احفظ الله يحفظك – خطبة الجمعة 24-1-1445هـ
الحمدُ للهِ الْمُتَفَرِّدِ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْمُتَعَالِي عَن الشَّبِيهِ وَالنَّظِيرِ، الْعَلِيمِ الَّذِي لا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فِي الضَّمِيرِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَسِعَ عِلْمُهُ جَمِيعَ الْخَلائِقِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْبَشِيرُ النَّذِيرُ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ أجمعين أمّا بعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ مَن اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَمَنْ حَفِظَ حُدُودَهُ حَفِظَهُ وَرَعَاهُ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) الطلاق: [4].
أيُّهَا المؤمنونَ: دَعَا اللهُ عَزَّ وجَلَّ عِبَادَهُ إِلى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حَدِّهِ، وَأَوْصَاهُم بِلُزُومِ سَبِيلِهِ بِقَوْلِهِ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الأنعام: [153].
وشَرَعَ لَهُمْ دِينًا قَوِيمًا قَيِّمًا لا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَسَبِيلًا مُسْتَقِيمًا مُعَبَّدًا لا زَلَلَ فِيهِ فَأَرْشَدَهُمْ لِمَا يُسْعِدهُم، ودَعَاهُمْ لِمَا يُحْيِيهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) الأنفال: [24].
عِبَادَ اللهِ: وأكَّدَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْأَصْلَ بِوَصِيَّةٍ جَامِعَةٍ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ ﷺ فقالَ لابنِ عباسٍ: (يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ..) أخرجه الترمذي (2516) وصححه الألباني.
أَخِي المسْلِم: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، هذهِ الْوَصِيَّةُ النَّبويةُ الْجَامِعَةُ، يَنْبَغِي أَنْ يَضَعَهَا المسلمُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى حَوَادِثِ الدَّهْرِ إِذَا ادْلَهَمَّتْ، وَخُطُوبِ الْعَصْرِ إِذَا أَلَمَّتْ، وَقَاعِدَةُ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، هِيَ الأَمَانُ الْحَقِيقِيُّ، والضَّمَانُ الأَساسيُّ لِسَعَادَةِ الإِنْسَانِ وَنَجَاتِهِ فِي هَذِه الدُّنْيَا، فَعَلَى قَدْرِ حِفْظِ العبدِ لِرَبِّهِ، يَكُونُ حِفْظُ اللهِ عزَّ وجلَّ لَهُ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيّ رحمهُ اللهُ: (تَدبّرتُ هذا الحديثَ فَأَدْهَشَنِي وَكِدْتُ أَطِيشُ فَوَا أَسَفَا مِنَ الْجَهْلِ بِهَذَا الْحَدِيث، وَقِلَّة التَّفَهُم لمعْنَاهُ.! جامع العلوم والحكم (ص462).
أيُّهَا المؤمنونَ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ: (احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ) أَيْ: احْفَظْ أَوَامِرَهُ بِامْتِثَالِهَا واحْفَظْ نَوَاهِيه بِاجْتِنَابِهَا، وَاحْفَظْ حُقُوقَهُ بِمَعْرِفَتِهَا وَأَدَائِهَا، واحْفَظْ حُدُودَهُ فَلا تَتَجَاوَز مَا أَمَرَ بِهِ وَأَذِنَ فِيهِ، إِلَى مَا نَهَى عَنْهُ وَحَذَّرَ مِنْهُ.
عِبَادَ اللهِ: وَصُوَرُ حِفْظ الْعَبْد لِرَبِّهِ جَلّ وَعَلا كَثِيرَةٌ مِنْ أَهَمِّهَا: حِفْظُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَالَ تَعَالَى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238] وامْتَدَحَ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المؤمنون: 9].
وَمِنْ حِفْظِ الصَّلاةِ تَحَيُّنُ أَوْقَاتِهَا، والتَّبْكِيرُ لَهَا، وَإِتْمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، قالَ ﷺ: (مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا-أي: الصَّلاةُ- كَانَتْ لَهُ نُورًا وبُرْهَانًا وَنَجَاةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلا بُرْهَانٌ وَلا نَجَاةٌ وَكَانَ يَوْمَ الَقِيَامَةِ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهامَانَ وأُبَيِّ بنِ خلفٍ) أخرجه أحمد (6576) وابن حبان (1467) والطبراني (14/127).
أيُّهَا المُؤْمِنُونَ: وَيَحْفَظُ العبدُ رَبَّهُ بِحِفْظِ الْجَوَارِحِ، قَالَ ﷺ: (الاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى) أخرجه الترمذي (2458) وصححه الألباني فَحِفْظُ الرَّأْسِ وَمَا وَعَى يَدْخُلُ فِيهِ حِفْظُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الإسراء: [36] وَحِفْظُ الْبَطْنِ وَمَا حَوَى يَدْخُلُ فِيهِ عَدَمُ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَحْفْظُ الْفَرْجِ عَن الآَثَامِ، قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) المؤمنون: [5].
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ أَهَمِّ صُوَرِ حِفْظِ العبدِ لِرَبِّهِ سبحانَهُ: خَشْيَتُهُ في الْغَيْبِ والشَّهَادَةِ وَمُرَاقَبَتُهُ فِي السِّرِّ والْعَلانِيَةِ، قالَ تَعَالَى: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) البقرة: [196].
بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:
الْحَمْدُ للهِ الْحَافِظِ لِعِبَادِهِ، والنَّاصِرِ لأَوْلِيَائِهِ، أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآَلائِهِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى إِحْسَانِهِ وَعَطَائِهِ، وَأَشْهَدُ ألّا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعْلَمُوا أَنَّ مَنْ حَفِظَ اللهَ حَفِظَهُ اللهُ، قَالَ تَعالَى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) البقرة: [40] وَحِفْظُ اللهِ عزَّ وجلَّ للعبدِ يشمَلُ حِفْظَهُ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَحْفَظَهُ فِي أُمُورِ الدِّينِ والدُّنْيَا، فَلا يَخْلُصُ إِلَيْهِ أَذَى، وَلا يَنَالُهُ مَكْرُوهٌ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ) المطففين: [10-11].
ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ أَبَا الطَّيِّب الطَّبَرِيِّ بَلَغَ الْمَائَةَ سَنَة، وَهُوَ مُمَتَّعٌ بِقُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: (هَذِهِ جَوَارِحٌ حَفِظْنَاهَا عَنِ المَعَاصِي في الصِّغَرِ، فَحَفِظَهَا اللهُ عَلَيْنَا في الْكِبَرِ) وَمِنْ حِفْظِ اللهِ عزَّ وجلَّ للعبدِ فِي دِينِهِ، أَنْ يُجَنِّبَهُ الْفِتَنَ، وَيُنَجِّيه مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالْمِحَنِ، فَيَقْبِضهُ عَلَى الإِسْلامِ، وَيَخْتِم لَهُ بِالإِيمَانِ.
أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يَحْفَظْنَا بِحِفْظِهِ، وَيَكْلَأْنَا بِرِعَايَتِهِ، وَيَحْرُسْنَا بِعَيْنِهِ الَّتِي لا تَنَامُ، اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِنْ كُلِّ بَلاءٍ، وَنَجِّنَا مِنْ كُلِّ دَاءٍ.
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِالإِسْلامِ قَائِمِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالإِسْلامِ قَاعِدِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالإِسْلامِ رَاقِدِينَ، وَلا تُشْمِتْ بِنَا أَعْدَاء وَلا حَاسِدِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ أَعِنْهُ وَسَدِّدْهُ، وَاجْعَل لَهُ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ وَوُزَرَاءَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ. الجمعة 1445/1/24هـ