خطبة بعنوان: (دروس وعبر من قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون) 11-1-1432هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي كتب العزة لأوليائه المؤمنين وأيد بالحق أصفياءه المتقين وأشهد ألا إله إلا الله ناصرُ الموحدين ومذلُّ الطغاة والمتجبرين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم النبيين وإمامُ المرسلين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ](الحشر الآية18).
معاشر المؤمنين في قصص القرآن عظات وعبر ودروس وفوائد ينبغي أن تكون زاداً في الطريق فكم قص القرآن علينا قصصاً في سور مختلفة وبأساليب متنوعة ترغيباً وترهيباً وإن قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون الطاغية هي أكثر قصص القرآن عرضاً حيث تميزت بتنوع العرض واختلاف المشاهد وهي أطول قصص الأنبياء ولا غرابة فهي من أعجب القصص من بداية فصولها إلى نهايتها فقد كان فرعون حذراً من موسى كل الحذر لكن الله جل وعلا سخَّر فرعون لتكون تربية موسى في بيته ويأكل من مائدته ويجلس على فراشه ويأخذ منزلة الولد بل أكثر.
عباد الله لقد قرر فرعون قتل كل غلام ذكر يولد من بني إسرائيل لأنه بَلغَه عن طريق المنجمين أن غلاماً منهم سيولد ويكون هلاكه على يدي هذا الغلام وبعد أن نفَّذ هذا القرار سنواتٍ لم يجد قوم فرعون من يخدمهم من بني إسرائيل فقرر فرعون أن يُقتل الغلمانُ سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لم يكن فيها قتل وشاء الرحمن أن يولد موسى في السنة التي يقتل فيها كل مولود من بني إسرائيل ومع حرص فرعون وحذره وطغيانه وجبروته فقد نجا موسى من القتل لحكمةٍ يريدها الله جل وعلا.
عباد الله ولما حملت أم موسى به حزنت حزناً عظيماً خوفاً عليه من القتل ولما وضعت الغلام اشتد خوفها وحزنها فأوحى الله إليها أن ترضعه فإذا خافت عليه فتضعه في صندوق ثم تلقى به في البحر ومن خَلقَه سيحفظه ويرده إليها وصدق الله العظيم: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ](القصص الآية7).
وتضع الأم المسكينة الغلام في الصندوق وتتركه في وسط البحر وقد سلمت أمرها لله العلي الكبير وهي تنظر إلى غلامها وهو في الصندوق والصندوق تتقاذفه الأمواج يمنة ويسره وتسير به حتى يستقرَّ أمام بيت فرعون ويأخذُ زبانيته الصندوق وينظرون إلى الغلام البهيِّ فيلقى اللهُ محبتَه في قلب امرأة فرعون فتعلنُ أنه سيبقى وهنا يظهر عجزُ فرعون وضعفُ تدبيره أمام عظمة الخالق سبحانه ويظهرُ أثرُ الصبر وأن مع العسر يسراً وصدق الله العظيم: [فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ] (القصص الآية 8).
ويتحققُّ وعدُ الله لأم موسى برجوعه إليها [فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ](القصص الآية13).
وتتم رضاعةُ موسى في أحضان أمه وتأخذ على إرضاعه أجراً من فرعون وهنا يظهر ضعف المخلوق مهما أظهر من القوة والجبروت وأنَّ الأمر أمر الله مهما كان تخطيط البشر وتدبيرهم فإذا تم رضاع الغلام عاد إلى بيت فرعون ثم نشأ وترعرع حتى صار شاباً وحصل ما حصل من سبب جعله يخرج من بين أظهرهم وهم يريدون قتله لكنَّ أمر الله فوق كل شيء ويحصل لموسى ما يحصل من التعب والمعاناة والغرابةِ لكنها كانت بمثابة تهيئة للنبوة والرسالة وبعد ذلك يرجع إلى فرعون ويدعوه إلى الله رغم جبروته وسلطانه واستكباره وقد استعان موسى بأخيه هارون وليس لهما معين ولا ناصر إلا الله الواحد القهار.
لكنَّ فرعون تولى بركنه وتجرأ على الله وبغى وطغى وادعى أنه الإله، وصب عذابه على بني إسرائيل ولم تزل المحاجةُ والمجادلةُ بينهما والآيات تقوم على يدي موسى شيئاً فشيئاً ومرة بعد مرة على وجه يبهر العقول ويحيرِّ الألباب ويتضح معه أنَّ ذلك لا يمكن أن يأتي به إلا من هو مؤيَّد بالحق ومكرَّم بالرسالة من الله.
ويستمر موسى في دعوته إلى الله بأساليب مختلفة ويتحقق على يديه من المعجزات ما يبهر العقول ومع ذلك يزداد إصرار فرعون وقومِه ويستمر الصراع بين الحق والباطل وتلك سنة ربانية ماضية.
ويستمر موسى يقرر ربوبية الله وألوهيته وأنه المعبود وحده وينازع فرعون ربَّه في ربوبيته ويعلن لملئه أنه ربهم الأعلى وذلك غاية السقوط والخذلان ويصوِّر القرآن ما جرى من حوار مع موسى قال تعالى: [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ *قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ](الشعراء الآيات23، 24، 25، 26، 27، 28، 29).
