139 – بحوث ومقالات في الوطن والمواطنة
139- بحوث ومقالات في الوطن والمواطنة – pdf
بحوث ومقالات
في الوطن والمواطنة
تأليف
أ.د/ عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
مفوض الإفتاء في منطقة القصيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فمحبة الوطن والانتماء إليه شيء فطري طبع الله النفوس عليه، ومن أعظم مظاهر محبة الوطن أن يكون المرء حامياً له ومدافعاً عنه محافظاً على تماسكه حريصاً على سلامة ممتلكاته، عاملاً على نشر الأخلاق الفاضلة متحلياً بها.
وإنّ من أعظم المعاني المرتبطة بحبّ الأوطان؛ تكاتف وتعاضد أفراد الوطن بعضهم مع بعض حتى يكونوا كالجسد الواحد في مواجهة من يسعى إلى زعزعة استقراره، والنيل من مقدراته، والتفريقٍ بين أفراده، فهذا من أعظم الواجبات على كلّ فرد من أفراد الوطن؛ لأنّه يُحقّق مصلحة الأفراد جميعهم، ويعود عليهم بالنّفع والخير.
ولما كانت منزلة الوطن بهذه المكانة العالية كنت أكتب من فترة طويلة في أهمية الوطن والمواطنة، نظراً لما يترتب عليها من نفع عام على البلاد والعباد، فاجتمع عندي مجموعة علمية بين بحث في مؤتمر أو لقاء أو مقال في صحيفة أو خطبة جمعة حول هذا الموضوع، فاقترح عليَّ بعض الإخوة أن تُجمع هذه الأبحاث والمقالات والخطب في كتاب واحد ليسهل اقتناؤها نظراً لكثرة الحاجة إليها.
فاستحسنت الفكرة وجمعت ما كتبته حول هذا الموضوع، وأعددته للطباعة بعد مراجعة موضوعاته وتعديل ما رأيت تعديله.
وأخيراً:
أسأل الله سبحانه وتعالى أَن ينفع بهذا الكتاب؛ كما أسأله تعالى أن تكون أعمالي كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن تكون ذخرا لي عنده يوم ألقاه إنه ولي ذلك
والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الزلفي في: 1/ 7/ 1444هـ
أولاً: الأبحاث:
المواطنة الصالحة
وأثرها على الفرد والمجتمع والأمة
بحث مقدم لمؤتمر رابطة علماء الشريعة
بدول مجلس التعاون الخليجي بالكويت 1432هـ
المقدمة.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فإن محبة الأوطان، والانتماء للأمة والبلدان أمر فطري غريزي، وطبيعة جبل الله النفوس عليها. قال تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ..}([1]).
فحين يولد الإنسان في بلد ما، وينشأ ويترعرع بين أحضانه، فيأكل من طعامه، ويشرب من مائه، ويحيا بين أهله وإخوانه، فإن فطرته ترتبط به، فيحبه ويواليه، ويجتهد في رفع شأنه، وتحسين صورته، ويذب عنه لمن يتكلم في حقه، أو يريد إيقاع الضرر به، وهذا كله مرتبط بما يكون عليه هذا الوطن.
فإذا كان هذا الوطن متمسكاً بشرعة الله تعالى، مطبقاً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، قائماً بحدوده، فهذا هو أغلى الأوطان، وأحبها إلى نفوس عباد الله المؤمنين، وهذا هو الذي تبذل له النفوس والأموال، أما إذا كان غير ذلك فيكون حقه على قدر ما يشعر فيه بالعدل والأمان.
ومهما كان الأمر فارتباط الإنسان بوطنه كامن في كل نفس بشرية، ويستشعر ذلك الإنسان حينما يترك بلده مهاجراً إلى بلد آخر، فيشعر بالحنين والشوق له، وتتحرك عواطفه الكامنة الدالة على محبته.
ويظهر ذلك أيضاً حينما يصاب بلده باعتداء أو ظلم، فيبادر إلى الدفاع عنه، والذب عن حياضه، ويحزن إذا كان بعيداً عنه لعدم قدرته في الدفاع عنه، فيكون لسانه سهماً في جلب الدعاء على من اعتدى عليه.
إن الحديث عن حب الوطن، حديث ذو شجون كيف لا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم حينما أخرجه قومه من بلده التي نشأ بها، وترعرع بين جنباتها حزن أشد الحزن فقال وهو يغادرها: (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)([2]).
فهذا الوطن الذي يتعلق به المسلم يحتاج إلى وجود المواطن الصالح الذي يعرف قيمة وطنه، ويعمل على علو منزلته ورفع شأنه بين سائر الأوطان.
وموضوع المواطنة يترتب عليها حقوق وواجبات متبادلة، فالدول والمجتمعات الإنسانية القائمة في حيز جغرافي واحد أضحت اليوم من حقائق هذا العصر، فالأوطان اليوم حقيقة دستورية وقانونية، وقبل ذلك فهي حقيقة شرعية أمر بها الإسلام، والعلاقة بين أبناء ومكونات هذه الأوطان قائمة على تلك الحقوق والواجبات بصرف النظر عن دين وقومية أبناء هذا الوطن.
فجميع الأوطان في هذا الوقت تضم أجناساً بشرية مختلفة، ومكونات أيدلوجية أو قومية أو عرقية متنوعة، إلا أن الجامع الذي يجمع هؤلاء جميعاً هو نظام الوطن والمواطنة الذي لا يخل بديانات الناس.
ومن خلال الصفحات القادمة سوف أبين ـ إن شاء الله ـ بعضاً مما أتيح لي في إيضاح مفهوم المواطنة وما يرتبط به من مصطلحات أخرى، وأن حب الوطن من الفطرة التي جبل الله الناس عليها، والحث على إيجاد المواطنة الصالحة التي تعمل لصالح وطنها، ولسائر أوطان المسلمين.
أسأل الله جلت قدرته أن يمدني بعونه وتوفيقه، وأن يمن علينا جميعا بالعلم النافع والعمل الصالح الذي يرضيه عنا، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكتب
أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
الزلفي ـ الثلاثاء 1/ 1/ 1432هـ
التمهيد.
المبحث الأول:
التأصيل الشرعي لمفهوم المواطنة
وما يتعلق به من مصطلحات أخرى.
المطلب الأول: تعريف المواطنة:
إن المواطنة في الزمن الماضي لم يكن لها أثر بين الناس، ولم يكن يثار بسببها جدل أو نقاش، ومن خلال التاريخ الإسلامي الماضي وخلال مراحله السابقة التي اختلط فيها المسلمون بغيرهم من أهل الثقافات الأخرى كانت حياة الجميع مستقرة، قائمة على الاعتراف بالذات، سواء كان ذلك في ديار الإسلام أو في غيرها، لوضوح التعامل بين المسلمين وغيرهم من أهل الديانات الأخرى، والتزامهم الدقيق بشريعة الإسلام نظراً وتطبيقاً، فكان الناس يعيشون تحت مظلة واحدة، وبلد واحد، ولكن في عصرنا الحالي أصبحت المواطنة من أكبر المشكلات المثيرة للجدل سواء كان ذلك في ديار المسلمين أو في غيرها، بسبب المفاهيم المختلفة التي وردت من غيرنا، أو مما أضيفت من أهل الإسلام.
ومن المسلم به أن الإسلام هو أول الشرائع التي حثت على الوحدة بين الناس كافة، فلم تفرق بين أحد إطلاقاً إلا في التقوى، ولكنها شريعة جاءت بالعدل والحق والمساواة في الحقوق بين البشر كافة، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}([3]).
إن لفظة المواطنة ليس لها وجود في اللغة العربية أو الأدبيات الإسلامية، ولكن لها مفهوم عام، لذا هناك فرق بين المفهوم والاصطلاح، فالمفهوم يحاكي الفكرة، والمصطلح يحاكي اللفظ الذي يعبر عن هذه الفكرة.
فعند تناول مسمى المواطنة نتناولها من حيث المفهوم، وننزل هذا المفهوم ونسقطه على النصوص الشرعية في الإسلام، أو غيره من أدبياته.
والمواطنة بصفتها مصطلحاً معاصراً تعني: علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق متبادلة في تلك الدولة، متضمنة هذه المواطنة مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات([4]).
وأما التعريف الإسلامي للمواطنة: فهو ينطلق من خلال القواعد والأسس التي تبنى عليها الرؤية الإسلامية لعنصري المواطنة، وهما الوطن والمواطن، وبالتالي فإن الشريعة الإسلامية ترى أن المواطنة هي تعبير عن الصلة التي تربط بين المسلم كفرد وعناصر الأمة، وهم الأفراد المسلمون والحاكم والإمام، وتتوج هذه الصلات جميعاً الصلة التي تجمع بين المسلمين وحكامهم من جهة وبين الأرض التي يقيمون عليها من جهة أخرى، وبمعنى آخر فإن المواطنة هي تعبير عن طبيعة وجوهر الصلات القائمة بين دار الإسلام وهي (وطن الإسلام) وبين من يقيمون على هذا الوطن أو هذه الدار من المسلمين وغيرهم([5]).
أجل: إن المواطنة انتماء وموالاة لعقيدة، وقيم ومبادئ انتماء تغمره أحاسيس العزة ويكلله الفخر، وموالاة تعكسها سمات التضحية وتترجمها معاني الإيثار.
المطلب الثاني: المواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية:
إن من المغالطات التي يبثها أعداء الإسلام الإيهام بوجود التعارض بين الوطنية بمفهومها الطبيعي وبين الإسلام كشريعة متكاملة، وما هذا إلا حيلة للنيل من الإسلام والقدح فيه، وهو استغلال للمحبة الغريزية للوطن، لإيهام الناس بأن التمسك بتفاصيل الشريعة يعطل بعضاً من مصالح الوطن، وذلك باتخاذ بعض أحكام الشريعة التي تصادم مطالب الوطنية حجة لهم في النيل من عظمة الإسلام وقوته واستحقاقه.
إن العقيدة الإسلامية هي أساس وطنية المسلمين، ولذلك فحدود الوطن التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره لا تقتصر على حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء، بل إن الوطن يشمل القطر الخاص أولاً، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى ثانياً، ومن ثم يوفق الإسلام بين شعور الوطنية الخاصة، وشعور الوطنية العامة؛ لأن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص فيها: أن يعمل كل إنسان الخير لبلده، وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم القليل والكثير من أجل رفعة شأنه وتقدمه.
إن المسلم يكون ولاؤه أولاً وآخراً لله تعالى ولدينه ولنبيه صلى الله عليه وسلم، ويتمثل ذلك بعبوديته لربه، وإخلاصه له في كل عمل يقوم به، واتباع شرعه.
ثم ينتقل بعد ذلك ولاؤه إلى إخوانه من المسلمين، وذلك بالتعاون معهم في اتباع المنهج الحق، والقيام به، والتناصح من أجله، والعمل على نشره، ورفع قدره بين الناس.
فرابط الولاء يمثل الأمة الإسلامية جمعاء، لا لكونهم في مجتمع واحد، أو أنهم ينحدرون من عرق واحد، أو من أجل اشتراكهم في لغة واحدة، إنما يجمعهم رب واحد، ودين واحد، ونبي واحد.
إن المواطنة من مفهومها السابق والمستمد من الشريعة الإسلامية الغراء لا يتعارض مع الانتماء إلى الأمة الإسلامية، ولكنها تتعارض مع الوطنية التي تكون سبباً في تنازع الأمة وتقسيمها إلى طوائف متناحرة وأحزاب مختلفة، والتي تركن إلى شرائع وضعية شكلتها الغايات المادية، وفسرتها الأفهام القاصرة وفق المصالح والأهواء.
إن الوطنية التي يتمسك بها كل مسلم تلك الوطنية التي تأخذ حظها من الشريعة الغراء، والتي تهدف إلى تقوية الرابطة بين أبناء البلد الواحد على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ودياناتهم، واستخدام تلك الرابطة في تقوية المصالح المشتركة التي تعود على الوطن بالخير والنماء والأمن والأمان.
والمواطنة في الإسلام تستوعب جميع المواطنين في دياره، دون إهدار حقوق الأقليات غير المسلمة، أو المسلمة في البلد غير المسلم، من غير إثارة للنعرات القومية والتي تتعدد بصورها المختلفة.
وهي تضمن لجميع المواطنين حقوقهم المتمثلة بحقوق الإنسان لقيامها على قاعدة التسامح، فهي تحترم الواقع وليست مجرد شعارات، وهي أداء بناء واستقرار، لا وسيلة تهديم وتفريق وزرع مشكلات كما هو شائع في بلاد الغرب، إنها مفهوم يعتمد على أساس الحرية والمساواة.
وقد ظهر ذلك جلياً حينما أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعد المواطنة بين المسلمين واليهود وغيرهم ممن لم يدخل في الإسلام، والتي أطلق عليها (صحيفة المدينة)([6])، وهي التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة.
وقد تضمنت تلك الصحيفة قضايا المواطنة وحقوق المواطنين ووجباتهم، مع الاتفاق على إنشاء تحالف عسكري بين جميع طوائف المدينة ضد الأعداء، ومنع أي تعاون مع المشركين ضد المسلمين، والتي سوف نتكلم عنها بالتفصيل.
المطلب الثالث: عناصر المواطنة:
المواطنة تقوم على عناصر محددة لا تخرج عنها إلى غيرها، ومن تلك العناصر:
أولاً: الوطن: وهو في اللغة العربية محل الإنسان، فهو السكن، وهو المنزل، أو البيت الذي يقيم فيه، ولم تذكر معاجم العربية سوى الأصل لهذا اللفظ إلا هذا المعنى.
وقد عرف بعض العلماء الوطن لغة: بأنه الأرض التي ينشأ عليها الإنسان ويتخذها مقراً له.
وعلى ذلك فإن الأرض التي ينشأ عليها جماعة ما ويتخذونها مستقراً ومقاماً لهم تعتبر وطناً لتلك الجماعة، والوطن عند أهل السياسة هو مكانك الذي تنسب إليه، ويحفظ حقك فيه، ويعلم حقه عليك، مؤمن فيه على نفسك وأهلك ومالك.
ولهذه الكلمة معان اصطلاحية عديدة، منها:
1ـ الوطن الأصلي: وهو مكان مولد الإنسان، ونشأته.
2ـ وطن الإقامة: ويسمى بوطن السفر، وهو الوطن (المستعار) الحادث، وهو ما خرج إليه المرء بغية الإقامة فيه لمدة محددة من غير أن يتخذه مسكناً.
فالوطن إذن هو: “البلد الذي ولد فيه المرء، أو البلد الذي ينسب إليه المرء من حيث جنسيته أو تبعيته”.
وهو المكان الذي يولد فيه الإنسان، ويقيم فيه، وينشأ ويترعرع بين أحضانه، ويرتبط فيه بالناس.
ثانياً: المواطن: وهو فرد من الأفراد ينتمي إلى وطن ما، ويكون هذا المواطن صالحاًَ في نفسه، صالحاً في مجتمعه، باذلاً لجهده في خدمة وطنه، وتقديم كل الامكانيات المتاحة من أجل حفظ كيانه، ورفعة شأنه، والذود عن حياضه.
فارتباط المواطن بوطنه يكون ارتباطاً نابعاً من الفطرة، والألفة، والانتماء الصادق لهذا الوطن، فالفرد يكتسب صفة المواطنة بمجرد انتسابه إلى وطن أو دولة معينة، ولكنه لا يكتسب صفة الوطنية إلا بالعمل لصالح لهذا الوطن، وتصبح المصلحة العامة التي تخص وطنه أهم لديه من مصلحته الخاصة.
ثالثاً: حب الوطن: وهذا الحب كما ذكرنا حب غريزي ولكنه يختلف من شخص إلى آخر، فكم من الناس من يتشدقون بحبهم لوطنهم وهم عالة عليه، وآلة هدم في بنائه، وهذا هو الحب الزائف.
أما الحب الصادق للوطن فإنما يظهر فيما يقوم به المواطن من بذل وعطاء، وجهد وبناء في سبيل إعلاء مكانة وطنه بين الأمم، فهو يحبه ويتعلق به، ويكون ذلك باحترام الأنظمة الموضوعة لحفظ أمنه، ونشر العدل بين ربوعه، ويبذل قصارى جهده في سبيل إعزازه ونصرته ورفع شأنه وحفظ مقدراته، ونشر إيجابياته، وستر عيوبه، والعمل على حفظ أمنه من كل من يريد به الشر والأذى.
المطلب الرابع: الفرق بين المواطنة والأخوة:
المواطنــة يطلق عليها الحب الفطري الغريزي للوطن، نتيجة الألفة والمعيشة فيه، وذكريات الصبا ومآرب الشباب، وهو كما ذكرت سابقاً غريزي يشترك فيه الإنسان والحيوان والطائر على حد سواء مع اختلاف الأسباب، وهذا النوع من حب الوطن يعتبر مواطنة فطرية سرعان ما تذوب وتتغير مع تغير الأحوال والملابسات لأنها قائمة على حدود معينة.
