خطبة بعنوان: (ظاهرة الإسراف وتوجيهات للطلاب والطالبات) 6-7-1431هـ.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له،ومن يضل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، فإنها وصية الرب جل وعلا للأولين والآخرين، قال جل في علاه {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ..}(النساء: الآية131). وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (اتَّقِ اللهِ حَيْثُمَا كُنْتَ..) (رواه الترمذي).
عباد الله: لقد أسبغ الله سبحانه وتعالى علينا نعماً كثيرة وفيرة، والناس يتقلبون في نعمه ليل نهار، فهم يسكنون في أحسن البيوت وأوسعها، وأفضل الفرش والأثاث وأروعها، وأطيب المأكولات والمشروبات وألذها وأطعمها، وأحسن المركوبات وأوسعها وألينها وأسرعها.
بل يتقلبون في نعمة الصحة والعافية، ونعمة الأمن والأمان، وكثرة الأولاد والأموال..
فلله الحمد والمنة على فضله، وهو المستحق للشكر وأهله، وهو الذي ترفع إليه الأيدي شكرا وثناء على عطائه وجوده.
وإن من شكر تلك النعم أن نعرف قيمتها، ونحفظ حقها، ونشكر مسديها، وإن من أهم أسباب حفظ تلك النعم التوسط في جميع شؤونها، وصدق الله العظيم إذ يقول [وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً] (الإسراء: الآية67).
عباد الله: لقد جاء الإسلام ليهذب النفوس ويربيها على محاسن الأخلاق، ويوجهها إلى أحسن الأعمال والأقوال، وإن من الواجب على كل مسلم أن يشكر تلك النعم لمسديها، وصدق الله تعالى إذ يقول {.. لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ..}(إبراهيم: الآية7).
عباد الله: المتأمل في حياة المسلمين يرى حقيقة عظيمة، وعلامة واضحة ظاهرة، ألا وهي ظاهرة الإسراف، التي عمت، حتى أصبح الصغار يقلدون الكبار في الإسراف ولا يبالون بما يفعلون، وهذه من علامات ذهاب الخيرات والبركات. وقد نهى الله جل وعلا عن الإسراف والتبذير في آيات كثيرة، قال تعالى: [وكلوا واشربوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ](الأنعام:141)، وقال جل ذكره:[وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا](الإسراء:26-27).
عباد الله: والإسراف صوره كثيرة ومتنوعة، وأعظمها وأشدها هو الإسراف في المعاصي، فما عوقبت الأمم السابقة إلا بسبب إسرافها في المعاصي، وإمعانها في الباطل، وتكبرها عن قبول الحق. {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(العنكبوت: الآية40).
وإن من صور الإسراف التي عمت بين صفوف المسلمين، الإسرافَ في المآكل والمشارب، ولقد رأيت بعيني صوراً كثيراً لهذا الداء العضال، سواء كان ذلك في ولائم الأفراح، أو المناسبات، أو الاحتفالات، أو الاجتماعات، أو في الشوارع والمتنزهات، أو غير ذلك مما يمس الكثير من أحوال المسلمين.
والبيوت أيضاً لم تخلو من ذلك،فكثيراً من المأكولات والمشروبات، والألبسة والفرش، تلقى في الزبالات ولا يستفيد منها مسلم، على الرغم من وجود المستحقين لتلك النعم، إلا من رحم الله تعالى وعلم بقيمتها فأخرجها على الوجه المطلوب شرعاً.
لقد قتلتنا التخمة، وغصت نفاياتنا بأنواع الأطعمة، وأصبح الإسراف والتبذير والتفاخر وكفر النعمة هو شأن بعضنا، وأنتم تشاهدون ذلك بأعينكم سواء كان ذلك في البيوت أو خارجها، وها هي التمور ترمى عند الأبواب في نهاية الموسم مع أن الحاجة ماسة لها في بلاد كثيرة.
عباد الله: إن الإسراف مرض قتال، وداء مهلك، ينبت أخلاقاً سيئة، ويهدم بيوتًا عامرة، ويهدد الأمم والمجتمعات، ويبدد الأموال والثروات، وهو سبب للعقوبات والبليات العاجلة والآجلة. وصدق الله العظيم إذ يقول {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(النحل: الآية112). فالإسراف يمسك بيد صاحبه عن فعل الخير وبذل المعروف.
وأنتم ترون المسرفين ضعيفي العزيمة واهني القوة، منهمكين في فنون المتاع الرخيص، لا يصمدون أمام الشدائد ولا يحتملون المكاره؛ لأنهم متعلقون بمشتهيات أنفسهم، مغرقون في لذيذ عيشهم، مما يقوي حرصهم على الحياة وكراهيتهم للموت.
وأهل الإسراف تأبى أيديهم أن تُبسط في إسعاد ذوي الحاجات والنكبات، لا يسارعون إلى مروءة ولا يسعفون في أخوة، ولا يهمهم أن يكون لهم في الناس ذكر جميل أو صيت حسن، ومن ثم تنقطع صلة التعاطف والتراحم بين كثير من أفراد الأمة.
عباد الله: وإن من أسباب الإسراف:
1ـ ضعف الإيمان، وقلة الخوف من الله، فالذي لا يعلم عظمة الله تعالى، وأنه المتفضل على عباده بتلك النعم، وأنه سيحاسبه على تلك النعم يكون مسرفاً غير مبال بعواقب الأمور.
2ـ كثرة المال: فكثرة المال تشعر بالترف، والترف يوصل إلى المذمَّة من الله تعالى وقد توعد أهله بالعذاب الأليم، قال تعالى:[وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ](الواقعة:41-45). قال ابن كثير رحمه الله: “كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم”.
