خطبة بعنوان (الْأَمَانَةُ وَالْمَسْؤُولِيّةُ حَوْلَ تَوْصِيل الطّلَبَاتِ لِلْبُيُوتِ) بتاريخ 4-5-1428هـ.
الخطبة الأولى :
الحمد لله ربِّ العالَمين، الذي أمر عباده بأداء الأمانة وحضَّهم عليها وحمَّلهم إياها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه الكريم [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] (الأحزاب)، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أدى الأمانة وبلغ رسالة ربه البلاغ المبين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعَهم بإحسان إلى يوم الدِّين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ](الحشر).
عباد الله: لقد أمر الله عباده بطاعته، والبعد عن معصيته، ووجههم لحفظ ما أمرهم به وبيَّن أنه أمانة يلزمهم حفظها وأداؤها على الوجه الذي يرتضيه، فانقسموا إلى ثلاثة أقسام، منهم الحافظ لأمانته، ومنهم المضيع، ومنهم الوسط بين ذلك.
ومما يدل على عظم شأن الأمانة قوله تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً](الأحزاب).
قال الإمام الطبري رحمه الله: (المعنى أن الله تبارك وتعالى عرض طاعته وفرائضه على السماوات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت، وإن ضيعت عوقبت، فأبت حملها شفقاً منها ألا تقوم بالواجب عليها، وحملها آدم، إنه كان ظلوماً لنفسه، جهولاً بالذي فيه الحظ له).
وقد استدل الطبري على ذلك بقول ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من أن الأمانة في الآية الكريمة (هي الفرائض التي افترضها الله على عباده)، وبما روي عنه (أي ابن عباس) أيضاً من أن الأمانة: (الطاعة عرضها الله عليها، أي على السماوات والأرض والجبال قبل أن يعرضها على آدم، فلم تطقها، فقال لآدم: يا آدم، إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم تطقها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ فقال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فتحملها). وقال أيضاً: (وقال آخرون: عُني بالأمانة في هذا الموضع أمانات الناس).
وقال القرطبي رحمه الله: (الأمانة تعم جميع وظائف الدين)، ونسب هذا القول لجمهور المفسرين، فالأمانة هي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد، وقيل: هي أمانات الأموال كالودائع وغيرها.
والراجح أن الأمانة: (هي كل ما افترض الله على العباد فهو أمانة كالصلاة، والزكاة، والصيام، وأداء الدَّين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار).
وقيل: (كل ما يؤتمن عليه من أموال وحُرمٍ وأسرار فهو أمانة).
وقيل: (هو خلق ثابت في النفس يعف به الإنسان عما ليس له به حق، وإن تهيأت له ظروف العدوان عليه دون أن يكون عرضة للإدانة عند الناس، ويؤدي ما عليه أو لديه من حق لغيره، وإن استطاع أن يهضمه دون أن يكون عرضة للإدانة عند الناس).
لذا فالأمانة تشمل كل شيء في حياة العبد، من أداء لحق الله تعالى، وحق نفسه، وحق العباد، فكل ما أؤتمن عليه العبد في الدنيا فهو داخل في الأمانة.
وإن من أعظم الأمانات: أمانة الرسل الذين يبلغون عن رب العزة جل وعلا، وهي من أبرز أخلاقهم عليهم الصلاة والسلام، فنوح وهود وصالح ولوط وشعيب، في سورة الشعراء يخبرنا الله عز وجل أن كل رسول من هؤلاء قد قال لقومه:[إني لكم رسول أمين].
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم قد كان في قومه قبل الرسالة وبعدها مشهوراً بينهم بالأمين، وكان الناس يختارونه لحفظ ودائعهم عنده.
وجبريل عليه السلام أمين الوحي، وقد وصفه الله بذلك في قوله [وإنه تنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين](الشعراء).
عباد الله: إن الأمانة خلق عظيم يحبه الله تعالى، فقد قال تعالى:[ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ](المؤمنون)، وحث عباده عليها بقوله:[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا](النساء)، وحذر من الخيانة فيها فقال تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ](الأنفال).
ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته عليها وحذر من مخالفتها، وأشار إلى عظم شأنها، وأنها خلق لازم لكل عبد مؤمن لا ينفك عنه، ووجه إلى أن من صفات المنافقين خيانة الأمانة، فقال صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)(رواه البخاري ومسلم)، وقال أيضاً: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)(رواه البخاري ومسلم).
وإن من صور الأمانة في حياتنا ما يلي:
(1) أمانة ولي الأمر بقيامه بمصالح الرعية، والنظر فيما ينفعهم، وتوجيههم إلى القيام بحق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(2) أيضاً قيام الرجل في بيته بحقوق أهله وأولاده، والعمل على الأخذ بأيديهم لما فيه الخير لهم في العاجل والآجل.
(3) وأمانة الزوجة في بيتها بقيامها بحقوق زوجها من حفظ لنفسها ولبيته، وأولاده، وماله.