وهنا بعد أن أفلس فرعون وجنوده لجأوا إلى القوة والسلطان وقد قامت عليهم الحجج والبراهين ويهدد فرعون ويتوعد ويترك المجادلة ويلجأ إلى قوته وجبروته وسلطانه ومعه زبانيته وجنوده يوافقون على كل ما يقول ويأخذ الصراع مع موسى لوناً آخر حيث قرر فرعون طرد موسى ومن معه حيث يقول عنهم ما حكاه الله في قوله [إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ](الشعراء الآية54، 55، 56).
ويخرج موسى ومن معه ويتجهون قاصدين طريق مدين لأن موسى سبق أن سلك هذا الطريق لكن يخطؤن الطريق لحكمة يريدها الله ويسيرون تجاه البحر ويبلغ بهم الكرب مبلغه حيث البحر أمامهم وفرعون وجنوده خلفهم وليس لهم حول ولا سلطان إلا بالله قال الله تعالى: [فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ](الشعراء 61، 62، 63، 64، 65، 66، 67).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي نصر موسى ومن معه من المؤمنين على عدو الله فرعون وجنوده الظالمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام المتقين والمبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاعلموا أيها المؤمنون أن قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون فيها من العظات والعبر والدروس المستفادة الشيء الكثير ومما نذكَّر به من هذه الدروس ما يأتي:
أولاً: أن الحق غالب والباطل زاهق وصوت الناصحين الصادقين سيعلو مهما طال ليل الظالمين وهكذا بزغ النور وزالت الظلمة وسقط بهرج فرعون وجنوده وتبين الأمر للسحرة فأذعنوا ورجعوا وتابوا وأنابوا ونجحوا في الامتحان العسير وكان جزاؤهم عظيماً على قدر امتحانهم في الدنيا [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ*فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ*وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ](الأعراف الآيات 117، 118، 119، 120، 121، 122).
ثانياً: وكان من ضمن التحدي الذي لقيه فرعون ما كان من زوجته التقية الصادقة آسية حيث أعلنت إيمانها وشمخت بعقيدتها وتوكلت على ربها رغم ضعفها وظروفها وسلطة فرعون وجبروته [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ](التحريم الآية11).
وآمن مع آسية أقوام من بني إسرائيل ذكر الله خبرهم في القرآن قال الله تعالى: [وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ](غافر الآية28).
وقال الله تعالى: [فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ](يونس الآية83).
ثالثاً: الصبر وسيلة ناجحة لمواجهة المصائب والنكبات وهكذا أمر موسى عليه الصلاة والسلام قومه أن يصبروا ويستعينوا بربهم ويكثروا من الصلاة قال الله تعالى: [قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا](الأعراف الآية128).
وقد ثبت أنهم كانوا يصلون في بيوتهم خوفاً من فرعون وبطشه: [وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ](يونس الآية87).
وإذا اجتمع الإيمان والتوكل على الله والاستقامة على دينه وصاحب ذلك اللجوء إلى الله وكثرة الدعاء فإن الفرج قريب وصدق الله العظيم: [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ](الطـلاق الآيتان2، 3)
رابعاً: وبعد أن فشل فرعون لجأ إلى المحاجة بالباطل والتدليس على الرعاع والدهماء وهذا هو أسلوب الظالمين في كل زمان ومكان قال الله تعالى: [قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ](الأعراف الآية123).
ثم لجأ فرعون إلى ما هو أعظم من القول حيث مارس أقسى أنواع الظلم مع موسى ومن آمن معه قال الله تعالى: [قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ](الأعراف الآية127).
ولاحظوا أيها المؤمنون كيف يدعِّي فرعون أن موسى وقومه مفسدون والواقع أنه هو أعظم المفسدين وكبير الظالمين.
خامساً: العاقبة دائماً للمتقين الصادقين وهكذا كانت حال موسى ومن معه حيث نجاهم الله وأهلك فرعون وجنوده وهكذا أوصى موسى قومه مبشراً لهم قال الله تعالى: [إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] (الأعراف الآية128).
هذا وصلوا وسلموا على محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين اللهم ودمر أعداءك أعداء الدين اللهم وفق ولاة أمر المسلمين لتحكيم كتابك والعمل بسنة نبيك ووفق ولاة أمرنا خاصة لكل خير اللهم خذ بأيديهم لما فيه خير البلاد والعباد اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم وارفع درجاتهم في الجنات واغفر لهم ولآبائهم وأمهاتهم وارفع درجاتهم يا ذا الجلال والإكرام.
[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ].
عباد الله [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](النحل: الآية90).
اللهم يا حي يا قيوم أتم الصحة والعافية على ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين اللهم أتم عليه الصحة والعافية ووفقه لكل خير واجعله رحمة على شعبه بمنك وكرمك ووفق نائبيه لكل خير يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغث القلوب بالإيمان وأغث البلاد بالأمطار يا ذا الجلال والإكرام وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الجمعة: 11-1-1432هــ