أما الأخوة فهي رباط معنوي ومادي، يربط الإنسان بأخيه، أو بإخوانه، وخاصة إذا كان هذا الرباط هو رباط الإيمان والعقيدة، فلا يؤثر نفسه على أحد من إخوانه، أو يقدم مصلحته على مصلحتهم، بل يكون كاليد الواحدة، والجسد الواحد.
والأخوة من أعظم الروابط وأقواها وقد حث عليها دين الإسلام في كثير من توجيهاته، فبهذا الرابط يزيد عامل الإيثار، وينتشر بالتناصح، ويقوى بسببه باب التعاون على البر والخير والتقوى.
وقد ذكر القرآن الكريم في آيات عديدة فضل الأخوة، وأن المسلمين كلهم إخوة تحت رباط العقيدة، قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..}([7])، وقال تعالى:{.. فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً..}([8]).
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ)([9]).
وأروع مثال على تلك الأخوة العظيمة مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وكيف تلاحمت هذه الأمة فأصبحت لحمة واحدة مع اختلاف القبيلة والوطن والحال، ولكن جمعهم الإيمان والعقيدة، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمعتهم الهجرة إلى الله ورسوله، ونصرة دين الله عز وجل، فلما كان الهدف والغاية وجه الله عز وجل اجتمعوا على ذلك فكانت هذه الأُخوة العميقة العظيمة الأثر والتي ما زال. فالفرق بين الوطنية والأخوة فرق كبير، فالوطنية مرتبطة بحدود، وسياج، وجنسية، ولغة.
أما الأخوة فهي أعظم من ذلك، لأنها ترتبط بالعقيدة فقط، فجميع المسلمين إخوة في الله، لأنهم أبناء عقيدة واحدة، لا يخرج عنهم إلا من سلك طريقاً غير طريقهم.
المطلب الخامس: مفهوم المواطنة لدى المسلمين:
البلاد التي تسودها شريعة الإسلام، وتطبق أحكامه هي وطن مسلم واحد حتى لو اختلفت اللغات والجنسيات، والإسلام وضع منهجاً واضحاً للدفاع عن الوجود الوطني بالبدء بأهل الدار أو بالوطن الصغير، ثم الانتقال إلى الجوار، ثم الأقرب فالأقرب حتى يعم جميع بلدان وأقطار العالم الإسلامي كله.
كما أن الميل للوطن بالمعنى الإقليمي الضيق لا يمنع من الميل للأمة المتحدة في أفكارها وعقيدتها، فالمواطنون في الوطن الضيق شركاء في المغنم والمغرم، وهي بداية الدائرة للوطن الكبير، ثم تتسع الدائرة من أجل تحقيق وحدة المسلمين وقوتهم، وصون عزتهم وكرامتهم، لتشمل سائر الأمة الإسلامية جميعها.
إن الأمة الإسلامية القائمة على بنية المجتمع المتعدد المذاهب والأعراق والغايات في أي قطر إسلامي تؤمن بعقيدة واحدة، وتظللها شريعة واحدة، وتربطها أخوة واحدة، كما قال تعالى:{إنما المؤمنون إخوة}([10]).
فهي أمة واحدة خالدة على مدى التاريخ، لا تفرقها المصالح الصغيرة، ولا تفكك رابطتها الجامعة القضايا الجانبية، فكان المصطلح الإسلامي هو التعبير بالأمة الواحدة، وليس بالشعب الواحد.
فتكون المواطنة في الإسلام في أصل مفهومها أوسع من الحدود الجغرافية الإقليمية الضيقة للوطن الإسلامي، ويكون كل فرد مسلم أو معاهد مواطناً، لأنه عضو من الأمة الإسلامية، له كل الحقوق وعليه كل الواجبات.
والذي يوضح ما سبق تلك الصحيفة التي أبرمها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة المنورة، والتي جاءت بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة.
وقد بينت تلك الوثيقة أن المجتمع المدني أصبح في بوتقة الأمة الواحدة على الرغم من التنوع العقدي والثقافي، لأن المدينة كانت تحتوي على جنسيات ولغات وثقافات مختلفة، فمنهم المسلمون، واليهود، والوثنيون، والمهاجرون من مكة، وكذا الأنصار.
فكل هؤلاء جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم تحت بنود تلك الصحيفة والتي تحقق عن طريقها مبدأ المواطنة العامة لجميع من يسكن في المدينة.
وقد احتوت تلك الصحيفة([11]) على سبعة وأربعين بنداً أو فقرة، نذكر بعضاً منها كي يتبين لنا قوة تلك الصحيفة وأنها أرست مبدأ عظيماً من مبادئ التعاضد والتعاون.
فكانت تلك الصحيفة كما جاء فيها:
(هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم:
- أنهم أمة واحدة من دون الناس.
- وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.
- وأن من تبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
- وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم.
- وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
- وأن على اليهود نفقتهم، وأن على المسلمين نفقتهم.
- وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
ثم ذكر بنوداً أخرى نذكر منها ما يأتي:
- وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
- وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
- وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه.
- وأن النصر للمظلوم.
- وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
- وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله.
- وأنه لا تُجار قريش ولا من نصرها.
- وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم).
إلى آخر تلك البنود المذكورة في تلك الصحيفة.
فقد تضمنت تلك الصحيفة حقوق المواطنين وواجباتهم، مع الاتفاق على إنشاء تحالف عسكري بين جميع طوائف المدينة ضد كل من يعتدي عليها، ومنع أي تعاون مع المشركين ضد المسلمين.
وهذه البنود وغيرها قد أرست مبدأ الوطنية المبنية على العدل والحق والمساواة.
وأن طوائف المدينة كلها تتعاون في تحمل الأعباء سواء الاقتصادية، أو السياسية، أو غيرها مما لا يخالف فيه الدين.
فهذه الصحيفة تمثل المثل الأعلى في شرف المواطنة وتقرير حقوق المواطنين جميعاً على أساس واضح من المساواة وتحمل المسؤوليات.
المطلب السادس: مفهوم المواطنة لدى غير المسلمين:
أما المواطنة عند غير المسلمين فهي ترتبط بالجنس، أو باللغة، أو بالأرض، أو بالمصلحة الخاصة لكل شعب.
فهي تختلف اختلافاً كلياً عن المواطنة في الإسلام حتى ولو احتوت على جزئيات منها، لأنها تبنى على مصلحة خاصة ترتبط بأبناء الوطن الواحد دون غيرهم.
فالمواطنة علاقة والتزام له صبغة سياسية وصبغة اجتماعية ونفسية، وهي صفة ينالها الفرد، ليتمتع بالمشاركة في دولة، أو التزامات متبادلة ما بين الأشخاص والدولة، أو التعبير الاجتماعي لعملية انتماء متبادلة بين الأشخاص والدولة، أو التعبير الاجتماعي لعملية انتماء الإنسان، عملية انتماء تتجسد في قضية المواطنة، وينتمي إلى موطن.
ويقال أيضاً عن المواطنة أنها حالة التزام ما بين الفرد والدولة، فالفرد ملتزم أمام الدولة، والدولة ملتزمة أمام الفرد، فللمواطن حقوق وواجبات، وللدولة حقوق.
وهذه المواطنة تختلف في محتواها عن المواطنة في الإسلام، لأن الأولى تبنى على احترام سيادة القانون، والعمل بمقتضاه، أما في الإسلام فهي حقوق وواجبات تقوم على أوامر الشرع الحنيف، لا يراد منها إلا إقامة الحق والعدل بين الناس على اختلاف الألوان والأجناس.
المبحث الثاني
الوطنية في ضوء تعاليم الإسلام.
المطلب الأول: الكيان الوطني ودعائمه:
إن الكيان الوطني يختلف من دولة إلى دولة، ومن بلد إلى بلد، ومن مكان إلى مكان، فهو يختلف باختلاف ما يقوم عليه من الأنظمة والقوانين سواء كانت إسلامية أو غيرها من النظم الأخرى.
ففي بلاد المسلمين، وخاصة في البلاد التي تطبق فيها الشريعة الإسلامية فالكيان الوطني فيها يقوم على دعامتين قويتين، وهما: أولاً: الدعامة الدينية، والثانية: الدعامة الإرادية:
فأما الدعامة الدينية: وهي التي تبنى على أسس متينة من العدل والحق، والحكم بما أنزل الله، وتطهير البلاد من الفساد والخرافات والبدع والمنكرات، فهي التي تبني وطناً قوياً متيناً مترابطاً بجميع أفراده، ويعمل الجميع فيه للمصلحة العامة وليست الخاصة.
وأما الدعامة الإرادية: وهي التي تقوم على توطيد أركان الدولة واستقلالها، والدفاع عنها، والعمل على إقامة العدل في ربوعها، وتوزيع الحقوق والمسؤوليات على جميع أبناءها.
فكانت هاتان الدعامتان من أهم ما يقوي الكيان الوطني ما دام أنه قائماً على الحق والعدل والإنصاف والمساواة، والتسامح بين أفراد الرعية، وتحمل المسؤولية في صد العدوان عن هذا الكيان، والعمل على رفع شأنه بين سائر الدول والأوطان.
المطلب الثاني: حدود الوطنية:
إن في كل دولة من الدول، أو بلد من البلدان، أو قارة من القارات حدوداً جغرافية تاريخية، وهي تقوم على الارتباط بالأرض التي يسكن عليها الناس، ويعيشون فيها، وترتبط أيضاً باللغة واللون، وهذه الحدود تختلف باختلاف المكان، فكل قوم من الناس اتخذوا مكاناً يعيشون فيه كان لهم حدود متعارف عليها مع غيرهم، وهذه واضحة بالنسبة لمن ينظر إلى حال العالم اليوم من التقسيم الجغرافي والتاريخي.
فكل بلد يعيش فيها أناس يترابطون برباط الأرض واللغة، فيقومون بعمل كل ما يعود عليهم بالفائدة، سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
ولكن في الوطن المسلم لا ينظر إلى هذه الأمور بقدر ما ينظر إلى ترابط الوطن الواحد بالدين، فالدين هو الذي يجمع الناس، ويأخذ بهم إلى بذل الجهد في سبيل إعلاء هذا الوطن بين غيره من الأوطان.
وجميع المسلمين في سائر البلدان هم يعيشون في أوطان متفرقة ولكنهم مرتبطون برباط الدين، فولائهم لدينهم، ومعاداتهم لمن يخالف دينهم.
المطلب الثالث: مفهوم الوطنية في الإسلام لا يتعارض مع الانتماء إلى أمة الإسلام:
إن من المغالطات التي يلقيها بعض الناس سواء من المسلمين أو غيرهم هو وجود تعارض بين الوطنية بمفهومها الطبيعي وبين الإسلام، وتصوير هذا التعارض هو من الحيل للنيل من حقيقة الإسلام ومكانته في قلوب المسلمين، وهو استغلال للمحبة الغريزية للوطن لإيهام الناس بأن التمسك بتفاصيل الشريعة يعطل بعض مصالح الوطن، وذلك عبر مصادمة بعض أحكام لمطالب الوطنية.
إن الوطنية التي يدعو إليها علماء المسلمين ومفكروهم وغيرهم من سائر طبقات الأمة هي الوطنية المرتبطة بالدين، المتعلقة بالعقيدة، المستقاة من شريعة رب العالمين، والتي تهدف إلى تقوية أواصر مواطني البلد الواحد والأمة الواحدة، ليعمل الجميع في مصلحة وطنهم وأمتهم.
وهذه الوطنية لا تتعارض بمفهومها مع الانتماء لأمة الإسلام، إنما هي فرع من الأمة لأنها تنمي حب الأوطان، وألفتها، والحنين إليها، والانعطاف نحوها، والعمل الجاد الذي يعود بالنفع لها، وهذا بدوره يعود على الأمة جمعاء بالتعاضد والتكاتف والتماسك والنصرة.
إن الوطنية التي تتعارض مع الانتماء لأمة الإسلام هي تلك الوطنية التي تسعى إلى تقسيمها وإضعافها، وبث الخلافات بينها، وإيقاد نار العصبيات والفرق والمذاهب والحزبيات والولاءات، وهذه الوطنية لا يمكن أن يعترف بها أحد أبداً، بل هي مبغوضة لدى كل مسلم غيور على دينه، بل هي مبغوضة لدى كل مواطن حتى من غير المسلمين.
إن الوطنية التي نرجوها هي وطنية مرتبطة أولاً وآخراً بديننا الحنيف، وهي التي تقوم على ما أمر الله به تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الوطنية هي التي تستوعب جميع المواطنين في ديار الإسلام، دون إهدار حقوق الأقليات غير المسلمة، أو المسلمة، من غير إثارة للنعرات القومية المتنوعة.
وهذه الوطنية أيضاً هي التي تضمن لجميع المواطنين حقوقهم لقيامها على قاعدة التسامح والعدل والإخاء، فهي التي تحترم الواقع، وهي التي تكون أداة بناء واستقرار، لا وسيلة هدم وتفريق، كما هي في غالب الدول التي تطبقها دون اتباع لتعاليم الإسلام الحنيف. فلابد لنا من العناية بفكرة المواطنة بالمفهوم الإسلامي الشرعي لتجاوز المشكلات، والقضاء على التعددات الدينية، والتحزبات العرقية المتنوعة.
المطلب الرابع: علامات حب الوطن من واقع تعاليم الإسلام:
إن كل إنسان في هذا الكون يقول إنه يحب وطنه، ولكن القليل منهم من يصدق في ذلك.
فمحبة الوطن ليست أقوالاً تقال، أو شعارات ترفع، إنما هي أفعال تظهر من المواطن المحب لوطنه، وكل إنسان يتمنى الخير لوطنه ما دام أنه يعيش على ثراه، ويأكل من خيراته، ويتنعم في رخائه وعطائه، ولكن ذلك يختلف باختلاف ما يعيشه الإنسان من أحوال وظروف وملابسات بحسب كل دولة.
فبقدر ما يجده الإنسان من العدل والإنصاف والتعاون وإحقاق الحق ليعيش ظروفاً حياتيه مستقرة بقدر ما يكون حبه لوطنه أقوى وأمتن، ويكون ذلك دافعاً له للعمل لمصلحة وطنه.
إن المواطنة الصحيحة للإنسان هي التي ترتبط بصدق محبته لوطنه، وتكون تلك العاطفة، وتلك الرابطة الروحية عاملاً قوياً في أن يؤدي الواجبات التي عليه بطيب نفس، وأن يبذل طاقته وجهده في سبيل رفعة هذا الوطن.
إن جوهر الوطنية الصادقة هو أن يكون المسلم على عقيدة صحيحة سليمة من الشوائب، وأن يؤدي الحق الذي عليه لوطنه، وأن يطيع أولياء أموره في المعروف، مع عدم الخروج عن جماعة المسلمين.
محبة الوطن مرتبطة بمحبته لربه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وكيف لا وقد قال الله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}([12])، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم :(ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)([13]).
إن محبة الوطن لا تكون بالشعارات البراقة الخاوية عن العمل الهادف، ولا ببث الفوضى والفساد، ولا في إزعاج المسلمين وغيرهم ممن يتعايشون معهم، ولا في سرقة خيرات ومقدرات الوطن، أو في تضييع حقوق الناس، إنما المحبة الصادقة تكون بخلاف ذلك، بل هي المحبة التي تقود صاحبها إلى فعل كل خير يعود على وطنه، والابتعاد عن كل شر يؤثر على مسيرة وطنه ورفعة مكانته وشأنه.
ومن العلامات الصادقة على حب الوطن:
- أن يقوم المسلم بإصلاح نفسه وأهله ومن حوله، ولا يكون عامل إفساد وهدم في المجتمع، لأن صلاح الأفراد طريق إلى صلاح المجتمع، وصلاح المجتمع طريق إلى صلاح الوطن، وهذا كله يعود على وطنه وأمته بالخير.
- أن يحترم مشاعر الناس، بأن يوقر كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويعطف على فقيرهم، وأن يواسي ضعيفهم، وأن يعرف حق جاره، ويحسن معاملة من حوله من أهله، وإخوانه، وزملائه، وعامة الناس.
- أن يحترم النظام الذي وضع من أجل مصلحة الناس ويكون حفظاً لهم من الفوضى، وأن يطبق ما يؤمر به إلا إذا كان فيه معصية لله، فلا يقطع إشارة، ولا يخون الأمانة، ولا يقصر في عمله.
- أن يطيع ولي أمره في كل ما يصدره من أنظمة لا تخالف الشرع الحنيف، بل هي تعود بالنفع والخير على الوطن والمواطنين.
- أن يقوم بمسؤولياته تجاه وطنه، بأداء واجباته، وحفظ مقدراته.