3ـ الكبر: فالإسراف يؤدي بصاحبه إلى الكبر وطلب العلو في الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: (كُلُوا، وَاشْرَبُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا، فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ)(رواه أحمد)
4ـ عدم الحرص على المال: فالإسراف يؤدي إلى إضاعة المال وتبديد الثروات، فكم من ثروة عظيمة وأموال طائلة أفناها الإسراف وأهلكها. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)(رواه البخاري).
5ـ البعد عن المنهج الحق: فكلما بعد المسرف عن التوجيهات الربانية والنبوية كان ذلك سبباً من أسباب وقوعه في الإسراف الذي يسبب الضلال في الدين والدنيا، وعدم الهداية لمصالح المعاش والمعاد، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}(غافر:28)، وقال سبحانه:{كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (يونس:12).
6ـ الغفلة عن الدار الآخرة: فالواقع في الإسراف يكون في غالب أحيانه في غفلة عن الحساب في يوم الجزاء.
عباد الله: إن الإسراف عاقبته وخيمة، ويسبب الكثير من العقوبات في الدنيا والآخرة، فانتبهوا بارك الله فيكم لهذه الصفة الذميمة واعلموا أن القصد من النهي عن الإسراف والتبذير هو حماية المجتمع من الليونة المفرطة، ووقايته من الاسترسال في المتع الرخيصة، الذي يؤدي بدوره إلى الانحدار في الرذائل والمحرمات، ويصرف عن حياة الجد والاجتهاد والبذل والتضحية، كما يقُصِد به حفظ الأموال التي بها قيام حياة الناس واستقامة معاشهم.
فيجب علينا مقاومة هذه الظاهرة ومنعها والتبصر بمخاطرها وسيئ آثارها، وأي أمة لا تفعل ذلك حقّت عليها كلمة الله، وأحاط بها وعيد القرآن، جزاءً وفاقًا:[وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ] (القصص:58).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وتزودا لدار الجزاء، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.
عباد الله: وعلى أبواب الامتحانات، ودخول طلابنا وطالباتنا إلى قاعاتها، وما تحمله من قلق وخوف يحتاج إلى جد واجتهاد، فإني أذكر لهم بعض الوصايا عسى الله أن ينفعهم بها، ومن ذلك:
أولاً: أوصيهم أن يجعلوا الآخرة أكبر همهم ومبلغ علمهم وغاية رغبتهم، وأن يكون خوفهم من اختبار الآخرة أشد من خوفهم من اختبار الدنيا وأن يجعلوا اختبار الدنيا مذكراً لهم باختبار الآخرة، ولا شك أن الإنسان الموفق يتخذ من هذه المواقف زاداً يعينه على ذكر الآخرة ولا يزال قلب الإنسان حياً ما ذكر الآخرة.
ثانياً: أوصيهم أن يرفقوا بأنفسهم وألا يحملوها مالا تطيق، فإن النفس أمانة في عنق الإنسان فلا يحملها من التعب والسهر والنصب مالا تتحمله.
ثالثاً: أن يعملوا على تنظيم أوقات المذاكرة والمراجعة، وأوقات النوم والراحة حتى يعطوا الأجساد حظها، والنفس سكينتها وطمأنينتها فيكون ذلك عاملاً قوياً في النجاح والتفوق.
رابعاً: أوصيهم بالاستعانة بالله والتوكل عليه، ودوام ذكره، مع كثرة الاستغفار، والحرص على الفرائض، وبر الوالدين وطلب الدعاء منهما، وأيضاً ملازمة الصبر في الأمور كلها.
خامساً: أحذرهم من التجمعات بعد الاختبارات فهي تولد شراً عظيماً لهم، وعليهم أن ينتبهوا لأصدقاء السوء، الذين يريدون لم الضياع والدمار، ولنكن جميعاً حائط صد قوي ضدهم، فمن رأى من هؤلاء أحداً فليناصحه، أو ينبه زملائه عليه لكي يحذروا من شره.
عباد الله: ووصيتي للآباء والأمهات أن يكونوا نعم العون لأبنائهم وبناتهم، وأن يحيطوهم بالعطف والحنان، والتوجيهات السديدة، وأن يقدروا ما هم فيه من الضعف والكرب وهم الاختبار، وأن يشعروهم بفضل الله وعونه وتوفيقه، وأن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب فقط، والتوفيق من الله وحده، وأن يحرصوا على عدم تركهم في الشوارع بعد انتهاء الاختبارات يتصيدهم أهل الشر والسوء، فهم أمانة في أعناقنا جميعاً.
عباد الله: ووصيتي للمعلمين والمعلمات أن يتقوا الله في أبناء المسلمين وبناتهم وأن يحسنوا القيام على شؤونهم ورعايتهم وألا يضغطوا عليهم ويحملوهم مالا يطيقون ويضيقوا عليهم في الأسئلة ويضيقوا عليهم في الاختبارات، بل ينبغي أخذهم بالحنان واللطف والرفق فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ)(رواه البخاري ومسلم). والمعلم العاقل الحكيم الموفق هو الذي يستطيع أن يضع الأمور في نصابها إذا وفقه الله لذلك.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفق أبناءنا وبناتنا، وأن يسددهم، وأن يقر أعين الآباء والأمهات بصلاحهم وتفوقهم ونجاحهم.
وأسأله سبحانه أن يحفظهم من كل سوء وشر.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:56).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم ارزقنا شكر نعمك وأعنا على أداء طاعتك على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
بتاريخ: 6-7-1431هـ