(4) وكذا الموظف والعامل وغيرهما مما هم مكلفون بأعمال معينة أن يقوموا بأداء عملهم على الوجه المطلوب، وعدم التقصير فيه، وعدم استغلال وقت العمل فيما يعود بالمصلحة عليهم والتقصير في حق أصحاب الأعمال.
(5) ومن الأمانة قيام التجار بالصدق في معاملاتهم وعدم الكذب، وعدم استغلال حاجات الناس بزيادة أسعارها، والإضرار بهم بمنع ما يحتاجون إليه من سلع وحاجات.
(6) ومن الأمانة أداء حقوق العمال وعدم بخسهم حقوقهم.
(7) ومن الأمانة الصدق في البيع والشراء بين الناس، وحفظ الحقوق، وتأدية الودائع، وعدم تضييع الأمانة عن طريق أكل أموال الناس بالباطل.
عباد الله: وإن من الصور الكثيرة لضياع الأمانة بين الناس، ما يلي:
عدم الوفاء بالديون، والودائع، وأكل حقوق الورثة، واستغلال ممتلكات الغير في المصلحة الشخصية، وعدم الصدق في التعامل، وانتشار الغش في البيع والشراء والمعاملات بين الناس، وانتشار المظالم بين الناس في الحقوق المالية وغيرها. وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم حينما سئل: متى الساعة؟ قال: إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: كيف إضاعتُها؟ قال: إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة)(رواه البخاري)، ويقول أيضاً: (أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُن من خانك)(رواه أبو داود، والترمذي، وخرجه الألباني في الصحيحة).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ](الأنفال). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الأمانة شيء عظيم لا يستهان به، فمن قام بحقها سعد وفاز، ومن فرط في أدائها خاب وخسر، فقد روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها قال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه أثرُها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال إن في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)(متفق عليه).
وإن من التفريط في أمانة بعض الرجال في وقتنا الحاضر ما ظهر مؤخراً من خدمة توصيل الطلبات للبيوت بالمجان، والتي يعلن عنها صباحاً ومساءً على واجهات المحلات وأوراق الدعاية والإعلان، وقد استهان بعض الرجال بتلك الخدمة ففرط في أداء حق بيته ووكلها لتلك المحلات التي تيسر كل شيء لطلابها، فتجد المرأة بيدها أرقام تليفونات تلك المحلات تطلب أي شيء في أي وقت، وتجد الطلب قد أتى لها سريعاً محملاً بين يدي العامل أو السائق.
وقد فتح هذا الباب على بعض الناس شراً عظيماً، وكيف لا وقد سمعنا ببعض القصص والمآسي التي يندى لها الجبين بسبب التفريط في هذا الجانب، وكيف يؤمن العامل وهو عند باب البيت والمرأة تفتح له الباب وتظهر يدها، أو تتكشف في بعض الأحيان وكأن هذا العامل ليس أجنبياً عنها، وكذلك بعض الخادمات عندما تقف على باب البيت وهو مشرع للعيان، وهي سافرة متهتكة تحادث هذا العامل، وتأخذ منه وتحاسبه. فماذا يحدث من تلك الأمور سوى المفاسد العظيمة التي تعود على مجتمعنا بالوبال والخسران.
لذا فإني أحذر أولياء الأمور من التفريط في هذا الجانب الهام، فالبيت أمانة، والمرأة أمانة ، والأولاد أمانة، فيجب حفظ تلك الأمانات حتى لا يقف العبد يوم القيامة بين يدي الله تعالى متحسراً، فيسأله الله عما استرعاه، قال صلى الله عليه وسلم (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم..)(متفق عليه).
ألا فليتق الله أولئك الرجال الذين شغلتهم مجالسهم وأمور دنياهم عن أهليهم وذويهم فتركوهم وأهملوهم، وضيعوا الأمانة التي وكلها الله لهم.
ووصيتي لكل راع أن يقوم بحق أهله من شراء الأغراض، والقيام بخدمات البيت وما يحتاجه من أمور، ولا يترك الأمر للمرأة الضعيفة في تيسير أمور بيتها، فهي حمِّلت أمانة تربية الأولاد فلا تحمَّل شراء أغراض البيت واحتياجاته.
ولا يترك الأمر أيضاً لتلك المحلات وما فيها من عمالة قد تفسد عليه بيته وأهله.
ولينتبه أيضاً كل من عنده خادمة في بيته من متابعتها، والنظر فيما تفعله وتقوم به، فهي ضعيفة وربما يسول لها شياطين الإنس الوقوع فيما حرم الله ولا يدري صاحب البيت عن ذلك، ففي ذلك حفظ للبيت ومن فيه.
عباد الله: من أراد النجاة فليتمسك بشرع الله تعالى وأوامره وتوجيهات نبيه صلى الله عليه وسلم ففي ذلك الخير العظيم.
أسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأن يحفظ علينا بيوتنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يوفق الجميع لما فيه خير وصلاح المجتمع.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب)
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. الجمعة: 4-5-1428هـ