- أن يكون أول من يدافع عن وطنه لمن يريد به الشر والفساد والفتنة، وأن يكون من الجنود الذين يحفظون أمنه وسياجه من اعتداء المعتدين، أو إفساد المفسدين، وأن يتعاون على ذلك مع أبناء وطنه.
- أن يكون عامل بناء في المجتمع، وأن يحرص على كل ما ينفع وطنه.
- أن يبذل جهده في إعلاء شأن وطنه بين الدول الأخرى، وأن يكون قدوة حسنة لغيره.
هذه بعض من علامات المحبة الصادقة للوطن، وهناك الكثير ولكن لا يتسع المقام لذكرها، أما غير ذلك فتعتبر دعوى باطلة ليس لها مكان بين أبناء الوطن الواحد إلا من اتصف بغير ذلك منهم، وقليل ما هم.
المبحث الثالث
أهمية المواطنة الصالحة وأثرها على الفرد والمجتمع والأمة
المطلب الأول: أهمية المواطنة الصالحة وضرورتها في بناء الأمة:
إن المواطنة المتعارف عليها لدى كثير من الناس على مستوى دول العالم لها صورٌ متعددة، وأشكالٌ مختلفة، وذلك لما يكون في قلب المواطن من صدق الانتماء وعدمه، وقوة بذله وعطائه لهذا الوطن، وليتسنى لنا معرفة هذه الصور للمواطنة فقد تم تقسيمها إلى الآتي:
أولاً: المواطنة الإيجابية: وهي التي يكون فيها المواطن شاعراً بقوة انتمائه لوطنه، وقيامه بدور إيجابي في خدمته.
ثانياً: المواطنة السلبية: وهي التي يشعر فيها المواطن بانتمائه لوطنه، ولكنه يكون سلبياً في تعامله مع حقوق وطنه، فلا يقوم بالدور الإيجابي الذي ينفع به نفسه ومجتمعه ووطنه.
ثالثاً: المواطنة الزائفة: وهي التي يكون فيها المواطن منتمياً إلى هذا الوطن، ولكنه يحمل في جوفه شعارات جوفاء جرداء عن العمل الإيجابي، فهو يخالف واقعه الحقيقي بعدم الإحساس بإعزاز وطنه.
رابعاً: المواطنة المطلقة: وهي التي يجمع المواطن فيها بين دوره الإيجابي والسلبي تجاه مجتمعه ووطنه وفق الظروف والملابسات التي يعيشها بين أبناء وطنه.
إن الغالب من التربيات المعاصرة التي تقوم بها ديانات أخرى غير الإسلام لا تنشأ أبداً المواطنة الإنسانية الصالحة، إنما هي تربية تسعى إلى إيجاد المواطن الصالح لا المواطن الإنسان الصالح.
ويظهر ذلك من خلال مواطنة الإنسان في موطنه الأصلي، فتجد الغربي في الغالب أنه يتعاون مع بني جلدته لتحقيق المواطنة الصالحة، لكنه لا يحققها مع غيره إذا تعارضت مصالحهم مع مصالحه.
وهكذا غالب جنسيات الدول من حولنا، فمقام كل مواطنة لدى المواطن هو احترام قوانين وأنظمة البلد الذي يعيش فيه المواطن، وأن يقدم كل جهده من أجل خدمة وطنه، ولكن إذا تداخلت مصلحة أحد من غير أبناء وطنه مع مصلحته قدم الأخرى لأنها مواطنة ذاتية فقط ترتبط بحدود ولغات وألوان.
ولو نظرنا إلى هؤلاء المستعمرين الذين استولوا على بلاد غير بلادهم كانوا لا يختلطون بمستعمريهم، إنما كانوا يرون أنفسهم أعلى مقاماً وأجل شأناً منهم.
أما التربية الإسلامية في ديننا الحنيف فهي التي تنشأ الإنسان الصالح والمواطن الصالح، وهذا المواطن هو الذي يراقب الله تعالى في جميع علاقاته سواء مع إخوانه المسلمين أو غيرهم من غير المسلمين.
فيكون الجانب السلوكي الظاهر للمواطنة الصالحة والمتمثل في الممارسات الحيَّة التي تعكس حقوق الفرد وواجباته تجاه مجتمعه ووطنه، والتزامه بمبادئ المجتمع وقيمه وأنظمته، والمشاركة الفعالة في الأنشطة والأعمال التي تهدف إلى رقي الوطن والمحافظة على مكتسباته وخيراته.
وهذا بدوره يعود على الأمة بخير عظيم، وعطاء جزيل، كيف لا ومن كانت هذه حاله لابد أن تثمر مواطنته ثماراً يانعة تعود بالنفع على وطنه وأمته جمعاء.
ومن صدق في محبته لوطنه، وقدم تلك المحبة على مصلحته الشخصية عاد ذلك بالإيجاب على أمته.
وكم كنت أرى وأسمع عن هؤلاء الذين قدموا خدمات جليلة وعظيمة لأوطانهم، وخاصة في التخصصات الدقيقة القليلة على مستوى العالم كله، فكم وصل من أبناء أمة الإسلام إلى العالمية بجدارة واستحقاق لما بذل وأعطى، حتى صارت دولته مضرب المثل، وذكراً حسناً لسائر دول العالم.
فقد تخرَّج من أمة الإسلام علماء الشريعة، والطب، والذرة، وغير ذلك من التخصصات.
وفي هذا دليل عظيم على أن المواطنة الصالحة المصلحة من أعظم السبل في نفع الوطن والأمة.
إن المواطنة الصالحة التي نرجوها لكل مواطن هي تلك المواطنة التي ترتبط بالعقيدة والتي تكون عامل بناء لجميع أفراد الأمة، وتكون أيضاً رحيمة بمن سواهم من الديانات والملل الأخرى، وهناك الكثير من الآثار التي دلت على حسن تعامل المسلمين مع غيرهم في تعايشهم والتعامل معهم.
وهذا يدل على عظم شأن الإسلام، ومكانة المسلمين بين سائر الناس عندما طبق المسلمين المواطنة الصالحة التي أمروا بها ليتعايش الناس كما أمر الله جل وعلا.
المطلب الثاني: التمسك بأخلاق الإسلام دليل على المواطنة الصالحة:
إن من ينظر إلى التوجيهات العظيمة للإسلام وتلك الصفات والسجايا العجيبة التي يوجه بها إلى التعامل الصادق، والعدل بين الناس على اختلاف ألوانهم وجنسياتهم، يدل على أن المسلم إذا تمسك بتلك الأخلاق وقام بتطبيقها في حياته مع من حوله، واتصف بالرفق والتواضع، ورحمة الناس صغيرهم وكبيرهم، وابتعد عن الظلم والعدوان، كان هذا المسلم من خلال حياته العملية يعتبر عاملاً إيجابياً في المجتمع من خلال ما يقدمه لنفسه ولمجتمعه وأمته.
وها هي بعض من النصوص الشرعية الواردة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتي نرى من خلالها تلك الأخلاق العالية، والسجايا الكريمة التي لم توجد في نظام من الأنظمة القديمة أو الحديثة.
ففي كتاب الله: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}([14])، فالناس عند الله سواسية كأسنان المشط، وهذا يدل على سماحة الإسلام، وقيامه على الحق والعدل، وأن أكرم الناس عند الله مهما اختلفت ألوانهم في الدنيا والآخرة هو أتقاهم له.
وأيضاً في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([15])، قال الشعبي عن شتير بن شكل: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}. وقال سعيد عن قتادة رحمه الله قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، ليس من خلق حسن, كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به, وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم, إلا نهى الله عنه وقدم فيه([16]).
وقال الشيخ عبد الكريم الخطيب رحمه الله : هذه الآية الكريمة، تجمع أصول الشريعة الإسلامية كلها. فهي أقرب شيء إلى أن تكون عنواناً للرسالة الإسلامية، ولكتابها الكريم، إذ لا تخرج أحكام الشريعة وآدابها عن هذا المحتوى الذي ضمت عليه تلك الآية:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}. وما في كتاب اللّه كله هو شرح لما أمر اللّه سبحانه به من العدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وما نهى عنه من الفحشاء والمنكر والبغي([17]).
وفي آيات أخرى في كتاب الله تعالى يوجه الله جل وعلا إلى التمسك بالعدل، وأن يطبق بين الناس كافة، فلا يقدم أحد على أحد، ولا يستأثر أحد بحكم دون أحد، بل الجميع سواسية كأسنان المشط.
ففي قوله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..}([18])، وقوله {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ..}([19]).
ولو نظرنا إلى العدل الإلهي حتى مع أعداء الملة من غير المسلمين، فهو يأمر سبحانه بإقامة مجتمع إنساني واحد، يعيش الجميع تحت ظله ولا يكون فيه إكراه لأحد، بل هناك حرية لغير المسلم في إقامة دينه في حدود التوجيهات في الدولة المسلمة التي يعيش فيها، ففي ظل هذا الوطن الذي يجمع المسلم وغير المسلم فإن غير المسلم له حق التملك، وله أن يستجير فيجار، وله أن يتحاكم إلى القضاء المسلم لتحصيل حقوقه، وله حق التعامل مع من حوله من أبناء هذا الوطن الواحد، ولا يحق لأحد بخسه حقوقه، أو الاعتداء عليه، أو ظلمه، إلى غير ذلك مما أمرت به شريعة الإسلام.
وفي قوله تعالى:{لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}([20])، دليل على الأمر بالبر والعدل عند التعامل مع من يخالفون المسلمين في معتقدهم، وهذه الآية وغيرها فيها رد على من يتطاول على الإسلام بعدم العدل والرحمة والبر، ويصفه بالعنف والتشدد والقتل والتدمير. وهناك الكثير من الآيات في كتاب الله تعالى التي تحض على جميل الصفات والأخلاق والسجايا، سواء بين المسلمين بعضهم مع بعض، أو بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل الأخرى.
ومن السنة: هناك الكثير من النصوص الشرعية التي توجه إلى التعاون والتعاضد، وحسن التعامل مع إحقاق الحق لأصحابه حتى ولو كانوا من غير المسلمين.
فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)([21]).
وروى أحمد عن أبي نضرة رضي الله عنه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلا بِالتَّقْوَى)([22]).
وروى مسلم في صحيحه عن عائشة J أن قريشاً أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ)، فقال له أسامة استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال :(أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)([23]). ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
وهذا الحديث وغيره فيه بيان لقمة العدل عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأنه مهما كان الشخص ومكانته في المجتمع فإن العدل هو الذي يقوم على الفصل بين الناس، وليست أهواء الناس وشفاعاتهم الباطلة التي تخالف أوامر الله وحدوده.
وتلك النصوص وغيرها كثير تبين مقام العدل في الإسلام، وأيضاً فيها حض على محاسن الأخلاق، والتي تكون عامل بناء وكمال للمجتمع والأمة.
ولهذا فإن المجتمع الإسلامي وحده هو المجتمع العالمي الجدير بعالم حر، وهو وحده السابقة الناجحة في سبيل عالم واحد تنعم فيه البشرية بالأمن والأمان والسلام والاستقرار.
إن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يوفر العدالة المطلقة لجميع المواطنين بصرف النظر عن عقائدهم وأجناسهم وألوانهم ومواطنهم.
المطلب الثالث: المواطنة الصالحة وأثرها على الفرد:
إن مفهوم المواطنة لدى المسلم لها طريقة أخرى غير طريقة المواطنة لدى الآخرين في الدول الأخرى، سواءً في المشرق أو المغرب، أو في الشمال أو الجنوب، فالمواطن في الوطن الإسلامي يقيم هذه الوطنية طاعة لربه، واتباعاً لأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو يقتدي بنبيه صلى الله عليه وسلم في كل خلق كريم وعمل صالح قويم.
فيحافظ على طاعة الله بأداء حقوقه وأوامره، ويتعامل مع الناس بالرفق واللين والصدق في التعامل، وتكون أخلاقه دليلاً على ذلك في كل حركة وسكنة، ويبتعد عن كل ما يشوب أخلاقه بين إخوانه وغيرهم، بل سبيله وطريقه هو قول الله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}([24]).
لذا فإن المواطنة في الإسلام تجمع معاني الانتماء الوطني، فهي تحث على البناء المجتمعي الرشيد، والعمل على تقدمه، ويكون فيها التعامل الإيجابي، مع العطاء المتميز، واحترام نظام الوطن وقوانينه، واحترام حريات الآخرين، ونصرة أبناء وطنه والدفاع عن وطنه لمن أراد الإساءة إليه أو الاعتداء عليه، بل والقتال من أجل صد أي عدوان يقع عليه من أي جهة خارجية تريد إيقاع الظلم عليه.
والمواطنة الصالحة هي المواطنة المعطاءة، التي يظهر فيها المواطن بأخلاقيات عالية، فيكون فيها أميناً، مستقيماً، متأدباً بآداب الإسلام العالية، متصفاً بالفضيلة والشجاعة والنخوة.
فلابد أن تكون تلك الصفات والسجايا ظاهرة للعيان من كل مواطن يريد لنفسه ولإخوانه الترابط والتلاحم والتواد والتعاطف، والتي تسمو على كل مصلحة فردية.
ولقد حصل هذا الترابط والتلاحم في صورة عظيمة مشرقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد هجرته من مكة إلى المدينة، حيث استقبل الأنصار إخوانهم من المهاجرين، ففتحوا لهم بيوتهم، وعرضوا عليهم أموالهم، والزواج من نسائهم، إلى غير ذلك من صور التلاحم والتراحم والإيثار.
ولما اجتمع المهاجرون والأنصار، وكان معهم في المدينة اليهود والمشركون من الأوس والخزرج الذين لم يسلموا ربط النبي صلى الله عليه وسلم بينهم برباط الصحيفة التي حوت صوراً عديدة من العدل، والمساواة، والرحمة، والتعاضد، فاجتمع جميع أفراد هذا الوطن ـ المدينة ـ تحت رباط واحد، وهو رباط المواطنة.
فلابد للمواطن الصادق في مواطنته أن يثبت ذلك عملياً بحيث يكون قدوة حسنة يستفيد منها القاصي والداني، ويظهر منه حبه لوطنه، وحرصه على نفعه، وتقديم كل صور التعاون من أجل رفعته ونصرته.
وعندما يكون المواطن هكذا فليبشر بخير لجميع أفراد هذا الوطن، سواءً المسلمين منهم، أو غيرهم من أهل الملل الأخرى.
وإن من المقومات التي تثبت صدق تلك المواطنة الصالحة ما يلي:
أولاً: الانتماء: وهو يعني الانتساب الحقيقي للدين والوطن بجميع صوره، والاعتزاز بسائر مكوناته الثقافية، والبشرية، والمادية، وجعل مصلحة هذا الوطن فوق كل مصلحة.
ويتجسد هذا الانتماء من خلال التضحية في سبيل هذا الوطن وذلك دفاعاً عن العقيدة وقياماً بالواجبات التي يلزم بها، مع أداء الحقوق التي عليه.
ثانياً: الولاء: وهو شعور داخلي يدفع الإنسان للوفاء لوطنه، ولمن يقوم عليه، مع الاهتمام بخير الوطن ومصلحته وتقدمه، والعمل على دعمه في مواجهة التحديات والظروف([25]).
وهذا الولاء يكون مستمداً من التحاكم إلى شرع الله تعالى، وطاعة أولياء الأمور بالمعروف، ومحبة هذا الوطن الغالي الذي يعيش على أرضه، ويستفيد من خيراته.
ثالثاً: المساواة: وهي حالة التماثل بين الأفراد في المجتمع أمام النظام بصرف النظر عن المولد أو الطبقة الاجتماعية، أو الثروة، أو العقار أو الجنس، أو الفكر، أو المهنة، أو التعليم.
فالمواطنة في التصور الإسلامي مبنية على وحدة النفس البشرية، فالجميع سواسية أمام الشرع سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، ما دام أن الجميع يعيش تحت مظلة الوطن المسلم.
وقد ظهر هذا جلياً في موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع المرأة المخزومية على جلالة قدرها ورفعة شأنها بين قومها، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض الشفاعة في أحكام الله الشرعية التي قدرها على السارق، ونفذ الحكم فيها كما ذكرنا سابقاً.
رابعاً: الحرية: إن الإسلام يحترم حريات الناس دون الإضرار بالوطن المسلم، فهو يكفل لغير المسلمين حرية الاعتقاد، وحرية أداء شعائرهم الدينية، وكذلك لهم حرية الرأي، ولكن دون تعدٍ أو إساءة لدين الله تعالى.
وأيضاً للجميع حرية العمل والانتقال، والملكية، وحرية مباشرة الأنشطة الزراعية، والصناعية، والتجارية، وسائر ما يرتبط بمصالح الناس الدنيوية.
