خطبة بعنوان: (الغيبة – الأسباب والآثار والعلاج-) 23-5-1431هـ
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين أمر عباده بالقول الحسن فقال: [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً](البقرة الآية 83)، ونهى جل وعلا عباده عن الفحشاء والمنكر في الأقوال والأفعال ما ظهر منها وما بطن، وأشهد ألا إله إلا الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أزكى البشر خلقاً وأعفهم لساناً وأطيبهم قلباً وأكثرهم ذكراً، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ](آل عمران الآية 102).
أيها المؤمنون يقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ](الحجرات: الآية 12).
الغيبة: هي ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خُلقه أو ماله.
والغيبة كبيرة من كبائر الذنوب، وقد نقل غير واحد الإجماع على تحريمها.
قال ابن كثير في تفسير (والغيبة محرمة بالإجماع ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته كما في الجرح والتعديل والنصيحة).
وقال القرطبي (والإجماع على أنها من الكبائر وأنه يجب التوبة منها إلى الله تعالى).
وقال ابن حجر الهيتمي في الزواجر (الذي دلت عليه الدلائل الكثيرة الصحيحة الظاهرة أنها كبيرة لكنها تختلف عظماً وضده بحسب اختلاف مفسدتها).
ومن أدلة تحريمها قوله صلى الله عليه وسلم: (أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ ” قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ” ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ “، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: ” إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ: فَقَدْ اغْتَبْتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ: فَقَدْ بَهَتَّهُ)(رواه مسلم).
وما رواه جابر بن عبد الله ، قال : (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَفَعَتْ رِيحُ جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ)(رواه أحمد).
وما رواه أبو بزرة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)(رواه أبو داود).
وما رواه أبو بكر قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيُعَذَّبُ في البَوْلِ وأَمَّا الآَخَرُ فَيُعَذَّبُ في الغَيَّبَةِ)(رواه ابن ماجة، وخرجه الألباني في سنن ابن ماجه، وقال: حديث حسن صحيح).
وقد أعطى رسولنا صلى الله عليه وسلم درساً عملياً في التحذير من الغيبة وذلك حينما رجم ماعزاً رضي الله عنه في الزنا فقال رجل لصاحبه (انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب فسكت عنهما ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال أين فلان وفلان فقالا نحن ذان يا رسول الله قال انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار فقالا يا نبي الله من يأكل من هذا قال فما نلتما من عرض أخيكما آنفا أشد من أكل منه)(رواه أبو داود، وضعفه الألباني في سنن أبي داود 4/148).
عباد الله لقد كان السلف أكثر الناس حرصاً على سلامة ألسنتهم ولذا كثرت وصاياهم وتحذيراتهم من الغيبة قال عمرو بن العاص رضي الله عنه لبعض أصحابه لما مر على بغل ميت (لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم).
وقد روي عن ابن المبارك أنه قال لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والديَّ لأنهما أحق بحسناتي). وقد كان بعض السلف إذا قيل له إن فلاناً قد اغتابك بعث له بشيء من المأكولات الطيبة مكافأة له على أن أهداه حسناته ويقول له إني لا أستطيع أن أكافأك بمثل فعلك.
أيها المؤمنون ولعل من أهم الأسباب الدافعة والباعثة على الغيبة ما يأتي:
1) تشفي الغيظ فكلما هاج غضب شخص على آخر تشفى بغيبته وهذا كثير جداً.
2) تأثير قرناء السوء ومجاملتهم فكثيراً ما يغتاب الشخص غيره بسبب مجالسة أصدقائه ومجاملتهم وهذا يكثر في صفوف الشباب.
3) بعض الناس يتنقص غيره من أجل رفعة نفسه وهذا مركب نقص عند بعض الناس بحيث يظن أنه إذا حط من قدر فلان فإنه يكبر في أعين الآخرين.
4) الحسد الذي يأكل قلوب بعض الناس فمتى رأوا أن شخصاً محبوباً عند الناس قاموا بالقدح فيه وهمزه ولمزه من أجل حط قدره عند هؤلاء، وما علم هؤلاء أن الله جل وعلا هو الذي بيده هذا الأمر يعز من يشاء ويذل من يشاء.
وأفضل وسيلة لعلاج هذا الداء الخطير والمرض العضال هي العلم والعمل، فإذا علم المغتاب أنه تعرض لسخط الله يوم القيامة بإحباط عمله وإعطاء حسناته من يغتابه أو يحمل عنه أوزاره وأنه يتعرض لهجوم من يغتابه في الدنيا وقد يسلّطه الله عليه إذا علم هذا وعمل بمقتضاه من خير فقد وفِّق للعلاج وهنا لا بد من المبادرة إلى التوبة وذلك بالإقلاع عن المعصية والندم على فعلها والعزم على عدم العودة إليها والتحلل ممن وقع الشخص في عرضه لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة، قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ)(رواه البخاري).
عباد الله: وحق على كل مسلم سمع أحداً يغتاب أحداً من المسلمين رجلاً أو امرأة أن يدفع عن عرضه، قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ كَانَ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ)(رواه البيهقي).
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ)(رواه أحمد)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ)(رواه الترمذي). وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ بِالْغَيْبِ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)(رواه الطبراني).
