خطبة بعنوان: (وداع رمضان) بتاريخ 30-9-1428هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله وفق من شاء لطاعته فكان سعيهم مشكورا وأجرهم موفورا، الحمد لله الذي جعل لكل حي في هذه الدنيا زوالا، ولكل مقيم انتقالا ليعتبر أهل الإيمان فيبادروا بالأعمال الصالحات في زمن الإمهال، ولا يغتروا بطول الأعمار والآمال.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العظيم في قدره، المتعال فوق خلقه، الكريم في عطائه وفضله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل في سنته: (بادروا بالأعمال) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم المآل،أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وتفكروا في سرعة مرور الليالي والأيام، واعلموا أنها تنقص من أعماركم، وتطوى بها صحائف أعمالكم، فبادروا بالتوبة الصادقة، والأعمال الصالحة قبل أن يتخطفكم المنون فتندمون على ما أعطاكم الله من الفرص السانحة.
عباد الله:
كنا بالأمس القريب نستقبل شهر رمضان بالفرح والسرور، والبشرى والحبور، ولم لا وهو شهر تجتمع فيه أعمال عظيمة وأجور لمن قام بها كثيرة، واليوم نودعه مرتحلاً عنا بما أودعناه فيه، شاهداً علينا بما قدمناه بين يديه، فهنيئاً لمن كان شاهداً له عند الله بالخير، شافعاً له بدخول الجنة والعتق من النار، وويل ثم ويل لمن كان شاهداً عليه بسوء عمله، شاكياً إلى ربه من تفريطه وتضييعه، قال صلى الله عليه وسلم: (.. رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ..)(رواه الترمذي وأحمد).
فودعوا شهركم بخير ختام، فإنما الأعمال بالخواتيم، فمن كان محسناً في شهره فعليه بالإتمام، ومن كان مسيئاً فعليه بالتوبة والمبادرة إلى الصالحات قبل انقضاء الآجال، فربما لا يعود على أحد منا رمضان مرة أخرى بعد هذا العام فاختموا شهركم بخير، واستمروا على مواصلة الأعمال الصالحة التي كنتم تؤدونها فيه في بقية العام، فإن رب الدهر هو رب رمضان، وهو مطلع علينا وشاهد على أعمالنا، وقد أمرنا سبحانه بفعل الطاعات في جميع الأزمنة والأوقات، ومن كان يعبد شهر رمضان فإن شهر رمضان قد مضى وفات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فلنستمر عباد الله على عبادة الله جل وعلا في جميع أيام أعمارنا، قال تعالى:[واعبد ربك حتى يأتيك اليقين](الحجر). نعم إن بعض الناس يتعبدون في شهر رمضان خاصة، فيحافظون فيه على الصلوات في المساجد، ويكثرون من البذل والإحسان وتلاوة القرآن، فإذا انتهى رمضان تكاسلوا عن الطاعات، وبخلوا بما كانوا يبذلون من الصدقات، بل ربما تركوا الجمعة والجماعات، فهؤلاء قد هدموا ما بنوه، ونقضوا ما أبرموا، وكأنهم يظنون أن اجتهادهم في رمضان يكفر عنهم ما يجري منهم في سائر العام من القبائح والموبقات، وترك الواجبات، وفعل المحرمات، ولم يعلم هؤلاء أن تكفير رمضان وغيره للسيئات مقيد باجتناب الكبائر، قال تعالى:[إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم](النساء). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)(رواه مسلم)، وأي كبيرة بعد الشرك أعظم من إضاعة الصلاة؟ وقد صارت إضاعتها عادة مألوفة عند بعض الناس.
إن اجتهاد هؤلاء في رمضان لا ينفعهم شيئاً عند الله إذا هم أتبعوه بترك الواجبات والوقوع في المعاصي والسيئات.
وقد سُئل بعض السلف عن قوم يجتهدون في شهر رمضان، فإذا انقضى ضيعوا وأساءوا، فقال: (بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان). لأن من عرف الله خافه في كل زمان ومكان.