والحرية لها تعريفات عديدة، ومن ذلك: أنها “إطلاق العنان للناس ليحققوا خيرهم بالطريقة التي يرونها طالما كانوا لا يحاولون حرمان غيرهم من مصالحهم، أو لا يعرقلون جهودهم لتحقيق تلك المصالح”([26]).
خامساً: الحقـوق: والإسلام هو الوحيد على مستوى عالم اليوم الذي يعرف حقوق
كل إنسان على وجه هذه البسيطة، ويضع الأنظمة والقوانين التي تكفل للجميع الاستفادة بحقوقهم دون بخس أو ظلم، إلا أن هذا الأمر ضعف كثيراً بعد القرون الثلاثة المفضلة، ثم استمر ذلك يضعف أكثر وأكثر حتى أن أوضاع الناس اليوم اختلفت عن سابقاتها، فقد ضاعت غالب حقوقهم بسبب البعد عن تطبيق أوامر الإسلام وتوجيهاته.
والحقوق تعتبر سلطة يخولها النظام لشخص ما لتمكينه من القيام بأعمال معينة، تحقيقاً لمصلحة يعترف بها ذلك النظام.
والحقوق كثيرة: فمنها المدنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغير ذلك من الحقوق التي حض عليها الإسلام وأمر بها، فتلك الحقوق تحفظ للمسلم حقه في تحقيق المصلحة الخاصة له دون تعد أو ظلم، وينتج عن ذلك أداء حق المواطنة الصالحة التي تعود بالخير على المجتمع والوطن والأمة ككل.
سادساً: الواجبات: وهي التي أوجبها الإسلام على المسلم وغير المسلم، وهي واجبات تختلف باختلاف دوره في أداء المواطنة الصالحة في المجتمع.
والواجبات لها أنواع متعددة فمنها العامة ومنها الخاصة، وكلها ترتبط بعضها ببعض، ومن ذلك: الواجبات العقدية، والخلقية، والوطنية، والاجتماعية، وغيرها.
وتعتبر تلك الواجبات أفعالاً مطلوبة من الفرد الذي تناط به وظيفة أو دور ثابت يجب أن يؤديه في الجماعة([27]).
والمواطن إذا التزم بما سبق ذكره من تلك الأخلاق، وتخلى عن مساوئ الأخلاق من الحسد، والغش، والنفاق بنوعيه العقدي والعملي، والظلم للآخرين، وأكل أموال الناس بالباطل، إلى غير ذلك من الأخلاق السيئة، كان لذلك التأثير الإيجابي على نفسه ومجتمعه ووطنه وأمته.
المطلب الرابع: المواطنة الصالحة وأثرها على المجتمع:
غير خاف أن الفرد جزء من المجتمع، وأن حسن انتماء المواطن لوطنه، وخاصة عندما يكون هذا الوطن قائماً على شريعة الله تعالى يضفي على نفسه الاطمئنان والاستقرار، وفقده يعكس ذلك سلباً على حياته.
والفرد إذا كان إيجابياً في سائر أمور حياته عاد ذلك على مجتمعه ووطنه، والإسلام جاء ليربط الفرد بمجتمعه ووطنه وأمته جمعاء، فلا سبيل لأي فرد أن يعيش معزولاً عمن حوله، بل إذا انفصل عنهم عد ذلك من غير العاقلين، لأن الإنسان بطبعه يحب الخلطة، ويحرص عليها، ويحتاج إلى مخالطة الناس والتعرف عليهم، والتعاون معهم في أمور حياتهم.
فالعامل يحتاج إلى المعلم، والطبيب، والنجار، والسباك، وغير ذلك من سائر المهن، وهكذا كل واحد من هؤلاء الأنصاف يحتاج لغيره، فلا يستطيع أحدٌ الانفكاك عن هذا المجتمع لكونه قطعة متلاحمة من الناس.
وصدق من قال:
الناس للناس من بدو وحاضرة | *** | بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم |
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم توجيه راشد في حق من ترك مخالطة الناس ومن حرص على مخالطتهم حيث قال: (الْمُسْلِمُ إِذَا كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)([28]). وفي رواية: (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)([29])، وفي هذا دليل قوي على أن من خالط الناس، وصبر على أذاهم، وعاشرهم بالحسنى أن أجره أكمل وأعلى.
والنظر في ذلك على قدر مسؤولية كل مواطن، وجهده في خدمة إخوانه، فالمواطن الإيجابي له دور فعال في خدمة مجتمعه ووطنه وأمته، والمواطن السلبي دوره ضعيف في ذلك، فلا يستوي كل منهما، ولكن على قدر العطاء من الطرفين يكون الأثر العائد على الوطن.
إن الإسلام يحرص على ترابط الفرد بالمجتمع أخلاقياً وسلوكيا واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، فلا ينفك هذا الفرد عمن حوله، فهو بهم ومنهم.
فمن الناحية الأخلاقية يكون للمواطن الدور الإيجابي عندما يكون حسن الخلق، والخلق هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال الإرادية الاختيارية من حسنة وسيئة وجميلة وقبيحة، وهي بحسب التربية التي ترباها الإنسان، فإذا ما ربي هذا الإنسان على إيثار الفضيلة والحق وحب المعروف والرغبة في الخير وروض نفسه على حب الجميل وكراهية القبيح وأصبح ذلك طبعاً له فتصدر عنه تلك الأفعال الجميلة بسهولة ودون تكلف، وقيل فيه خلق حسن، والعكس صحيح.
ومن هنا فقد وجه الإسلام إلى التمسك بالخلق الحسن، وترك ما سواه، ودعي إلى تربية النفس على الصفات الجميلة الحسنة التي يحبها الله جل وعلا، قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}([30])، وقال أيضاً:{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}([31]).
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا)([32]).
وإن من أهم عناصر حسن الخلق، تلك الصفات الجميلة التي من اتصف بها حصل له الخير العظيم، وعاد ذلك على من حوله، ومن تلك الصفات:
أن يكون المواطن مخلصاً لربه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولإخوانه، ولمجتمعه، ووطنه.
فلا ينفك أن يكون جهده وبذله خالصاً لله تعالى، راجياً به النفع لمن حوله، وإذا أخلص المسلم في ذلك كان ممن وصفهم الله تعالى في كتابه بقوله:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}([33]).
والإخلاص من أغلى الصفات وأهمها لدى المسلم، فمن أخلص لله عمله، وأراد به وجهه كان من أحسن الناس تعاملاً وأخلاقاً وحرصاً على الخير لجميع المسلمين.
وأيضاً أن يكون متصفاً بالأمانة، والأمانة من أجل الصفات التي حض عليها الإسلام، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تحض على الاتصاف بالأمانة، ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}([34])، وقوله تعالى في صفات عباد الله المؤمنين، {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}([35]). وقال صلى الله عليه وسلم :(لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ)([36]).
ومن معاني تلك الأمانة أن يقوم المواطن بأداء واجبه على الوجه الذي يكلف به، وأن يبذل قصارى جهده في تحقيق كل ما يعود على العمل بالخير والنفع.
وألا يستغل وظيفته في تحصيل النفع من الآخرين بغير وجه حق، وأن يحفظ أسرار العمل، وأن يحفظ ما يصل إليه من المال العام، وهذا ينطبق على كل من وكل إليه عمل خاص أو عام، فإذا حفظ الأمانة ولم يضيعها عاد ذلك على نفسه ومجتمعه بكل خير.
ولابد أيضاً أن يتصف المواطن بالوفاء، وقد أوجبت شريعة الإسلام الوفاء بالعهود، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ..}([37])، وقال تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً..}([38]).
وفي هذا حض للمسلم على اتصافه بالوفاء في جميع حالاته، فيكون وفياً لدينه، وفياً لولاة أمره وعلماء بلده، ووفياً لأهله وأقربائه، ووفياً لمجتمعه وأمته.
وأيضاً أن يكون متصفاً بالصدق، فمن كان صادقاً في شؤونه كلها كان من ثمرة صدقه أن يقدم الرخيص والغالي من أجل رفعة شأن وطنه وإعلاء رايتها بين الأمم، والصادق دائماً يؤثر في تعامله مع من حوله، وخاصة إذا كانوا من غير المسلمين، والصدق كان من أعظم الصفات التي اتصف بها النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يسمى قبل بعثته بالصادق الأمين.
وقد أوصى الله تعالى عباده بأن يكونوا صادقين في جميع شؤونهم، فقال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}([39])، وكما قال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا..)([40]).
وأيضاً أن يكون متصفاً بالصبر، والصبر عنصر من عناصر المواطنة الصالحة في الإسلام، لأنه اقترن بالقيم الروحية العالية، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا..}([41])، والصبر دليل على الإيمان الصادق، والرجولة الناضجة، فإن الابتلاءات في هذه الدنيا تحتاج لصبر كبير، والذي يدل على صدق المسلم هو صبره على طاعة الله، وصبره عن معصيته، وصبره على الابتلاءات والمحن. فمن كان متصفاً بالصبر كان مواطناً صالحاً قادراً على خدمة نفسه ومجتمعه ووطنه وأمته.
وهذه التوجيهات التي ذكرتها وغيرها كثير إذا التزم بها الفرد عاد ذلك عليه وعلى مجتمعه بالخير، وهكذا هي المواطنة الصالحة التي تؤتي ثمارها للمجتمع ـ بإذن الله تعالى.
المطلب الخامس: المواطنة الصالحة وأثرها على الأمة:
إن أمة الإسلام مبناها على طريق واحد، وهو التمسك بحبل الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجاءت الشريعة الغراء آمرة باتحاد الأمة وتماسكها وتعاضدها سواء كان ذلك اجتماعياً، أو اقتصادياً، أو سياسياً، أو فكرياً، المهم أن تصب المصلحة لعامة الأمة كبيرها وصغيرها، ذكرها وأنثاها، بعيدها وقريبها.
وهذا هو أساس الأمة، أن يكون الأفراد مترابطين، متواصلين، مجتمعين على الخير، حريصين على العطاء من أجل مصلحة الأمة كلها.
إن المواطنة الصالحة ليست مواطنة مؤقتة يقوم بها بعض أفراد الأمة، إنما هي مواطنة دائمة، مرتبطة بالقيم والأخلاق والآداب، فهي تحث على الإصلاح والنماء، وتحمل مسؤولية الأداء الفعال الذي يحقق للدولة ثم الأمة النهضة التي تعود على المسلمين ومن يعايشونهم بالخير والرخاء.
والمواطنة الحقيقية هي المواطنة المؤثرة، فالوطنية ليست لفظاً يقال، إنما هي أفعال تقام، فالذي يكون عامل بناء وتنمية، وعامل وحدة وقوة، وعامل تنوع وإثراء في حياة الأمة هي المواطنة الصالحة الصادقة والتي ينتفع بها كل من حوله.
إن الإسلام قد أرسى معالم الوطنية قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، وقوى دعائمها حينما كانت الجاهلية هي التي تحكم الناس، وقد نظم الإسلام العلاقات بين جميع أفراد المجتمع بغض النظر عن دياناتهم وطوائفهم وعصبياتهم، وهذا ما شهدت به صحيفة المدينة والتي رسخت قواعد المجتمع المتكامل، وأسست مفهوم المواطنة الصالحة حقوقاً وواجبات دون إغفال مرتكز العقيدة الذي يحفظ للأمة شخصيتها ومقومات وجودها؛ فكانت بذلك أول تعاقد سياسي رسمي أسس للدولة في أركانها وقواعدها ومنهج سيرها، ووضع أول إقرار لمبدأ المواطنة المشتركة في الدولة الإسلامية، ومبدأ التكافل الاجتماعي، ومبدأ المحافظة على أمن الدولة والمجتمع، ومبدأ المساواة والتيسير الذاتي للمجتمع، وقد ظهر ذلك جلياً عندما أقام النبي صلى الله عليه وسلم أركان البناء الشرعي للدولة.
إن كل فرد من أفراد الأمة مسؤول مسؤولية كاملة عن نهضة الأمة كلها، فولي الأمر له دور عظيم في حفظ الوطن من التشتت والضياع، والعمل على تقوية مكتسباته، وتقوية دعائمه، وربطه بمن حوله في حدود ما يعود عليه بالخير، وأن يتعامل مع الناس تعامل الوالد مع أولاده، فيوجه، ويربي، ويعلم، ويخطط، ويحنو على الضعيف ويقويه، ويشدد على المفرط ويناصحه.
ويكون قدوة في نفسه ولغيره، فيكون في كل حين ووقت الموجه الأول لمواطنيه، فيبحث عما يعود عليهم بالخير، ويضع الأنظمة والقوانين التي تحفظ الأمن والسلامة لأفراد وطنه.
ويجعل بين يديه مستشارين مخلصين، حريصين على مصلحة الدولة والأمة، يضع كل موظف في مكانه الطبيعي والذي يستطيع عن طريقه خدمة وطنه.
وأن يكون سمته العدل، والرحمة، والشفقة برعيته كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان أرفق الناس بأمته، ومن كان هذا هديه وسمته نال دعوة خير الخلق صلى الله عليه وسلم عندما قال في حق الإمام العادل:(سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ..)([42])، وقال أيضاً فيمن يرفق بأمته من بعده: (اللهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ)([43]).
وقد ذكر لنا التاريخ الكثير من سير الخلفاء الراشدين وغيرهم، وكيف كانوا عامل بناء لأمة الإسلام، ومنهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله، الخليفة الزاهد، العابد، الخاشع، الذي لم يجلس سوى القليل في الخلافة، إلا أنه ساد في عهده الأمن والأمان، ولم يكن هناك فقير، وقد فاضت الزكاة في عهده حتى أنه لم يجد من يأخذها، وهكذا عندما يكون الفرد قائماً بشرع الله تعالى وأوامره وحدوده، متصفاً بالعدل والتقوى يكون أثر ذلك عائداً على رعيته.
فمن سار على هذا النهج، وعمل ما يستطيع في سبيل ذلك حاز على رضا الله تعالى، وكان خير من قام بالمواطنة الحقة التي تعود على وطنه وأمته بخير عميم.
ويتبع ذلك أيضاً الوزير، والمستشار، ورئيس الشرطة، وغيرهم ممن يتحملون مسؤوليات عظيمة تحت رئيس الدولة، فهؤلاء إذا صلحوا وراعوا الله في أمورهم وشؤونهم، وقاموا بمسؤولياتهم على الوجه المطلوب كانوا عوناً للحاكم على تسيير أمور الوطن على الوجه الذي يعود عليها بالتقدم والازدهار.
وهكذا سائر العاملين في شؤون الدولة، من الأطباء، والمهندسين، والأساتذة، وسائر المهن الأخرى، لو قام كل منهم بما يجب عليه، وأدى الحق الذي عليه، وقام ببذل الجهد، وتقديم ما ينفع مسيرة الوطن، عاد ذلك على الفرد والمجتمع والوطن والأمة جمعاء.
وإذا قامت الدول العربية والإسلامية بتطبيق هذه المنهجية الإيجابية كانت الثمار عائدة على كل من شارك فيها، فلا وطنية صالحة دون تمسك بالفضائل والأخلاق الإسلامية، والالتزام بشرع الله المطهر، ولا فلاح ولا نجاح إلا بلزوم المنهج الحق، والسير على طريقته، والعمل على تطويره بما يحقق الخير لسائر أمتنا العربية أو الإسلامية.
المبحث الرابع
شبهات حول مفهوم المواطنة والرد عليها
إن عدم فهم الوطنية بمحتواها الظاهر يلقي بظلال الخوف على المواطن في التمسك بها ولزوم توجيهاتها، والناظر إلى حال المجتمعات المعاصرة يجد أن العالم الآن أصبح كأسرة واحدة تتقاسم أمور الحياة، سواء من الناحية السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو غيرها، فالكل يشارك في المسيرة.
وجميع وسائل الإعلام الآن سواء كانت مرئية، أو مسموعة، أو مقروءة كلها تصب في الغالب في مصلحة الوطن والمواطن، وتعمل على رفع مستواه العلمي والعملي، وهذا واضح وبين من خلال تلك المؤتمرات، والندوات، واللقاءات، والحوارات التي تقام من أجل الوصول إلى الخطط المناسبة التي تقوي دعائم الفرد بالدولة.
ولكن هناك فئام من الناس من جهلهم بمفهوم تلك الوطنية، واختلاطها بمفهوم الغرب فقط دون النظر إلى صورتها الحقيقية في الإسلام يلقي بالشبهة في القلوب أن هذه الوطنية التي ينادى بها وطنية مزيفة غير حقيقية، وأن تطبيقها في واقع المسلمين يودي بالأمة إلى السير وراء الأمم الأخرى في عقائدها، وأعرافها، وحياتها المادية التي تعيشها.
وهذا لا يمكن أن يكون إلا إذا فرط المسلمون في تطبيق الشريعة الإسلامية في سائر بلاد المسلمين، فلا يكون لتلك المواطنة أثر، ولا يظهر لها ثمار ما دامت تسير على منهاج الغرب.
