خطبة بعنوان: (نعمة الغيث وفضل صيام يوم عاشوراء) بتاريخ 7-1-1433هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، ملبي طلب المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين، القائل في كتابه المبين {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}(الشورى:28)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي انفرد بإنزال الغيث على عباده ليعلم الموقنين من المرتابين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الذي استغاث بربه واستسقاه فأنزل عليه الغيث كرامة له ورحمة للمؤمنين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله: فهي خير زاد للمؤمنين، وهي أعظم سبيل للوصول إلى العلم الشرعي الموصل لرحمة رب العالمين {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(البقرة: 282).
عباد الله: لقد دعانا الله جل وعلا إلى التفكر والتدبر في عظيم خلقه، فقال جل وعلا{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} (الروم:8)، دعانا إلى ذلك لما فيه من إظهار عظمة الله وقدرته، وعظيم حكمته وتدبيره، وتلك الآيات العجيبة فيها ما يبهر أنظار الناظرين ويقنع عقول المتفكرين ويجذب أفئدة الصادقين وينبه العقول النيرة المستقيمة إلى عظمة الخالق العظيم جل وعلا وتقدس.
وإن من عظيم آيات الله الباهرة التي تدل على سعة فضله وكثرة جوده وعطائه ذلك الغيث الذي ينزله على عباده رحمة بهم، وجبراً لحاجتهم، وسداً لفاقتهم، فهو يعتبر من أعظم نعم الله على عباده، التي لا يستغني عنها جميع العباد، وسائر المخلوقات من طير وحيوان وزرع، كما قال الله جل وعلا{وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}(الأنبياء:30)
عباد الله: إذا حُرم الناس هذه النعمةَ هُجرت المنازل والأوطان، وبارت الأراضي، وماتت الزروع والثمار، وهلك الطير والحيوانات، وهذا يدل على عظيم تلك النعمة التي غاب عن كثير من الناس شكر مسديها.
هذا هو الغيث الذي يمن الله جل وعلا به على عباده ويفرحون بنزوله ويطربون له إذا توالى، وينتظرون أثره عاجلاً.
ومن تأمل كلام الله جل وعلا وهو يتحدث عن الغيث ويصف أحوال الناس قبله وبعده، يرى عظيم أثره، قال تعالى في كتابه العظيم:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(الروم: 48ـ 50)، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ*يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}(النور: 43، 44)، وفي سورة الشورى:{وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ٱلْوَلِىُّ ٱلْحَمِيدُ [الشورى:28]، فهو سبحانه الذي يرسل الرياح فتسوق تلك القطع من السحاب ثم يؤلف بينها ثم يجعلها سحاباً متراكماً كأمثال الجبال، ثم ينزل منها المطر كقطع الثلج، ثم يجعلها نقطاً متفرقة ليحصل بها الانتفاع من دون ضرر، وتارة ينزل برداً فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، يكاد ضوء سنا برقه يذهب بالأبصار من شدته وقوته.
عباد الله: لقد وصف الله تعالى نعمة الغيث في كتابه بصفات عديدة، فأحيانًا يصف الماء بالبركة، وأحيانًا يصفه بالطهر، وأحيانًا بأنه سبب الحياة، يقول الله جل وعلا: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا..}(ق: 9)، ويقول تعالى:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا…}(الفرقان: 48)، ويقول تعالى: {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}(النحل: 65).
عباد الله: من نظر إلى هذا الغيث يرى فيه مواطنَ للعبر وآياتٍ للتذكر، ومن أبرزها أنه دليل باهر وبيانٌ قاهر على توحيد الله وعظيم أمره وجليل سلطانه. قال ابن القيم رحمه الله عن هذه النعمة العظيمة: (فيرشُّ السحابَ على الأرض رشًا، ويرسله قطراتٍ منفصلةً، لا تختلط قطرةٌ منها بأخرى، لا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرةُ صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كلُّ واحدةٍ في الطريق الذي رُسم لها، لا تعدل عنه حتى تصيبَ الأرضَ قطرةً قطرةً، قد عُيِّنتْ كلُّ قطرةٍ منها لجزءٍ من الأرض لا تتعداهُ إلى غيره، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرةً واحدةً أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه)، ثم قال: (فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقًا للعباد والدواب والطير والذر والنمل، يسوقه رزقًا للحيوان الفلاني في الأرض الفلانية بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش)، فتبارك الله أحسن الخالقين.
عباد الله: إن هذا الغيث الذي أنزله الله علينا هو من فضل الله ورحمته، فكلُنا يعلمُ أن بلادنا ليس بها أنهار، وأنها تعتمد بعد الله في بعض شؤونها على مياه الآبار التي تغذيها الأمطار، فعلينا أن نقوم بشكر الله جل وعلا على نعمته، وأن نستعين بها على طاعته، فإن من قام بشكر الله زاده الله، ومن كفر بنعمة الله حرمه الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه وجوده وإكرامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون: فإن التقوى خير زاد ليوم المعاد.
عباد الله: ها نحن نستقبل عاماً جديداً، فينبغي أن نقدم فيه أعمالاً صالحة تثقل موازين حسناتنا يوم نلقى الله تعالى، وفي بداية هذا العام الجديد نستقبل شهر الله المحرم، وهو شهر عظيم من أشهر الله الحرم، ذكره الله في كتابه العزيز لفضله فقال جل وعلا: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِين} (التوبة:36)، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيامه فقال: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل)(رواه مسلم). وفي هذا الشهر ــ عباد الله ــ يوم عظيم هو يوم عاشوراء، وهو يوم من أيام الله سبحانه، نجَّى فيه نبيه موسى عليه الصلاة والسلام من فرعون، وأغرق فرعون وجنوده، وجعلهم عبرة للمعتبرين، فهذه المناسبة العظيمة ينبغي لنا أن نقف عندها ونتأمّلها ونستفيد من دلالاتها.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدَ الْيَهُودَ صُيَّامًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ)(رواه ابن ماجة)
عباد الله: لقد سن لنا نبينا صلى الله عليه وسلم صيامَ يومِ عاشوراء فلا ينبغي لأي مسلم أن يُفرّط فيه لما يترتب عليه من الأجر العظيم، لقوله صلى الله عليه وسلم:(صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَه)(رواه مسلم). ويسنّ أيضاً صيام اليوم التاسع لقوله صلى الله عليه وسلم (لَئِنْ بقيت إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ)(رواه مسلم).
عباد الله: وفي هذا العام من أراد أن يصوم التاسع والعاشر فالاحتياط له أن يصوم الاثنين والثلاثاء، ومن أراد أن يصوم يوماً واحداً فيصوم يوم الثلاثاء، وإن صام ثلاثة أيام فهذا أولى وأكمل وينويها ثلاثة أيام من الشهر.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم خذ بأيدينا لما فيه صلاحنا وصلاح المسلمين في كل مكان.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم وفقهم لكل خير، ويسره لهم يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم لك الحمد على غيثك وفضلك، اللهم بارك لنا فيه وانفع به عبادك وبهائمك، اللهم أكرمنا بالزيادة منه يا أكرم الأكرمين.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً، سحاً طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:56).
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 7-1-1433هـ