عباد الله:
وأما المؤمن الصادق المحب لربه فيفرح بانتهاء شهر رمضان لأنه استكمل فيه العبادة والطاعة، فهو يرجو أجره وثوابه من الله، ويتبع ذلك أيضاً بالاستغفار والتكبير ولزوم العبادة. قال تعالى:[إنما يتذكر أولوا الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لم عقبى الدار](الرعد)، فهؤلاء حري أن يفرحوا، وحق لهم أن يفرحوا وكيف لا وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه..)(متفق عليه)، فأي سعادة للمؤمن من هذه الفرحة عند لقاء ربه لينال الثواب الكبير، والعطاء الجزيل.
عباد الله:
وإن من مظاهر الإحسان في خواتيم هذا الشهر الكريم وتوديعه بحسن الختام إخراج زكاة الفطر، حيث تأتلف القلوب، ويتعاطف الغني مع الفقير، وقد فرضت طهرة للصائم، وطعمة للفقراء والمساكين، وما اشتكى فقير إلا بقدر ما قصَّر الغني في إخراجها.
وزكاة الفطر واجبة على الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، ويستحب إخراجها عن الحمل في بطن أمه إذا نفخت فيه الروح، وهي من غالب قوت البلد تمراً أو براً أو شعيراً أو زبيباً أو أقطاً أو أرزاً، ومقدارها صاع عن كل شخص، أي ما يعادل: ثلاثة كيلو جرامات تقريباً، ويجزيء عن هذه الخمسة كل حب يقتات في البلد: الأرز والذرة والدُّخن، ولا يجوز فيها إخراج الدراهم، لأن ذلك خلاف سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بإخراجها طعاماً وقدره بالصاع، فلابد من التقيد بأمره صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يعطي القيمة، قيل له: قومٌ يقولون: عمر بن عبد العزيز كان يأخذ بالقيمة، قال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: قال فلان، فما دام في المسألة قول للرسول فلا قول لأحد يقدم عليه.
ويخرج الإنسان صدقة الفطر عن نفسه وعمن يقوم بنفقته، ومحل إخراجها هو البلد الذي وافاه تمام الشهر وهو فيه، ومن كان في بلد وعائلته في بلد آخر فإنه يخرج فطرتهم في بلدهم، ويخرج عن نفسه في البلد الذي هو فيه، وإن عمَّدهم يخرجون عنه وعنهم في بلدهم جاز، وإن أخرج عنهم في بلده جاز.
والذين يعطون صدقة الفطر هم فقراء البلد الذين تحل لهم زكاة المال، سواء كانوا من أهل البلد أو من الفقراء القادمين عليه من بلد آخر.
وأنبه هنا إلى أمر هام: وهو أن على المسلم أن يتحرى من يعطيه زكاة فطره لأن بعض الناس يتعامل بزكاة الفطر وكأنها هدية، فيعطيها لقريبه الذي لا يستحقها، ويعطيها القريب لآخر من الناس، وهكذا فتصبح زكاة الفطر عادة وليست عبادة، لهذا وجب على من يخرج زكاة فطره أن يتحرى من يستحقها لكي تجزئه.
ولا يجوز نقل صدقة الفطر إلى بلد آخر بأن يرسلها إلى فقراء بلد غير بلده إلا إذا لم يوجد في بلده فقراء من المسلمين، فإنه يرسلها إلى فقراء أقرب بلد إليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجها إلى فقراء البلد الذي يفطر فيه الصائم ليلة العيد.
ومن فاته إخراجها في يوم العيد فإنه يخرجها بعده قضاء، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين ولابد أن تدفع في وقت الإخراج إلى المستحق أو إلى وكيله، ولا يكفي أن يجعلها أمانة عند شخص ليس وكيلاً للمستحق.
ويجوز للفقير أن يخرج فطرته مما أعطي من الصدقات، ويجوز دفع صدقة الجماعة إلى فقير واحد، ويجوز دفع صدقة الشخص الواحد إلى جماعة من الفقراء.