أما إذا سارت على المنهاج الحق، والتزمت بالأحكام الشرعية، وقامت بتطبيق ذلك في حياتها العملية فسيعود ذلك على الأمة ومواطنيها بالخير والفلاح.
وإن من الشبهات التي يلقيها البعض ممن ليس لديه علم حول مفهوم المواطنة ما يلي:
أولاً: أن مفهوم المواطنة ما كان موجوداً في الزمن السابق، وأن هذه اللفظة جاءت من الغرب، ودخلت إلى ديار المسلمين وراجت بينهم: وهذا القول حق ولكنه يحتاج إلى تفصيل.
فالمواطنة كمسمى لم تكن موجودة إلى زمن قريب، إنما استحدث هذا اللفظ عن طريق الغرب، ولكن كمفهوم في الإسلام فقد كان موجوداً قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، وهو زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل المدينة المنورة، وآخى بين المهاجرين والأنصار، بعد أن ترك المهاجرون ديارهم وأموالهم من أجل الله تعالى ودينه، فعوضهم الله بصحبةٍ خيراً من صحبتهم في مكة، وأخوة أعظم من أخوة العشيرة.
ثم بعد ذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحفظ المدينة من اعتداء الأعداء سواء من الداخل أو من الخارج، فقام بوضع الوثيقة، والتي سميت (بالصحيفة) وهي التي بمحتواها أصبح الجميع مجتمعاً واحداً، ويداً واحدة، في حفظ المدينة، وصد أي عدوان عليها من الخارج، مع كف شر اليهود، والمشركين.
ثانياً: الحدود الجغرافية الموضوعة بين الدول الإسلامية والعربية ومثيلاتها: فلا يمكن لإنسان أن يمر من دولة إلى دولة إلا إذا كان له وثيقة يمر بها، وربما يحتاج إلى تأشيرة لدخولها، أو الانتقال إليها، فهذه الأمور لم تكن موجودة في عهد الخلافة الإسلامية بداية من عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وحتى سيطرة الاستعمار على كثير من بلاد المسلمين.
ولكن هذه الحدود لا يمكن أن تقطع أواصر الأخوة الإسلامية، فمهما كثرت الحدود، وتباعدت الدول فالإسلام هو الذي يجمع المسلمين، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..}([44])، وقال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ..}([45])، فرباط العقيدة والدين هو الأصل في الوطنية الحالية، فلا يمكن أن يقدم نظام أو دستور على شريعة الله تعالى التي تأمر بإقامة التعاضد والتكافل والتعاون بين المسلمين.
وعند حدوث أي أمر من الأمور التي تصيب الأمة الإسلامية نجد أن جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يهبون لها، ويبادرون إلى إظهار الحق فيها، وما تلك المحن والابتلاءات التي مرت تجاه دين الله تعالى، سواء كان ذلك من ناحية تكذيب كتاب الله تعالى، أو نبي الأمة صلى الله عليه وسلم ، أو القدح في شريعة الإسلام والتشكيك فيها، أو القدح في الملتزمين بدين الله تعالى ورميهم بالتطرف والتعصب والتشدد إلا أكبر دليل على أن الأمة مهما كانت ضعيفة فتواصلها يقوى برباط الدين.
وهكذا تعتبر الوطنية عند المسلم هي الانتماء لأمة الإسلام، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)([46])، وقوله (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)([47]).
ثالثاً: الحمية للدفاع عن كرامة الوطن إذا أساء إليها أحد: وهذه موجودة لدى سائر الناس، ولكنها تختلف باختلاف البلدان، فالبلد إذا كان قائماً على تنوع في الأنظمة والقوانين، من حيث وجود تطبيق لبعض أجزاء الشريعة، والبعض الآخر قوانين وضعية، أو غالب ما يطبق فيها قوانين وضعية فقط دون الأخذ بزمام الشريعة، فهذا يختلف عما إذا كان الوطن يطبق شريعة الإسلام كاملة كما هو الوضع في المملكة العربية السعودية، فالصورتان الأوليان يختلف فيهما الحكم عن الصورة الثالثة.
فإذا كانت الحمية من أجل العصبيات والقوميات والتقاليد والأعراف، فهي وطنية مذمومة يجب تركها، وهجرها، كما قال صلى الله عليه وسلم حينما حصل شجار بين رجل من الأنصار ورجل من المهاجرين، (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ)([48]).
أما إذا كانت الحمية من أجل وطن كالمملكة العربية السعودية، التي تطبق شرع الله في جميع شؤونها، وتقوم على رعاية الحرمين الشريفين، وخدمة الحجاج والمعتمرين، وتقوم بالدعوة إلى الله تعالى عن طريق نشر الكتب الشرعية، وتوزيع المصحف الشريف، ونشر الدعاة في سائر أنحاء العالم، ودعم الجمعيات الخيرية، سواء في الداخل أو في الخارج.
وتحرص أيضاً على كل ما ينفع الأمة، من تقديم العون الدائم للدول الإسلامية، سواء كان دعماً معنوياً أم مادياً، وهذا ما يدل عليه الواقع العملي لها على المستوى المحلي والدولي.
وهنا يكون لزاماً على كل مواطن ومقيم على ثراها، أن يعمل على حمايتها من عبث العابثين، وكيد الكائدين، وأن تفدى بالأرواح إذا تعرضت يوماً لعدوان داخلي أو خارجي، وأن يبرهن الجميع على أن حفظ أمنها، وحمايتها من كل سوء وشر أمانة في أعناق الجميع.
رابعاً: محبة الوطن: هناك من يقدح في أن محبة الوطن ليست من الإسلام في شيء، وأن ذلك مخالف لولاء العقيدة، والإخوة الإيمانية، وهذا يحتاج إلى إيضاح وبيان.
فالمحبة للوطن ليست مخالفة لولاء المسلم لعقيدته، ولا لأِخوته الإيمانية، بل هي محبة فطرية سوية، تتماشى مع سائر المحاب، وخاصة عندما تكون هذه المحبة متعلقة بوطن قام على الإسلام شريعة وتطبيقاً، وهي من أعظم المحاب التي تجب على كل مسلم يعيش على ثراها، فمحبة هذا الوطن متعلقة بما هو عليه من إحقاق للحق، وإبطال للباطل، وإظهار لشرائع الإسلام الظاهرة.
وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحب مكة حباً عظيماً ويميل إلى السكنى والإقامة فيها، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :(عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ الأَرْضِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)([49]).
وقال عنها حينما أُخرج منها :(مَا أَطْيَبكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَكِ إِليَّ وَلَولا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)([50])، وهذا فيه دلالة عظيمة أن محبة الأوطان راسخة في كل نفس بشرية، وهذا لا ينافي كمال الإيمان، وسلامة العقيدة.
وجميع الناس شرقاً وغرباً يميل كل شخص منهم إلى وطنه، ومبدأ نشأته وترعرعه، ويشتاق إلى أهله وإخوانه، ولا ينسى المكان الذي يسكن فيه ويتمتع بخيراته، وهذا يعيشه سائر الناس.
أما المسلم فيختلف عنهم بحبه لها لكونه يرتبط بها برباط العقيدة، والدين، فيرتبط بها ارتباطاً دينياً قبل أن يكون ارتباطاً دنيوياً.
خامساً: الخدمة الوطنية: وهي في غالبها تطلق على الخدمة العسكرية كما في سائر بلدان العالم، وهي التي يلقي بها المشككون في صحة الالتحاق بها، وهي خدمة تصب في مصلحة الوطن.
وفي المملكة العربية السعودية لا يفرض على المواطنين الالتحاق فيها دون موافقتهم، وهذا يخالف ما عليه الكثير من بلدان العالم العربي أو الغربي التي يلزم بها الأشخاص.
بل هي خدمة تُطلب ممن عنده استعداد لأدائها والالتحاق بها، ومن نظر إلى الواقع وجد أن غالب من يعملون في سلك السياسة، أو في الخدمة العسكرية، أو الداخلية، أو غيرها يجد أنهم يعملون عن رغبة وحرص وتفان في ذلك لأنهم يعلمون قيمة هذه الأعمال الجليلة التي يقومون بها من أجل وطنهم الكريم. وهي من أجل الأعمال التي تكون مشرفة لأبناء هذا الوطن، وكيف لا وهي تصب في مصلحتها، وتعمل على كل ما من شأنه رفع لمكانتها، وحفظ لكرامتها، وصيانة لأراضيها، وهي خدمة تحتاج لجنود مخلصين صادقين أقوياء لا يقدمون شيئاً على مصلحة وطنهم المسلم.
سادساً: الأنظمة الموضوعة لحفظ نظام الوطن: وهي عبارة عن قوانين وأنظمة وضعها ولي الأمر من أجل ضبط أمن المجتمع، وحمايته من الفساد والظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، وهي التي يلقي البعض حولها الشبه ويقول أنها مخالفة لشريعة الإسلام.
وهذا الكلام غير صحيح، والدليل على ذلك ما وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في صحيفة المدينة من ضوابط وشروط بين المسلمين وغيرهم من ساكني المدينة من أجل حفظ أمن المدينة من الاعتداء عليها، وضبط الأمور في المدينة لئلا يعتدي أحد على أحد، أو يظلم أحد أحداً، أو يأكل أحد مال أحد. وأيضاً ما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حينما مرَّ بقوم يلقحون فقال: (لو لم تفعلوا لصلح”، قال فخرج شيصاً فمر بهم فقال ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا، قال أنتم أعلم بأمر دنياكم)([51]).
الخاتمة.
الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات، والصلاة والسلام على خير البريات.
ففي ختام هذا البحث الذي بين أيدينا تبين لنا النتائج التالية:
1ـ أن المواطنة الصالحة تعبير عن العلاقة التي تربط بين المسلم وسائر عناصر الأمة، وتتوج هذه الصلات جميعاً الصلة التي تجمع بين المسلمين وحكامهم من جهة وبين الأرض التي يقيمون عليها من جهة أخرى.
2ـ أن التأصيل الشرعي لمفهوم المواطنة ينبع من وحدة الأصل الإنساني، والمصالح المشتركة لأبناء الوطن الواحد.
3ـ أن وطنية الإسلام لا تتعارض مع الانتماء إلى أمة الإسلام، لأنها جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية، ومردها إلى دين واحد.
4ـ أن المواطنة الصالحة لها الأثر الكبير على الفرد إذا صلحت حاله مع الله تعالى، والتزم أوامره، واجتنب نواهيه، وكان عاملاً إيجابياً لنفسه ولمن حوله، وكان نعم المواطن لوطنه ولأمته.
5ـ أن تلك الشبهات التي يلقيها البعض إنما هي من العرف الذي لا يخالف الشرع، بل في غالب الأحيان أنه موافق للشرع.
6ـ أنه يجب على الجميع التعاون في إيضاح صورة المواطنة الصحيحة، وأن ذلك هو الطريق الأساس في إيضاح المواطنة الحقة للناس لكي يلتزموا بها ويعملوا بمقتضاها.
أسأل الله أن ينفع بهذا البحث، وأن يجعله في ميزان الحسنات يوم العرض على الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
فهرس المصادر والمراجع
1 |
القرآن الكريم |
2 | التربية الوطنية، العناقرة وآخرون. |
3 | التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (ت: 852هـ)، دار الكتب العلمية، ط 1، 1419هـ ـ 1989م، عدد الأجزاء : 4 |
4 | تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (ت: 774هـ)، تحقيق محمود حسن، دار الفكر، 1414هـ/1994م |
5 | التفسير القرآني للقرآن، د. عبد الكريم الخطيب. |
6 | سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد أبو عبدالله القزويني، دار الفكر، بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. |
7 | سنن البيهقي الكبرى، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي، دار الباز، مكة المكرمة ، 1414 – 1994، تحقيق محمد عبد القادر عطا. |
8 | سنن الترمذي، محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون. |
9 | السيرة النبوية لابن هشام، أبو محمد عبد الملك بن الأيوب الحميري (ت: 218هـ)، تحقيق مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. |
10 | لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، دار صادر، بيروت، ط1.. |
11 | مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، محمد حميدالله، ص15 وما بعدها. |
12 | المحيط في اللغة، الصاحب الكافي الكفاة أبو القاسم إسماعيل ابن عباد بن العباس بن أحمد بن إدريس الطالقاني، دار عالم الكتب، بيروت، لبنان، ط1، تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين، 1414هـ ـ 1994 م |
13 | مسند الإمام أحمد، أحمد بن حنبل، المحقق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط2 1420هـ. |
14 | مفهوم المواطنة في الدولة القومية، علي الكواري، مجلة المستقبل العربي، ص66 ـ العدد: الثاني، 2001م. |
15 | المواطنة، د. إبراهيم ناصر، دار مكتبة الرائد، ط1 ، 1424هـ. |
16 | المواطنة في الإسلام، د. فهمي الهويدي، مقال في جريدة الشرق الأوسط، العدد: 5902، ص13. |
ثانياً: المقالات
المقال الأول
المسجد وأثره
في تنمية المواطنة الصالحة
نشر في موقع منار الإسلام
بتاريخ: 14 / 11 / 1435هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
إن محبة الوطن، والانتماء له أمر فطري غريزي، وطبيعة جبل الله النفوس عليها.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ) رواه الترمذي، (3926)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم ( 5536). فحينما يولد الإنسان في بلده، وينشأ ويترعرع بين أحضانه، ويأكل من طعامه، ويشرب من مائه، ويحيا بين أهله وإخوانه، فإن فطرته ترتبط به، فيحبه ويواليه، ويجتهد في الذب عنه، ورفع شأنه، وتحسين صورته.
فإذا كان هذا الوطن قائماً على شرع الله، مستناً بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، قائماً بحدوده، فهذا هو أغلى الأوطان، وأحبها إلى نفوس المؤمنين، وهذا هو الوطن الذي تبذل له النفوس والأموال رخيصة.
فارتباط الإنسان بوطنه كامن في كل نفس بشرية، ويستشعر ذلك كل من ترك بلده مهاجراً إلى بلد آخر، فيشعر بالحنين والشوق له، وتتحرك عواطفه الكامنة الدالة على محبته له.
وأيضاً حينما يصاب بلده باعتداء أو ظلم، فإنه يبادر إلى الدفاع عنه، والذب عن حياضه، ويحزن إذا كان بعيداً عنه لعدم قدرته على الدفاع عنه.
إن الحديث عن حب الوطن والانتماء إليه، حديث ذو شجون كيف لا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم حينما أخرجه قومه من بلده التي نشأ بها، وترعرع بين جنباتها حزن حزناً شديداً، فقال بلسان حاله وهو يغادرها، كما في الحديث المتقدم.
فحب الوطن ـ كما ذكرت سابقاً ـ حبٌ غريزيٌ ولكنه يختلف من شخص إلى آخر، فكم من الناس من يتشدقون بحبهم لوطنهم وهم عالة عليه، وآلة هدم في بنائه، وهذا هو الحب الزائف.
أما الحب الصادق للوطن فإنما يظهر فيما يقوم به المواطن من بذل وعطاء، وجهد وبناء في سبيل إعلاء مكانة وطنه بين الأمم، فهو يحبه ويتعلق به، ويكون ذلك باحترام الأنظمة الموضوعة لحفظ أمنه، ونشر العدل بين ربوعه، وبذل قصارى جهده في سبيل إعزازه ونصرته ورفع شأنه وحفظ مقدراته، ونشر إيجابياته، وستر عيوبه، والعمل على حفظ أمنه من كل من يريد به الشر والأذى.
فهذا الوطن الذي يتعلق به المسلم يحتاج إلى وجود المواطن الصالح الذي يقدر قيمة وطنه، ويعرف ما له وما عليه من حقوق وواجبات متبادلة بينه وبين مجتمعه.
وقد كان للمسجد دور كبير في تنمية عامل المواطنة وتوعية المجتمع، فالأئمة والخطباء هم من يوجهون الناس لحب الدين، والوطن، ويعلمونهم كيفية الانتماء إليه والذب عنه ومناصرته.
والمسجد دائماً وما زال له السبق في تعزيز قيم التنمية الوطنية، وتربية الناس عليها، وتصحيح المفاهيم حولها، وحث الناس على التمسك بها.
والمسجد في حياة المسلمين له دور عظيم في تحقيق التوازن للمجتمع المسلم، فهو المكان الذي يؤمونه في اليوم خمس مرات يؤدون فيه الصلاة، ويتلقون فيه النصح والتوجيه والإرشاد، ويتعلمون فيه كثيراً من السلوكيات والأخلاق الإسلامية.
ومن أدوار المسجد في تنمية قيم الوطنية في حياة المسلمين:
- حثهم بأن يكونوا مواطنين صالحين متمسكين بعقيدتهم الإسلامية، وحبهم وولائهم لوطنهم، ولأولياء أمورهم، وعلمائهم.