ويعظم خطر الغيبة ويعظم إثمها إذا كان الحديث في أشخاص لهم فضل ومكانة ونفع في المجتمع، وخصوصلاً ولاة الأمر والعلماء والدعاة ورجال الحسبة وأهل الفضل والصلاح، وكذلك إذا كانت في المعلمين والمعلمات، أو كانت من الزوجات في الأزواج، أو من الجار لجاره، وهكذا، والعلاج هو ملء المجالس بأحاديث الخير والمسارعة إلى الطاعة.
وصدق الله العظيم: [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ](آل عمران الآية 133، 134).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الديان، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله سيد ولد عدنان صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن للغيبة مضاراً وآثاراً سيئة على الأفراد والمجتمع، ومن أضرارها ما يأتي:
1) صاحب الغيبة يعذب في النار بأكل النتن القذر.
2) الغيبة مرض اجتماعي يقطع أواصر القربى ويذهب المحبة بين المسلمين.
3) الغيبة معول هدام في المجتمع وشر مستطير تظهر آثاره واضحة في المجتمع الذي تفشو فيه الغيبة بين فئات المجتمع.
4) الغيبة تؤذي وتضر وتجلب الخصام والنفور بين أفراد المجتمع.
5) المغتاب ينال عقاب الهب في قبره.
6) المغتاب تذهب الغيبة أنوار إيمانه وتضعف آثار إسلامه.
7) لا يغفر للمغتاب حتى يعفو عنه من نال من عرضه.
8) الغيبة دليل على خسة المغتاب ودناءة نفسه وسواد قلبه، وهكذا إذا أراد الله نشر فضيلة للإنسان انبرى لها حسود بلسانه فنشرها بين العالمين.
أيها المؤمنون وقد رخص أهل العلم في أنواع من الغيبة لأن المصلحة فيها ظاهرة والمفسدة المتحققة منغمسة في جانب المصالح الظاهرة المتحققة، والقاعدة في ذلك أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وقد عدوا من مواطن جواز الغيبة ستة أمور هي:
1) المتظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم عند السلطان أو من له ولاية فيقول فلان ظلمني بكذا وفعل بي كذا واعتدى عليَّ بكذا، وهذا ليس من الغيبة الممنوعة لأنه لا يمكن أن يرفع عنه الظلم إلا بذلك.
2) الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يستطيع أن يمنع المنكر فلان يفعل كذا وكذا، فهذا ليس بغيبة لأنه لا يمكن منعه من ذلك المنكر إلا بالحديث عنه لمن يقدر على إزالته.
3) الاستفتاء بأن يقول في سؤاله للمفتي ظلمني فلان في كذا وفعل كذا، فهل له ذلك وما طريق الخلاص من ذلك، وتحصيل حقوقي ورفع ظلمه عني، ومع ذلك فلو لم يسمِّ الرجل لكان أولى بأن يقول المستفت للمفتي ما رأيك برجل فعل كذا وكذا.
4) تحذير الناس من شر أصحاب الشرور والفسقة، ومن هذا الباب الجرح والتعديل، وكذا لو طلب من شخص مشورة حول شخص معين لزواج مثلاً فيخبر بما فيه ويحذر منه ما دام يعلم عن أحواله شيئاً غير معلن، وهذا من النصيحة لعامة المسلمين.
5) إذا كان الشخص مجاهراً بالفسق معلناً له فهنا لا بأس بذكر ذلك والحديث عنه لكن لا يذكر بغيره مما لا يعلنه إلا على سبيل المشورة والنصيحة لمن طلبها.
6) التعريف بالشخص فإذا كان معروفاً بلقب معين فلا بأس بذكره فيه مثل الأعرج والأصم
والأعمى والأحول وغير ذلك فهنا يذكر بهذا اللقب على سبيل التعريف وليس على سبيل الاستنقاص.
ومع ذلك فينبغي مراعاة أمور مهمة عند فعل هذه الاستثناءات الجائزة من الغيبة فيخلص في نيته ويكون قصده إزالة المنكر والنصيحة وليس الحسد والحقد والتنقص وإذا تيسر عدم تعيين الشخص فهذا أولى إلا في الأحوال الضيقة.
ولا بد من مراعاة المصالح والمفاسد فلو ترتبت مفسدة أعظم فالأولى ترك هذه الغيبة الجائزة درءاً للمفسدة الكبيرة ولقاعدة هنا درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
هذا وصلوا وسلموا على الرسول المصطفى والنبي المجتبى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا اللهم أدم علينا نعمة الصحة والعافية.
اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا أو أراد ولاة أمرنا بسوء اللهم فأشغله بنفسه ورد كيده إلى نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتابك والعمل بسنة نبيك ووفق ولاة أمرنا خاصة للخير.
اللهم خذ بأيديهم لما فيه خير البلاد والعباد يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم طهر ألسنتنا من الغيبة، اللهم من كان له حق علينا اللهم فارضه عنا في الدنيا قبل الممات قبل أن يكون الحساب بالحسنات والسيئات.
لا إله إلا الله اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا.
اللهم أنزل علينا الغيث اللهم غيثاً مغيثا مريئاً سحاً عاماً طبقا مجلالا نافعاً
اللهم إنا نحمدك ونشكرك على ما أنزلت من الغيث اللهم اطرح البركة فيه وعم به ديار المسلمين يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](النحل: الآية 90).ـ. وصلى الله وسلم على نبينا محمد
الجمعة: 23-5-1431هــ.