والحكمة من صدقة الفطر أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين وشكر لله تعالى على إكمال الصيام، فأدوها رحمكم الله على الوجه المشروع طيبة بها نفوسكم من أوسط ما تطعمون أهليكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:[قد أفلح من تزكي وذكر اسم ربه فصلى](الأعلى).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أكرم أمة الإسلام بعيد الفطر فرحة لهم بختام شهر الصيام، والصلاة والسلام على قدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن مما شرعه الله ختاماً لشهر الصيام صلاة عيد الفطر شكراً لله على أداء فريضة الصيام، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم المدينة وكان لأهلها يومان يلعبون فيهما، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)(رواه أبو داود).
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالخروج لصلاة العيد حتى النساء، فيسن حضورهن غير متطيبات ولا لابسات لثياب زينة وشهرة، ولا يختلطن بالرجال، والحائض تخرج لحضور دعوة المسلمين وتعتزل المصلى، قالت أم عطية رضي الله عنها: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى تخرج البكر من خدرها، وحتى تخرج الحيض فيكن خلف النساء فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون ذلك اليوم وطهرته.
والخروج لصلاة العيد إظهار لشعائر الإسلام، وعَلَمٌ من أعلامه الظاهرة، فاحرصوا على حضورها ـ رحمكم الله ـ فإنها من مكملات أحكام هذا الشهر المبارك.
واحرصوا على الخشوع وغض البصر وعدم إسبال الثياب، وعلى حفظ اللسان من اللغو والرفث وقول الزور، وحفظ السمع من استماع القيل والقال، والأغاني والمعازف والمزامير، ولا تحضروا حفلات السمر واللهو واللعب التي يقيمها بعض الجهال، فإن الطاعة تتبع بالطاعة لا بضدها، ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته اتباع صوم شهر رمضان بصوم ستة أيام من شوال، فقد روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر)، يعني في الأجر والثواب والمضاعفة.
واحرصوا بارك الله فيكم على صفاء القلوب من الحقد والحسد والبغضاء، وأقبلوا على الصفح والغفران فيما بينكم، فيوم العيد يوم عزيز على المسلمين ينبغي فيه أن نفرح جميعاً بفضل الله علينا، وليكن عهدنا مع الله دائماً على ما يرضيه، وأن نكثر من شكر نعمه علينا.
واحرصوا بارك الله فيكم على صلة الرحم، وزيارة الجيران، والمرضى، ومن كان مقصراً في حق أقاربه فليجعل العيد مفتاح خير له ولغيره كي ينال بشرى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه)(رواه البخاري).
واحرصوا بارك الله فيكم عن البعد عن المعاصي والآثام، ولا تجعلوا فرحتكم بالعيد تحملكم على معصية الله، فكم نرى من الناس من يفرح بالعيد فيقع في المعاصي والذنوب، كمثل من امتنع عن الحلال في نهار رمضان، ثم يفطر على ما حرم الله.
فلا يليق بالمسلم العاقل اللبيب أن يشكر الله تعالى على نعمه بالوقوع في معصيته، بل يجب عليه أن يشكر نعمه بدوام طاعته وذكره، وأن يلزم طريق عبادته، وأن يصرف جل همته إلى ما يرضي ربه.
فهنيئاً لمن ختم الله له بالقبول في ختام شهر رمضان، وحاز على مغفرة ذنوبه والعتق من النيران، ونال شهادة الكريم المنان بدخول الجنان.
وليحرص كل منا على طاعة الله في سائر أيام حياته، فالخير كل الخير في لزوم طريق الاستقامة، فمن أحب الله حرص على رضاه، واجتهد بكل وسعه على بلوغ فضله وجنته.
فاللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تتقبل منا الصيام والقيام وسائر الأعمال الصالحات، وأن تعيد علينا رمضان أعواماً عديدة ونحن في صحة وعافية وأمن وأمان وسلامة وإسلام، وأن تبارك لنا في عيدنا وأن تجعله عيد خير وبركة علينا وعلى أمة الإسلام.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب).
الجمعة: 30-9-1428هـ