2- توجيههم إلى مقومات المواطنة الصالحة، والعادات الصحيحة للمواطن المخلص لوطنه، وبيان ذلك بالأمثلة والشواهد.
3- غرس حب الوطن في نفوسهم ليزدادوا اعتزازاً به، والعمل من أجل تقدمه وإعلاء شأنه والذود عن حياضه.
4- تعزيز ثقافة الحوار والمشاركة والتسامح مع الاختلاف.
5- تقدير المصلحة العامة وتقديمها على المصلحة الخاصة، والتضحية من أجل الصالح العام.
6- التحذير من معاداة أولياء الأمور والعلماء، والخروج عن جماعة المسلمين.
7ـ الاجتهاد في خدمة الوطن، والحرص عليه من كل ما يؤثر عليه سلباً.
8ـ نشر الخير بين الناس، والعمل على اجتماع الكلمة، ومفهوم الأمة، والبعد عن كل ما يهدم الصف، والتصدي للشائعات المغرضة.
9- العمل على احترام النظام، وعدم خيانة الوطن.
10- المحافظة على المرافق العامة، والمساهمة في تنمية الوطن.
11- البعد عن بث الأفكار المنحرفة والشاذة التي تجلب الشر للوطن والمواطنين.
أسأل الله جل وعلا أن يحفظ هذه البلاد وقادتها وعلماءها وشعبها والمقيمين عليها من كل سوء ومكروه، وأن يرد كيد الأعداء إلى نحورهم، وأن يجزي القائمين على فرع وزارة الشؤون الإسلامية في منطقة الرياض خيراً على تنظيم مثل هذه اللقاءات المفيدة التي تسهم بالتوعية وتوجيه الناس لما فيه الخير في العاجل والآجل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المقال الثاني
بلاد الحرمين الشريفين ونعمة الأمن
نشر في جريدة الرياض عام 1417هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد حبا الله بلاد الحرمين بنعم عظيمة من أجلها نعمة الإسلام وتحكيم شريعة الله وإقامة حدوده وتثبيت دعائم الأمن والاستقرار، هذه الأمور تغيظ أعداء الإسلام وتجعل قلوبهم تمتلئ حقداً وحسداً على هذه البلاد فبالتالي يكيدون لها ويدبرون لها مخططات إجرامية يظنون أنهم من خلالها يزعزعون أمن هذه البلاد واجتماع كلمتها ووحدة صف مجتمعها، ولكن هذا لن يزيد هذا المجتمع المؤمن إلا اجتماعاً والتئاماً والتفافاً حول بعضنا ومع قيادتنا فيما يعود علينا جميعاً بالأمن والطمأنينة والرفاهية.
إن ما حدث يوم الثلاثاء: 9/2/1417هـ من تفجير آثم في مدينة الخبر لا يقره كتاب ولا سنة ولا عقل صحيح سليم.
إن بلادنا ولله الحمد تتميز على بلاد الدنيا كلها بميزات ظاهرة للعيان، فهي البلد الوحيد الذي يرعى المقدسات ويبذل لها الأموال الطائلة.
بل إن بلادنا تمد يدها لتساعد المحتاجين من المسلمين في كل أصقاع الدنيا، فهل يكون جزاؤها أن تمتد لها يد الغدر والخيانة فتطعنها في شيء تفخر فيه وتتميز به على سائر الأقطار وهو نعمة الأمن في الديار.
إن ما حدث في مدينة الخبر عدوان لا يقره دين ولا عقل ولا عرف، أما الدين فإنه مناف لها لما تضافرت حوله النصوص من تحريم قتل النفس بغير حق وتحريم إتلاف الأموال ظلماً وعدواناً، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ…}(الأعراف: الآية 33)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}(الفرقان: الآية 68)، وقال تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً}(الأعراف: الآية 33).
وأما السنة: فقد أعلن صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ميثاقًا كفل بموجبه حقوق الإنسان في الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم:(يا أيُّها النَّاسُ أيُّ يَومٍ هذا؟، قالوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قالَ: فأيُّ بَلَدٍ هذا؟، قالوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قالَ: فأيُّ شَهْرٍ هذا؟، قالوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قالَ: فإنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، فأعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقالَ: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ – قالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، إنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إلى أُمَّتِهِ، فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، لا ترْجِعُوا بعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بعْضُكُمْ رِقَابَ بعْضٍ) رواه البخاري (1739)، ومسلم (1679).
وأما منافاة هذا العمل الإجرامي للعقل فهذا أمر معلوم، فالعقول السليمة تمنع من الاعتداء والظلم، فبأي حق تزهق النفوس البريئة، وبأي ذنب يخاف الآمنون، وبأي منطق يروع الأبرياء، وبأي حق تتلف الأموال وتهدم المباني ويزرع الرعب في قلوب الناس.
وأما منافاة هذا العمل للعرف فإن بلاد الحرمين قاصيها ودانيها صغيرها وكبيرها يستنكرون هذا العمل الشنيع ويمقتونه لأن هذا الأمر ضرره ظاهر على الفرد والمجتمع، بل على مكتسبات الأمة وثرواتها، وهو ثمرة من ثمرات كفاح الأعداء وتخطيطهم الماكر لتدمير هذا المجتمع لأنهم رأوا شدة تمسكه بعقيدته وقوة تلاحمه وترابطه ومحبته للخير ومده يد العون والمساعدة لكل المسلمين في كل أنحاء الدنيا، فغاظهم ذلك وأقض مضاجعهم فأيقظوا الفتن وأشعلوا نارها لتجني الأمة منها بذور الفرقة والخلاف وزرع الخوف في قلوب العباد.
إن كل من يقيم على ثرى هذه البلاد فله حرمة لأنه دخلها بعهد وأمان، فلا يسوغ الاعتداء عليه ولا التعرض لماله ولا أذيته بأي نوع من الإيذاء لأن في ذلك خفراً للذمة وإهداراً للعهد الذي أعطاه إياه من جاء عن طريقهم سواء كانوا أفراداً أو شركات أو مؤسسات.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يكشف عوار من أقدم على هذه الفعلة الشنعاء والجريمة النكراء وأن يوفق رجال الأمن للقبض عليهم عاجلاً غير آجل ليلقوا جزاءهم.
كما أسأله تعالى أن يحفظ علينا ديننا وأمننا ومقدساتنا، وأن يوفق ولاة أمرنا للخير وأن يعينهم ويسدد خطاهم، وأن يحمي بلادنا من كل سوء ومكروه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المقال الثالث
بلاد الحرمين
واحة الأمن ودوحة السلام
نشر في جريدة الرياض
بتاريخ: 11 / 2 / 1417هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(الشورى: الآية 42).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ) رواه البخاري (6484)، ومسلم (41).
هذه النصوص وغيرها كثير تدل على حرمة أذية المسلمين وترويعهم وحرمة الظلم والبغي في الأرض، وما حدث من تفجير في مدينة الخبر تسبب في قتل الأنفس وترويع الآمنين وإهلاك الأموال، وهو خدمة للأعداء لأنهم حريصون على أذية هذه البلاد وقد أقلقهم كثيراً ما تعيش فيه من أمن وطمأنينة وسلام.
لقد مكّن الله لهذه البلاد وأغدق عليها سبل الرزق فأصبحت الخيرات تنهال عليها من كل مكان، وهذا بفضل الله ثم بفضل الحكم بشرع الله ووجود المقدسات التي تقوم عليها هذه البلاد وتغدق عليها الأموال الطائلة وتيسر السبيل إليها وتقدم خدمات جليلة لكل حاج ومعتمر بحيث يؤدي حجه وعمرته بيسر وسهولة.
والمملكة العربية السعودية واحة الأمن ودوحة السلام تعيش حياة هادئة مستقرة في ظل قيادتها الواعية الرشيدة التي تعلن دائماً وأبداً تمسكها بشرع الله المطهر، وتفتخر به في كل المحافل الدولية، وترفض كل ما يخالفه من أنظمة وأعراف.
ولذا شددت على متابعة المجرمين وقمع دابر الجريمة فتحقق لبلاد الحرمين من الأمن والسلام ورغد العيش ما لا نظير له في بلاد العالم كلها، لكن هذا الأمر أقلق الأعداء فراحوا يخططون لأذية هذه البلاد بكل وسيلة، وقد سلكوا في سبيل ذلك مسالك شتى، اشتروا ذمم وضمائر أقوام غرروا بهم وصنعوهم على أيديهم فعقوا بلادهم وولاة أمرهم وطعنوا مجتمعهم من الظهر خدمة للأعداء.
إن ما حدث من تفجير في مدينة الخبر جريمة بكل المقاييس حيث قتل المتسبب الأنفس وأخاف السبيل وروع الآمنين وأتلف الأموال، ونحن على ثقة بإذن الله أن أجهزة الأمن ستلقي القبض على المتسبب لأن هذه البلاد موفقة ـ ولله الحمد ـ في قمع الجريمة وتتبع المجرمين بفضل توفيق الله ثم بفضل كفاءة وإخلاص العاملين في هذه الأجهزة.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يكشف عن المتسبب ليلقى جزاءه العادل، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا أمننا، وأن يديم علينا نعمة الاستقرار والطمأنينة، وأن يحفظ ولاة أمرنا من كل سوء ومكروه، وأن يكفي هذه البلاد شر الأشرار ومكر الماكرين وتخطيط المجرمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المقال الثالث
كل ذي نعمة محسود
نشر في جريدة عكـاظ
عام 1416هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تعيش المملكة العربية السعودية حالة من الاستقرار والاطمئنان والأمن ورغد العيش لا مثيل لها في العالم كله، وقد أصبحت مضرب المثل في ذلك ومتى تحقق لأي مجتمع أمن في الديار ورغد عيش ورزق مدرار فإن السعادة ترفرف على هذا المجتمع بكل فئاته ومستوياته، وهذا ما تحقق لبلاد الحرمين الشريفين ولله الحمد بفضل الحكم بشرع الله المطهر ثم حرص ولاة الأمر على قمع الجريمة وتتبع المجرمين وملاحقتهم لئلا يعكروا جو الأمن وواحة الصفاء التي ينعم فيها مواطنو هذا البلد ومن يقيم على ثراه، ناهيك بالنصوص الشرعية التي تؤكد حرمة هذا البلد وحرمة الأذية فيه، يقول تعالى:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}(القصص: الآية 57)، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}(العنكبوت: الآية 67).
وقد امتن الله على أهل هذه البلاد بالأمن من الخوف والرزق الوافر فقال:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}(قريش: الآية 3، 4).
واستمرت الحال في هذه الجزيرة الآمنة؛ أمن في الأوطان، ووفرة في الأرزاق، وتلاحم صادق بين ولاة الأمر وسائر الشعب، وسلامة في التوجه والمنهج لدى العلماء، ولذا ارتفعت منارات العلم وعلا صرح الحضارة وبدأت هذه الشجرة المباركة تثمر ثمرات يانعة، وامتد هذا القلب النابض ليسقي بخيراته كثيراً من أصقاع الدنيا التي فيها مسلم يذكر الله، وفتحت هذه البلاد ذراعيها لتستقطب مئات الآلاف من الوافدين ليستفيدوا من خيراتها ويساهموا في نهضتها وينعموا بوافر الأمن ورغد العيش.
لكن هذه الحال التي عاشتها هذه البلاد أقلقت كثيراً من الأعداء فراحوا يخططون لها مكراً ومكيدة وزعزعة للأمن وترويعاً للآمنين، وذلك بزرع بذور الفتنة والفرقة والتفجير هنا وهناك وما علم هؤلاء أن هذه الأعمال مع منافاتها للشرع والعقل والعرف إلا أنها ستجد جداراً صلباً متماسكاً يتحطم عليه بإذن الله كل مكر وتآمر مهما كان التخطيط له، ومهما كانت درجته، هذه البلاد التي آلت على نفسها أن تحكم بشرع الله وتعلن للعالم أجمع أنها تفخر وتفاخر به، وهي البلد الوحيد في ذلك ويرتفع علمها خفاقاً يحمل كلمة التوحيد، وإذا نكست الأعلام بقي شامخا مرفوعاً، بل إنها تفخر أن الجنسية فيها لا تمنح إلا لمسلم يعلن إسلامه.
لكن ضعاف النفوس من ذوي الأطماع ممن مرضت قلوبهم طوعت لهم أنفسهم الخبيثة أن يقدموا على فعلتهم الشنيعة وحدث التفجير في عاصمة الحب والسلام، وأخيف الآمنون وروع الساكنون ودمرت الممتلكات لا لشيء إلا لخلق البلبلة وزعزعة الأمن، ولم يحقق هذا المجرم إلا الخزي والعار والشنار في الدنيا والآخرة إن شاء الله.
وإذا كنا مطالبين في كل وقت بالتلاحم مع ولاة الأمر والالتفاف حول علمائنا فإننا اليوم مطالبون بالوقوف يداً واحدة وصفاً قوياً في وجه هذا العبث الإجرامي الذي يراد منه النيل من المقدسات والمساس بالحريات وتدمير الممتلكات وإشاعة أن الإسلام غير قادر على مواكبة العصر؛ لأن هذه البلاد تمثل الإسلام كتطبيق عملي لأحكامه وآدابه.
إننا بحاجة ماسة أن نميز بين الإسلام والجريمة فكثيراً ما يمتطي الإسلام ضعاف النفوس ويحققون من خلاله شهوات عدوانية باسم الانتصار للحق وأي حق يزعمونه، إنه الجريمة، إنه القتل العمد، إنه انتهاك الحرمات.
إن هناك نفوساً ضعيفة وقلوباً مريضة وأعيناً حاسدة أقلقها هذا الأمن الوارف، ونغص عليها رغد العيش، وغصت بهذا التلاحم بين القيادة وسائر الشعب، فطوعت لها أنفسها العبث وزينت لها شهواتها الجريمة.
إن على كل مسلم يرجو الله واليوم الآخر أن يتعاون مع سلطات الأمن في متابعة المجرم والكشف عنه لينال جزاءه العادل ويفرح المؤمنون بإقامة حد الله فيه.
لقد حرَّم الله قتل النفس بغير حق ومن قام بالتفجير قتل الأبرياء بغير حق.
وحرَّم الله إتلاف الأموال بغير حق، ومن قام بالتفجير أتلف أموالاً كثيرة من البيوت والسيارات وغيرها بغير حق.
وحرَّم الله ترويع الآمنين ومن قام بالتفجير روع الآمنين وأخافهم وأنزل الذعر في قلوبهم.
وحرَّم الله الخروج على ولي الأمر ومخالفة أمره ما دام يأمر في حدود شرع الله.
وهذا المجرم بهذا التفجير خرج من طاعة ولي الأمر وكسر الأنظمة المعمول بها والأعراف والتقاليد فظهرت مخالفة فعله للشرع والعقل والعرف والفطرة. وهدم بفعلته النكراء الضرورات الخمس التي كفلتها الشرائع السماوية.
ونحن على ثقة بإذن الله أن الله سيفضحه عاجلاً، ذلك أننا ننطلق عن سنة عرفناها فيما سبق وهي أن هذه البلاد موفقة ولله الحمد إلى الوصول للمجرمين وذلك فضل من الله، ونكاد نجزم أن كثيراً من الدول المتقدمة لا تستطيع الوصول إلى المجرمين بالسرعة والدقة التي تصل إليهم فيها هذه البلاد المباركة وذلك بفضل التمسك بشرع الله المطهر ثم بوعي قيادة هذا البلد وتأنيها وتثبتها وتعاون المواطنين والمقيمين معها في هذا الشأن.
اللهم احفظ بلادنا ومقدساتنا وولاة أمرنا ومن يقيم على ثرى بلادنا عن كل سوء ومكروه.
اللهم من تسبب في التفجير أو أعان عليه أو سهل مهمته أو رضي به افضحه في جوف بيته، اللهم ازرع الخوف في قلبه واجعله يخاف من نفسه ومن ظله، اللهم مكن سلطات الأمن من رقبته ليكون عبرة للمعتبرين.
اللهم أدم على هذه البلاد أمنها واطمئنانها ووفق رعاتها ورعيتها لكل خير، اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا ومقدساتنا وولاة أمرنا بسوء اللهم اجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه إنك على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المقال الرابع
الارتباط بين قيام المملكة
ونهج الحكم الإسلامي
نشر في مجلة اليمامة
عام 1419هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله هي سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وقد نوّه الله عن ذلك بقوله:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ}(يوسف: الآية 108).
والدعوة إلى الله مهمة الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن النار إلى الجنة.
وقد بدأ رسل الله دعوتهم بالأهم؛ فدعوا إلى إصلاح العقيدة بالأمر بإخلاص العبادة لله والنهي عن الشرك، ثم الأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وفعل الواجبات، وترك المحرمات.
