُ، والنبيُّ ﷺ لَا يَزِيدُ عَنْ قَوْلِهِ: (..لَا تَغْضَبْ) أخرجه البخاري (٦١١٦) وفِي الْمُوَطَّأِ أنَّ رَجُلًا أتى النبيَّ ﷺ فقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: علِّمْني كلماتٍ أعيشُ بهِنَّ، ولا تُكْثِرْ عليَّ فأنسى، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: لا تَغْضَبْ) رواه مالك في الموطأ (5/1331) برقم (3362).

عباد الله: والنهيُ عنِ الْغَضَبِ في الوَصِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: الأَوَّلُ: النَّهْيُ عَن التَّخَلُّقِ والاتِّصَافِ بِالغضبِ، وهَذا الْمَعْنَى قَدْ يَصْعُبُ عَلى بَعْضِ النَّاسِ؛ لأنَّ الغضبَ فِطْرَةٌ وغَرِيزَةٌ فُطِرَ عليها بَنُوا آدمَ، وهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي مَبْدَئِهِ وَأَثَرِهِ، فيكونُ المعنَى الثَّاني الْمُقْتَضِي النَّهْي عن التَّمَادِي فِي الغضبِ، قالَ ميمونُ بنُ مِهْرَانَ: (جَاءَ رَجُلٌ إلى سلمانَ، فقالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ أَوْصِنِي. قالَ: لَا تَغْضَبْ، قَالَ الرجلُ: أَمَرْتَنِي أَنْ لَا أَغْضَبَ، وَإنَّهُ لَيَغْشَانِي مَا لَا أَمْلِكُ، قالَ سلمانُ: فَإِنْ غَضِبْتَ، فَامْلِكْ لِسَانَكَ وَيَدَك) جامع العلوم والحكم (1/368).

أيها المؤمنون: إنَّ الغضبَ جِمَاعُ كُلِّ شَرٍّ، وإِنَّ الْغَضْبَانَ تَصْدُرُ عَنْهُ أَفْعَالٌ عَظِيمَةٌ، يَجُورُ فِيهَا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ عَلَى إِخْوَانِهِ، ثُمَّ عَلَى أَهْلِهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، حتَّى يَنْتَهِي إِلَى نِسَائِهِ وأَبْنَائِهِ، فيكونُ عليهِمْ سَوْطَ عَذَابٍ، لَا يُقِيلهُم عثرةً، ولا يَرْحَم لهم عِبْرَةً، أَخْرَجَ مُسْلِمٌ في صحيحِهِ من حديثِ أبِي مسعود البدري رضي الله عنه أنه قال: (كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لي بالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِن خَلْفِي، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الغَضَبِ، قالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إذَا هو رَسولُ اللهِ َّ ﷺَ، فَإِذَا هو يقولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، قالَ: فألْقَيْتُ السَّوْطَ مِن يَدِي، فَقالَ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، أنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ علَى هذا الغُلَامِ، قالَ: فَسَقَطَ مِن يَدِي السَّوْطُ مِن هَيْبَتِهِ. أخرجه مسلم (1659).

أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرِّجِيمِ: {َفَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران: [159] أقول ما سمعتم، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ وتوبوا إليه إنَّ رَبِّي كَانَ غَفَّارًا.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:

الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشُّكْرُ له على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ ألّا إلهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، الدَّاعِي إلَى رضوانِه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:

فاتَّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ: واعْلَمُوا أنَّ الغضبَ جَمْرَةٌ منَ الشَّيْطَانِ، ولَا يُطْفِئُ نَارُهَا إلَّا الاستعاذة باللهِ عزَّ وجلَّ، واللَّوذ بهِ، واللُّجُوء إليهِ، قالَ تعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} الأعراف: [201]، وعَنْ سُلَيْمَان بن صُرْدٍ قالَ: كنتُ جالسًا معَ النبيِّ ﷺَ ورجلانِ يَستَبَّانِ، فأحدُهما احمَرَّ وجهُه وانتفخَتْ أوداجُه فقال النبيُّ ﷺَ: (إني لأَعلَمُ كلمةً لو قالها ذهَب عنه ما يَجِدُ، لو قال: أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ ذهَب عنه ما يَجِدُ)  أخرجه البخاري (3282).

أيها المؤمنون: ومِمَّا يُعِينُ عَلى تَرْكِ الغضبِ تَغْيير الْهَيْئِةِ بالجلوسِ أو الاضْطِجَاعِ، قالَ ﷺَ: (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلّا فَلْيَضْطَّجِعْ) أخرجه ابن حبان (٥٦٨٨).

عبادَ اللهِ: ومِمَّا يُعِينُ عَلى تَرْكِ الْغَضَبِ، السُّكُوت، وضَبْط النَّفْس، وعدم التَّعَجُّل في القرارِ، قال ﷺ: (إذا غضِب أحدُكم فليسكُتْ) أخرجه أحمد (٢٥٥٦) قال يزيد بن أبي حبيب: (إنما غَضَبي في نَعْليَّ، فإذا سمعت ما أكره أخذتُهما ومَضيت) العقد الفريد: (2/279)

اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، اللَّهُمَّ آَتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ لكلِّ خيْرٍ، واصْرِفْ عنهُمَ كُلَّ شَرٍّ، واجْعَلْهُمْ ذُخْرًا للإسلامِ والمسلمينَ، واجْعَلْهُمْ سِلْمًا لأَوْلِيَائِكَ، وَحَرْبًا عَلى أَعْدَائِكَ وارْزُقْهُم البِطَانَةَ النَّاصِحَةَ الَّتِي تَدُلُّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وتُعِينُهُمْ عَلَيْهِ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأمنِ، والمُرَابِطِينَ على الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أيمانِهِمْ وعنْ شمائِلِهِمْ ومِنْ فَوْقِهِمْ، ونعوذُ بعظَمَتِكَ أنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.

اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ، واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وجيرانَنَا، ومَنْ لهُ حقٌّ علينَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.       
                                                                                                      الجمعة 1444/11/14هـ