وهذا المنهج الواضح هو الذي سار عليه أئمة الدعوة في المملكة العربية السعودية وعلى رأسهم الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حيث ركَّز على التوحيد وتصحيح العقيدة لأن غيره من الواجبات من حقوقه ومكملاته وتابع له.
لقد تجرد إمام هذه الدعوة المباركة رحمه الله للدعوة إلى الله على بصيرة، وجاهد في رد الناس إلى ما كان عليه أهل السنة والجماعة من إفراد الله بالعبادة، وترك التعلق بغير الله، والاعتقاد فيما دونه متبعاً في ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من تمام توفيقه وتأييده أن قيض الله له من الأمراء من ينصره ويعينه ويقف معه، إذ عرفوا صدقه وحرصه على الإسلام وتصحيح عقيدة الناس بنص الوحي وحد السيف، فمن نفع معه الدعوة بالحكمة واللين واقتنع بالحجة فذاك ومن عاند وجحد ووقف في وجه زحف عقيدة التوحيد استعمل معه حد السيف، إذ لا علاج له إلا بالقوة، وصدق الله العظيم {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}(الأنفال: الآية 60).
وقد استمرت الحال على ذلك في بلاد التوحيد أئمة يدعون الناس إلى الهدى والرشاد، ويصححون عقائدهم، وحكام يساندونهم، ويدافعون عنهم بكل قوة، فحصل من الخير والفضل والأمن والأمان في هذه البلاد المباركة ما لا يعلم مداه إلا الله.
وحَّد الله أهلها بعد الفرقة، وأطعمهم بعد الجوع، وأمنهم بعد الخوف، وتحولت الدويلات الصغيرة الكثيرة المتناحرة في الجزيرة إلى دولة واحدة مترامية الأطراف مميزة في دينها ودنياها، وأصبحت هذه الدولة المباركة ـ المملكة العربية السعودية ـ مناراً للعلم والمعرفة ومقصداً لطالب الأمن والأمان ممن لا يجد ذلك في بلاده.
إن من الحقائق الثابتة التي لا تقبل الجدل أنه متى صحت العقيدة صلحت أعمال المسلمين لأن العقيدة الصحيحة تحمل المسلم على الأعمال الصالحة وتوجهه إلى الخير وتمنعه من الشر، فتكون أفعاله حميدة وأخلاقه حسنة وتعامله حسب الشرع المطهر أخذاً وعطاءً.
وهذه العقيدة الصحيحة هي التي بنى عليها أئمة الدعوة دعوتهم المتصلة بدعوة الأنبياء والرسل، سليمة من الأهواء والأوهام والانحراف، مبرأة من مظاهر الشرك وتبعات الغلو، وقد امتدت هذه الدعوة ولله الحمد إلى أصقاع كثيرة من العالم تنشر التوحيد النقي وتقدمه للناس بعد أن كدّر صفوه كثير من الشوائب في شتى ديار الإسلام.
وقد بارك الله في هذه الدعوة، وكان لها من الآثار الإيجابية ما الله به عليم، وقد قيّض الله لها آل سعود يحمونها ويذبون عنها، فاجتمعت القوة والحكمة والسلطان والعلم، وانتشرت بفضل الله الدعوة الصادقة الخالصة من شوائب الشرك والوثنية، وقامت إلى جانبها هذه الدولة المباركة التي أسس بناءها الحالي وبنى قواعدها الراسخة على هدى من الله ونور الباني المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود.
وكان من آثار هذه الدعوة والدولة التي قامت على شرع الله، وانطلقت من لا إله إلا الله محمد رسول الله، وارتضت التحاكم إلى شرع الله، ونبذت ما سواه.
كان من آثارها الايجابية ما يأتي:
أولاً: قضت هذه الدعوة بدولتها المباركة على ما كان شائعاً في بلادها من خرافات ومخالفات شرعية وأحيت مكانها معالم الشريعة ومظاهر عقيدة التوحيد الخالصة.
ثانياً: أعادت الذين انضموا تحت لوائها إلى الالتزام بشرع الله المطهر بعيداً عن شوائب الشرك والوثنية، كما ألزمتهم بتحكيم الكتاب والسنة والتحاكم إليها في كل الأمور.
ثالثاً : نشرت المذهب الحنبلي ـ مدرسة الأثرـ وهي المدرسة التي تعنى بالسنة وتستند عليها في أقوالها، ويكفي أن إمام هذا المذهب هو إمام أهل السنة في زمانه، ولا تزال هذه المدرسة ترتفع معالمها في المملكة العربية السعودية دون تعصب أو استخفاف بالآخرين، بل الرائد لأهلها الدليل الصحيح متى وجدوه، فهم أسعد الناس به ولله الحمد والمنة.
رابعاً : وحدت أتباعها بعد أن كانوا متفرقين لا تجمعهم رابطة ولا يجمعهم حكم شرعي، وقد وفقوا تمام التوفيق لاختيار المنطلق وهو ـ لا إله إلا الله محمد رسول الله ـ فخضع الجميع لها وأصبحوا تحت سلطانها يتحاكمون إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
خامساً: استتب الأمن ورفرفت أعلامه بعد أن كان النهب والسلب، وهكذا وفقت هذه البلاد المباركة وأصبحت مضرب المثل للقاصي والداني، والشاهد الحي على أن تطبيق الشرع المطهر يضمن الأمن والاستقرار ورغد العيش في كل مناحي الحياة، لقد بقيت دولة الكتاب والسنة والتوحيد الخالص دولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متميزة إذ بقيت المملكة العربية السعودية في العصر الحاضر شامة في جبين العالم تتمتع بالعدل والأمن والسلام فينتشر العلم فيها ويصل لكل مواطن ومقيم كما يصل إليه الماء والهواء دون عناء أو تعب أو خسارة مادية أو معنوية.
هذه الدولة برهنت للعالم أجمع أنه لا بديل عن حكم الله لمن أراد النجاة والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة.
إن كل حياة خلت من معرفة الله تعالى وخشيته ومراقبته والرغبة فيما عنده فهي خواء، وقد شعر بهذا أولئك الذين انغمسوا في ماديتهم وانسلخوا عن روحانيتهم، ولذا فأعمالهم هباء، وصدق الله العظيم {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}(الرعد: الآية 18)، وقال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً}(الفرقان: الآية 23).
إن الدين هو منبع كل الفضائل والحاجز الحصين عن كل الرذائل، ومتى فطر النشء على التدين أُمن شرهم ورجي خيرهم.
ألا ترى أن الإسلام حارب الجريمة قبل وقوعها ثم قضى عليها بعد وقوعها قضاءً يذهب أثرها ويقلل ضررها وسلك في ذلك كل المسالك المتاحة، وهذا ما تقوم به المملكة العربية السعودية في هذا العصر الذي بلغت فيه نسبة الجريمة أعلى معدلاتها في كثير من دول العالم في حين أنها في هذه البلاد المباركة تقل كثيراً ـ ولله الحمد ـ بسبب تطبيق العقوبات الرادعة حتى ولو كانت إزهاق النفس أو قطع أحد الأطراف ما دام في ذلك أمن المجتمع وسلامته واستقراره.
إن الحياة ـ كما حددتها النصوص الشرعية ـ هي للعبادة والعمل الصالح، وهذا مصدر السعادة والأمن والطمأنينة، وهذا ما يلمسه القاصي والداني في المجتمع السعودي الآمن.
والشقاء والتعاسة في الدنيا والآخرة بعدم الالتزام بشرع الله، وهذا ما يلمسه الناس اليوم في الفراغ النفسي والروحي الذي تعاني منه مجتمعات الحضارة على كل مستوياتها.
وأخيراً فقد جرّب كثير من الناس من أحقاب مختلفة من العصور الشرور والابتعاد عن الالتزام بأحكام الله فكانت النتيجة القلق واليأس والحرمان والشقاء والتعاسة، ولذا تعالت صيحات العقلاء هنا وهناك بأن تجرب هذه المجتمعات الإسلام الذي هو مصدر الأمان بإذن الله، وعنوان السعادة في الدنيا والآخرة، وشاهد الحال في المملكة العربية السعودية التي ارتبط قيامها بنهج الحكم الإسلامي وأصبح مضرب المثل لكل مجتمع يريد السعادة والأمن والطمأنينة.
أسأل الله أن يضفي على بلادنا ثوب الأمن والطمأنينة، وأن يزيدها عزاً واستقراراً، وأن يحفظها بالإسلام إلى يوم الدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المقال الخامس
وطني الغالي وقائده المحبوب
نشر في جريدة الرياض
عام 1432هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الطاعة لولاة الأمر واجباً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}(النساء: الآية 59)، والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى القائل: (مَن أطاعَنِي فقَدْ أطاعَ اللَّهَ، ومَن يَعْصِنِي فقَدْ عَصَى اللَّهَ، ومَن يُطِعِ الأمِيرَ فقَدْ أطاعَنِي، ومَن يَعْصِ الأمِيرَ فقَدْ عَصانِي) رواه البخاري (7137)، ومسلم (1835)، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإن المحبة والولاء بين القيادة والشعب أمر يدل على ثقافة المجتمع ووعيه ومسئوليته، ونحن في بلادنا الغالية يبادل الشعب مليكه حباً، ووفاءً، وولاءً من نوع خاص، لأن بلادنا قبلة المسلمين، ومهبط الوحي، ومنطلق الرسالة، وهي البلد الذي يحكم شرع الله، فلا غرابة أن يكون التلاحم والترابط على صورة ليس لها مثيل.
وخادم الحرمين الشريفين أعطى الكثير لشعبه، وبذل غاية ما يستطيع، وكان صريحاً وواضحاً، يقول، ويعمل، ويتابع، ولذا ملأ حبه قلوب شعبه، وعاشوا معه رحلته لحظة بلحظة، يلهجون بالدعاء، ويظهرون المشاعر الصادقة، وليس ذلك خاصاً بفئة من المجتمع دون فئة، بل الجميع الكبار والصغار، المتعلمون والعوام، الكل يدعو الله أن يحفظه من بين يديه ومن خلفه.
ولا زلت أذكر تلك المرأة العجوز التي اتصلت لتسأل عن شيء من أمر دينها ثم تختم مكالمتها بالدعاء لخادم الحرمين الشريفين، وتقول عبارة تدل على سلامة الفطرة، وعلى حبها لولي أمرها، وتذكر شيئاً من أسباب هذا الحب “نحمد الله ونشكره فنحن في بلد يحكم بشرع الله، ونأمن على أنفسنا وأموالنا، ونعبد الله بأمن وطمأنينة وسلام، والتقي الصالح مقرب محبوب لولي الأمر”.
بهذه العبارات ختمت المرأة العجوز مكالمتها، وكانت ألفاظها بالعامية لكنني أكبرت فيها هذا الحب، وقلت في نفسي إننا في بلادنا بخير وإلى خير ما دام هذا الحب الصادق بين الشعب وولاة أمره.
فنحمد الله ونشكره على هذه النعمة العظيمة ، ونسأل الله بمنه وكرمه أن يديم الصحة والعافية لخادم الحرمين الشريفين ، وأن يديم علينا وعلى أبناء هذا الوطن نعمة الأمن والأمان والسلامة في ظل تحكيم شرع الله المطهر، وأن يزيد بلادنا عزاً ومجداً وتقدماً وتلاحماً وتماسكاً، وأن يحفظها من كيد الكائدين، وعبث العابثين، وعدوان المعتدين، وأن يرد كيد الأعداء إلى نحورهم.
وسيري يا بلادي وعانقي السماء مجداً وفخراً فأنت بتحكيم الإسلام جديرة بقيادة العالم، وكلما زاد تمسكك بشرع الله زاد عزك وفخرك.
اللهم احفظ علينا ديننا، وأمننا، ورغد عيشنا، وزدنا وحدة وقوة وتماسكاً، وأمدنا بالصحة والعافية، واجمعنا بولاة أمرنا ووالدينا في جنات النعيم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المقال الخامس
توسعة الحرمين الشريفين
وآثارها على الحاج والمعتمر
نشر في جريدة الرياض
عام 1418هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كانت زيادة الحجاج المضطردة في الأعوام السابقة داعياً حثيثاً إلى اتخاذ إجراء حاسم لمواجهة هذه الزيادة، ولا شك أن سهولة المواصلات والوسائل المريحة التي تقدمها حكومة خادم الحرمين الشريفين يسرت على الحجاج أداء المناسك بسهولة وراحة.
وقد شكل خادم الحرمين الشريفين هيئة على أعلى المستويات لتتابع الإصلاحات والتوسعة التي أمر بها حفظه الله ولتتابع وتقدم كل ما ينبغي عمله لخدمة الحرمين الشريفين بالقدر الذي يتناسب مع مكانتهما في قلوب المسلمين، وقد بذلت هذه الهيئة كل جهدها في ذلك لتحقيق الغاية التي شكلت من أجلها حتى أن كثيراً من هذه الأمور يقوم خادم الحرمين الشريفين بمتابعتها بنفسه من وقت لآخر.
كما اهتمت هذه الهيئة بالبث الإعلامي من الحرمين الشريفين لنقل الصلاة منهما على الهواء مباشرة، وهذا له آثار كبيرة في نفوس المسلمين في كل مكان.
وتقدم هذه الهيئة كل عام المزيد من سبل الراحة لضيوف الرحمن مما يدعوهم للإسراع إلى أداء فريضة الحج، فالشوارع الفسيحة، والميادين الكثيرة، والمياه الوفيرة، والرعاية الصحية الفائقة، ووفرة ما يحتاج إليه الحجاج من المأكل والمشرب، ووجود الهدايا الثمينة التي يرغب فيها الوافدون إلى هذا البلد كل ذلك من الأسباب التي ضاعفت عدد الحجاج بشكل مضطرد، وإذا أضفنا إلى ذلك كله المتعة الروحية الغامرة التي يجدها كل حاج أثناء تأدية الفريضة والمثوبة العظيمة التي يتمناها الحاج من وراء القيام بها حيث يطمع كل امرئ منهم أن يعود من حجه كيوم ولدته أمه ليس عليه ذنب واحد، فيفتح صفحة جديدة مع خالقه ويجدد البيعة والعهد مع الله جل وعلا على الالتزام بصراطه المستقيم إلى أن يلقى الله.
وإذا كان هذا هو ما يجده الحاج من الراحة البدنية والمتعة الروحية والمثوبة الربانية، فذلك داع ولا شك إلى كثرة الحجاج وإقبال الناس القاصي منهم والداني على الاتجاه إلى هذه البلاد المقدسة ليؤدوا ركناً من أركان الإسلام فرضه الله عليهم في حال الاستطاعة.
وقد لاحظ هذا الوضع خادم الحرمين الشريفين، فأصدر أوامره الملكية الكريمة بتوسعة الحرمين الشريفين والتي تعد لؤلؤة فنية نادرة في عالم التشييد والعمران والتي حققت الراحة والاطمئنان النفسي لكل قادم إلى الحرمين الشريفين، وأصبح الحرم المكي والتوسعة مع المساحات المحيطة به يتسع لأكثر من مليون مصل.
وأصبح المسجد النبوي أيضاً مع المساحات المحيطة به يتسع لأكثر من مليون مصل في وقت الذروة.
وأصبحت ولله الحمد حركة المصلين ميسرة وسهلة في كلا الحرمين إلى جانب الخدمات والمرافق الجديدة التي تضاف في كل عام مما يسهل على الحجاج أداء المناسك في سهولة ويسر مما هو ملموس وواضح للجميع.
ومن المرافق الجديدة التي بنيت هذا العام مجمع دورات المياه بمنى بالقرب من جسر الجمرات مما عاد بفوائد عظيمة على الحجيج، وما تقوم به الهيئة كل عام من أعمال نظافة للحرمين وفرشها بأفخر أنواع الموكيت، وإدخال المكيفات ذات المستوى القوي والرفيع في معظم أنحاء الحرمين، وتوفير مياه زمزم في كل مكان في الحرمين، حتى أن الذي يصلي بالمسجد النبوي بالمدينة المنورة يحصل عليها بكل سهولة ويسر.
فبارك الله في جهود خادم الحرمين الشريفين وجعل كل ما يقوم به في ميزان حسناته، وجزاه الله عنا وعن الإسلام والمسلمين والمقدسات خير الجزاء، وأجزل له العطاء وأحسن مثوبته في الدنيا والآخرة، ووفق ولي عهده الأمين وسائر إخوانه وأعوانه لما فيه خير البلاد والعباد إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المقال السادس
المسجد النبوي في العهد الزاهر
نشر في جريدة الرياض
عام 1417هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}(النور: الآية 36)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم :(مَنْ بَنَى مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ) رواه البخاري (450)، ومسلم (533).
ولقد اهتم الإسلام بالمساجد اهتماماً عظيماً لأنها المحاضن التي تترعرع فيها المبادئ الإسلامية والآداب الشرعية والأخلاق الكريمة.
والمساجد بيوت الله في الأرض والجالسون فيها المسبحون الراكعون الساجدون ضيوفه.
والمسجد النبوي الشريف هو المسجد الثاني في الإسلام في الفضل، وفي المنزلة عند الله، وفي الأجر للمصلين، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ) رواه البخاري ( 1133)، ومسلم (1394).
ولم يزل هذا المسجد منذ أسس على التقوى من أول يوم منهلاً عذباً ومصدراً ثراً للهدى والرشاد تهفو إليه قلوب المسلمين وتتجه إليه أفئدتهم وتتسابق إليه رحالهم، فشد الرحل إليه عبادة وقربة إلى الله، يهفون للصلاة فيه، يتنافسون لأداء الركعات في الروضة الشريفة، ويسلمون على الحبيب المصطفى يتذكرون في مجيئهم وعودتهم وتنقلاتهم هنا وهناك غدوات وروحات الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وكفى بتلك الردهات والعرصات والجلسات تذكرة وعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وقد حدثني من أثق به من نزلاء المدينة قال: والله ما صليت في المسجد النبوي إلا وبكيت لأني أتذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس ويعظهم ويتحدث إليهم.
ولقد مرَّ هذا المسجد المبارك بأطوار تستحق الوقوف عندها طويلاً وتسجيل وقائعها لأنها تمثل تاريخاً لهذا المسجد العظيم الذي وضع أساسه خاتم الأنبياء، وكثير من الناس يجهل هذه الأطوار ولا يدري عنها شيئاً.
أخي القارئ: لقد تشرفت بزيارة لهذا المسجد، وشاهدت ما يسر الخاطر ويثلج الصدر.
شاهدت التوسعة العظيمة في العهد السعودي الزاهر التي تشهد ـ من خلال ما بذل من أموال وجهد ووقت ـ على حرص ولاة أمرنا ـ وفقهم الله ـ على الحرمين الشريفين، ورعايتهما والقيام بحقوقهما خير قيام.
لقد شاهدت مساحات واسعة تجعل الداخل للمسجد النبوي والخارج منه لا يمس بالجهد والعناء عكس ما كان عليه الحال قبل سنوات عديدة.
وشاهدت دورات المياه التي يفوق عددها على ألف دورة، والمواضئ التي تزيد على ثلاثة آلاف بمعنى أنه يتوضأ في وقت واحد أكثر من أربعة آلاف رجل وامرأة.
وشاهدت مواقف السيارات التي تزيد على أربعة آلاف موقف مرتبة على طريقة رائعة لا تعرقل السيارات ولا تحصل بها اختناقات مرورية إطلاقاً، إذ يفصل بين كل مجموعة منها ممرات ومسارات محددة بحيث يستطيع الشخص الذي يوقف سيارته فيها أن يصعد لفناء المسجد الذي يبعد عن الموقف خمسين متراً فقط، ويستوي في هذه المواقف أبعد نقطة وأقرب نقطة، وهذا نموذج فريد في تصميم هذه المواقف يذكر فيشكر للمشرفين على هذا المشروع العملاق، واطلعت على التكييف ذلك المشروع العملاق الذي لا مثيل له إطلاقاً حيث يجلب للمسجد من مسافة سبعة كيلو مترات على مستوى من التقنية والدقة لا يضاهى، والغريب العجيب أنه يعمل أوتوماتيكياً ويعمل يدوياً وفيه احتياطات دقيقة بحيث لو تعطل جهاز عمل الآخر تلقائياً مثل المولدات الكهربائية.
ونحن نعلم يقيناً أن الذي وراء هذا الإنجاز الكبير راعي نهضة هذه البلاد وقائد مسيرتها خادم الحرمين الشريفين، فهو الذي أمر بذلك في إحدى زياراته للمسجد النبوي، وقال لا بد أن يتم تكييفه، فعملت اللجان المختصة ليل نهار حتى تحقق هذا المشروع العظيم في زمن قياسي تحت إشراف ومتابعة صاحب السمو الملكي أمير منطقة المدينة المنورة عبد المجيد بن عبد العزيز آل سعود.
أخي القارئ: كم يسعد المسلم وهو يصلي في المسجد النبوي ويتمتع بهذه الإنجازات الكبيرة لكنه لا يحس، بل لا يعرف ماذا بذل فيها من الوقت والجهد والمال.
وأقول بحق إن ما يلمسه المصلون من مظاهر في المسجد النبوي لا يمثل إلا الربع، وأما ثلاثة أرباع الجهود والتجهيزات فهي غير ملموسة لهم، ولا يعرفها إلا من يتيسر له الاطلاع عليها، وهي تمثل إحدى المشاريع الحضارية العملاقة في بلادنا.
نسأل الله أن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وأن يجزي خادم الحرمين الشريفين الجزاء الأوفى عما يقدمه للحرمين الشريفين من بذل سخي لراحة الحجاج والمعتمرين والزائرين.
اللهم احفظ بلادنا ومقدساتنا وولاة أمرنا من كل سوء ومكروه، وأدام علينا نعمة الأمن والاستقرار. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المقال السابع
اجتماع الكلمة ومفهوم الأمة
نشر في مجلة الدعوة
عام 1433هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الله جل وعلا هو الأحد الفرد الصمد، الخالق لكل شيء، وهو رب كل شيء، وعلى كل شيء قدير، أرسل الرسل للخلق لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وجعل خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم الذي جاء بكتاب مبين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يقبل التحريف ولا التبديل، وقد جعل الله شعار المؤمنين ورابطتهم والصلة بينهم أخوتهم الإسلامية المنطلقة من (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
ولقد أدرك سلف الأمة ـ رضوان الله عليهم ـ معنى وحدة الأمة، فكانوا كالجسد الواحد تحطمت على وحدتهم ورابطتهم كل الغزوات والمؤامرات، وهذه الرابطة بينهم منحت للفرد مقياساً للحياة أرفع من مقياس العصبية والقومية، وحررت النفوس من فكرة الحدود الوراثية والجغرافية، فترى الاتصال بينهم على أساس العقيدة الإسلامية الثابتة.
فإذا افتخر جيل أو قوم أو جنس أو أهل بلد بما يجمعهم من روابط السكن، وروابط الولادة، أو القوم، أو العشيرة، أو الظروف المعيشية الواحدة، فإن أمة الإسلام توحد بين أفرادها (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، صلة الفرد بخالقه، وصلته برسوله صلى الله عليه وسلم، وصلته بإخوانه، على هدي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة لا يؤمن أحدهم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
إنها الدعوة العالية، لا فرق فيها بين صغير وكبير، ولا بين أحمر ولا أسود، ولا عربي ولا عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح،{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات: الآية 13).
هذه الأمة تخص ربها بالعبادة ولا تفرق بين أحد من رسله {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}(الأنبياء: الآية 94).
إن من خير ما رسمه ديننا الإسلامي الحنيف من أهداف وأمر به، وأكد عليه، وحاسب على تركه والتهاون به هو اجتماع الكلمة، وترابط المسلمين، وتساندهم للعمل جميعاً في صالح الجماعة المؤمنة ورفعة لشأنها، واستدامة لعزها ومجدها، وصدق الله العظيم القائل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا..}(آل عمران: الآية 103)، وقال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: الآية 105).
فالاعتصام بحبل الله، وعدم التنازع والفرقة، هو الحجر الأساسي في بناء صرح الأمة، يقول ابن مسعود رضي الله عنه في هذا السياق، ” يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به, وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تستحبون في الفرقة” تفسير الطبري (4/22)، والشريعة للآجري (1/299).
والمتأمل في شعائر الإسلام وشرائعه يجد الدليل العملي على ضرورة التزام الجماعة في كل أمر ذي بال.
لقد شرع الله الاجتماع في معظم العبادات، وهو عنوان صلاح الناس، فالصلوات الخمس، والجمعة، والعيدان، والصوم، خصَّه الله في شهر واحد في وقت معين ليصوم الناس في نفس هذا الوقت فتظهر به وحدة الأمة وترابطها.
وهكذا الحج يجتمع فيه المسلمون ممن كتب الله لهم هذه الفريضة من سائر أقطار الأرض في مظهر واحد، لا فوارق ولا ميزات، ولا مظاهر؛ الشعار والميزان والتفاضل كل ذلك بالتقوى.
وهذا واضح جداً من معنى الحديث (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ـ وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ) رواه البخاري (481)، ومسلم (2585)، فالبنيان المتماسك القوي هو الذي تكون أجزاؤه قوية سليمة، أما إذا كانت الأجزاء تالفة تنخر فيها الأكلة فهنا يدب بها الفساد، ولا تلبث أن تنهار لأنها معرضة دائماً لهبوب الرياح.
وهكذا صرح الجماعة المسلمة، ما دام الترابط بينهم والتماسك شعارهم فستكون لهم العزة والغلبة، وأما إذا تفرقوا وتخاذلوا، وأكل بعضهم بعضاً، فالويل لهم من أنفسهم وأعدائهم {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(الأنفال: الآية 46).
فاحذروا من تفرق الكلمة على كل المستويات، فعلى مستوى الأمة يلحظ المسلم الاختلاف الكبير، والتفرق العظيم في صفوف أمة الإسلام، وهي لم تواجه عدواً أشرس مما تواجهه اليوم، وإن عدتها وقوتها ـ بعد توفيق الله ـ هو اجتماع الكلمة؛ وتوحيد الصف وعلى مستوى الفتوى ووضوح الرؤية في كل القضايا المستجدة على الساحة تظهر آثار الاختلاف المبني على الانتصار للرأي، والعاطفة؛ بل أحياناً الهوى!.
والواجب الحذر في هذا الباب، وألا يصدر من الإنسان شيء إلا بعد التثبت والتحري؛ لأن آثار ذلك على الشباب كبيرة جداً.
وعلى مستوى الأسر والعوائل نجد الكثير من الاختلاف على أمور حقيرة، لكن شياطين الإنس ينشطون في هذه المستنقعات فيعمقون الخلاف بين أفراد الأسرة الواحدة، حتى تصل الأمور إلى طريق مسدود، وهكذا على مستوى البيت الواحد والمدرسة والدائرة، وقل مثل ذلك في كل موقع يوجد فيه اختلاف وفرقة.
والمخرج ـ بإذن الله ـ هو سلامة الصدر، والتنازل عن بعض الأمور، واتهام النفس، ومحبة الآخرين، والحرص على إيصالهم حقوقهم، والدعاء لهم ظاهراً وباطناً، وتناسي الأخطاء؛ لأنها لا تساوي شيئاً في بحر حسنات أخيك المسلم.
أسأل الله أن يوفقنا لاجتماع الكلمة، وأن يزيدنا من الهدى والتقى والرشاد.
وختاماً:
أسأل الله تعالى أن يوفق ولاة أمرنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن ينصر بهم دينه، ويعلي بهم كلمته، وأن يوفق شبابنا إلى الطريق المستقيم، وأن يحميهم عن مواطن الزلل والانحراف، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فهرس الكتاب
م | الموضوع | الصفحة |
1 | مقدمة الكتاب. | |
أولاً: الأبحاث: | ||
2 | بحث بعنوان: (المواطنة الصالحة وأثرها على الفرد والمجتمع والأمة). | |
3 | المقدمة. | |
4 | التمهيد: التأصيل الشرعي لمفهوم المواطنة وما يتعلق به من مصطلحات أخرى، ويشتمل على سبعة مطالب. | |
5 | المطلب الأول: تعريف المواطنة. | |
6 | المطلب الثاني: المواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية. | |
7 | المطلب الثالث: عناصر المواطنة: | |
8 | المطلب الرابع: الفرق بين المواطنة والإخوة: | |
9 | المطلب الخامس: مفهوم المواطنة لدى المسلمين. | |
10 | المطلب السادس: مفهوم المواطنة لدى غير المسلمين. | |
11 | المبحث الثاني: الوطنية في ضوء تعاليم الإسلام، ويشتمل على خمسة مطالب. | |
12 | المطلب الأول: الكيان الوطني ودعائمه. | |
13 | المطلب الثاني: حدود الوطنية. | |
14 | المطلب الثالث: وطنية الإسلام لا تتعارض مع الانتماء إلى أمة الإسلام. | |
15 | المطلب الرابع: علامات حب الوطن من واقع تعاليم الإسلام: | |
16 | المبحث الثالث: أهمية المواطنة الصالحة وأثرها على الفرد والمجتمع والأمة، ويشتمل على خمسة مطالب: | |
17 | المطلب الأول: أهمية المواطنة الصالحة وضرورتها في بناء الأمة. | |
18 | المطلب الثاني: التمسك بأخلاق الإسلام دليل على المواطنة الصالحة. | |
19 | المطلب الثالث: أهمية المواطنة الصالحة وأثرها على الفرد. | |
20 | المطلب الرابع: أهمية المواطنة الصالحة وأثرها على المجتمع. | |
21 | المطلب الخامس: أهمية المواطنة الصالحة وأثرها على الأمة. | |
22 | المبحث الرابع: شبهات حول مفهوم المواطنة والرد عليها. | |
23 | أولاً: أن مفهوم المواطنة ما كان موجوداً في الزمن الماضي: | |
24 | ثانياً: الحدود الجغرافية الموضوعة بين الدول الإسلامية والعربية: | |
25 | ثالثاً: الحمية الوطنية للدفاع عن كرامة الوطن إذا أساء إليها أحد: | |
26 | رابعاً: محبة الوطن: | |
27 | خامساً: الخدمة الوطنية: | |
28 | سادساً: الأنظمة الموضوعة لحفظ نظام الوطن: | |
29 | الخاتمة. | |
30 | المصادر والمراجع: | |
31 | ثانياً: المقالات: | |
32 | المقال الأول: المسجد وأثره في تنمية المواطنة الصالحة . | |
33 | المقال الثاني: بلاد الحرمين الشريفين ونعمة الأمن. | |
34 | المقال الثالث: بلاد الحرمين واحة الأمن ودوحة السلام. | |
35 | المقال الرابع: كل ذي نعمة محسود. | |
36 | المقال الخامس: الارتباط بين قيام المملكة ونهج الحكم الإسلامي. | |
37 | المقال السادس: وطني الغالي وقائده المحبوب. | |
38 | المقال السابع: توسعة الحرمين الشريفين وآثارها على الحاج والمعتمر. | |
39 | المقال الثامن: المسجد النبوي في العهد الزاهر. | |
40 | المقال التاسع: اجتماع الكلمة ومفهوم الأمة. | |
41 | فهرس الموضوعات. |
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([2]) رواه الترمذي (3629)، واللفظ له، والبزار (4690)، وابن حبان (3709).
([4]) مفهوم المواطنة في الدولة القومية. على الكواري، مجلة المستقبل العربي، العدد: 2 – 2001، ص 66.
([5]) د. فهمي الهويدي، مقال المواطنة في الإسلام، جريدة الشرق الأوسط، العدد: 5902، ص(13).
([6]) سيأتي بيانها – إن شاء الله – في المطلب السادس.
([8]) سورة آل عمران: الآية 103.
([9]) رواه البخاري (5665)، ومسلم (2586).
([10]) سورة الحجرات: الآية 10.
([11]) انظر: التلخيص الحبير لابن حجر (4/37)، والسنن الكبرى للبيهقي (8/105)، وسيرة ابن هشام (1/501 ـ 504)، ومجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، محمد حميدالله، ص15 وما بعدها.
([12]) سورة آل عمران: الآية 31.
([13]) رواه البخاري (16)، ومسلم (43).
([14]) سورة الحجرات: الآية 13.
([16]) تفسير ابن كثير (2/709).
([17]) التفسير القرآني للقرآن، د. عبد الكريم الخطيب (1/284).
([19]) سورة النساء: الآية 58 .
([22]) رواه أحمد (23489)، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (2700).
([24]) سورة الأنعام: 162، 163.
([25]) انظر: التربية الوطنية، العناقرة وآخرون، ص(20).
([26]) المواطنة، إبراهيم ناصر القصبي، ص (232 ـ 235).
([27]) المواطنة، إبراهيم ناصر القصبي، ص(239- 242).
([28]) رواه الترمذي (2507)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (2507).
([29]) رواه ابن ماجه (4032)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه برقم (4032).
([30]) سورة آل عمران: الآية 133، 134.
([32]) رواه الترمذي (2018)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2201).
([34]) سورة الأنفال: الآية 27.
([35]) سورة المؤمنون: الآية 8.
([36]) رواه أحمد (12567)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (13135).
([38]) سورة الإسراء: الآية 34 .
([39]) سورة التوبة: الآية 119.
([40]) رواه البخاري (6094)، ومسلم (2607).
([42]) رواه البخاري (629)، ومسلم (2427).
([44]) سورة الحجرات: الآية 10.
([47]) رواه البخاري (2314)، ومسلم (6750).
([48]) رواه البخاري (4622)، ومسلم (2584).
([50]) رواه الترمذي (3926)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5536).