خطبة بعنوان: (الشتاء دروس وعبر) بتاريخ 25-3-1436هـ

الثلاثاء 7 جمادى الآخرة 1440هـ 12-2-2019م

 

 

الخطبة الأولى :

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون: واعلموا أن تقواه طريق النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102).
عباد الله: لقد امتن الله جل وعلا على عباده بنعم لا تعد ولا تحصى، وجعل هذه النعم عوناً لهم على طاعته، ووصولاً إلى مرضاته وجنته، وأوجب عليهم سبحانه أن يشكروه على هذه النعم كي تستمر وتزداد لهم. ومن ذلك دخول فصل الشتاء، الذي تهب فيه الرياح الطيبة، وتتراكم فيه السحب، ويظهر البرق، ويُسمع الرعد، وتهطل الأمطار، ويهب الهواء البارد العليل على أرجاء الأرض، فتفرح بهذا الماء، وتخرج من خيراتها وثمارها ما يحيا به الخلق ويسعدون.
وكل ذلك يدعو الخلق أن يتفكروا ويعتبروا، ويعلموا أن الله جل وعلا هو المدبر والمصرف لأمور هذا الكون، وأن له جل جلاله الحكمة البالغة، والقدرة النافذة.
أيها المؤمنون: إن فصل الشتاء آية من آيات الله جل وعلا تدل على عظيم قدرته وسلطانه، وأنه سبحانه المدبر لهذا الكون، المصرف له كيف شاء، وحينما يدخل فصل الشتاء يتغير كل شيء، فالسماء يتراكم فيها السحاب، وتكسوها الغيوم، وتغيب فيها الشمس، ويصدر منها الرعد والبرق، وينزل منها المطر، وأما الأرض فهي تنتظر ما يأتيها من غيث الله تعالى، فإذا أنزل الله جل وعلا عليها الماء، جرت فيها الأنهار، وانفجرت منها العيون، وسال الماء في كل نواحي الأرض، فاهتزت وربت، وأخرجت من زرعها وثمارها ما يبهج الأنفس، ويريح الصدور ، فما أعظم خلق الله جل وعلا، ففي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد.
قال جل وعلا:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}(الروم:25)، وقال سبحانه:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(البقرة: 164).
وإذا نظرنا إلى آيات الله تعالى في فصل الشتاء قوى يقيننا، وازداد إيماننا، واطمأنت قلوبنا بموعود الله تعالى، قال تعالى:{إِنَّ فِي السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مَّن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ آيَاتٌ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(الجاثية: 3 ــ 5).
ومن الآيات التي أرانا الله تعالى في فصل الشتاء لنعتبر ونتعظ:
1ـ تراكم السحاب، واشتداد الرياح، وكثرة الغيم، وظهور البرق، وسماع صوت الرعد، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ }(النور: 43، 44). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبلت يهودُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، نسألك عن أشياء إن أجبتنا فيها، اتبعناك وصدَّقناك، وآمنَّا بك، قال فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على نفسه، قالوا: الله على ما نقول وكيل، فسألوه أسئلة، وقالوا في جملة أسئلتهم أخبرنا عن الرعد ما هو قال:(الرعد ملك من الملائكة مَوْكولٌ بالسحاب بيديه، أو في يده مخراقٌ من نار يزجر به السحاب، والصوت الذي يسمع منه زجره السحاب، إذا زجره حتى ينتهيَ إلى حيث أمره الله)، قالوا: صدقتَ)(رواه أحمد والترمذي).
2ـ نزول الماء من السماء بقدرته، فهو آية ونعمة، بل هو أصل الحياة والأحياء، وجميع المخلوقات لا يستطيعون العيش دونه، قال جل وعلا:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}(الأنبياء:30)، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا}(الفرقان: 48، 49)، وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ }(الواقعة:69).
يقول ابن القيم رحمه الله مُظْهِرَاً حسن تدبير الله في ذلك، وهو يتحدث عن نزول المطر من السحاب على الأرض: “فيرشُ السحاب على الأرض رَشَّاً، ويرسله قطراتٍ منفصلةً، لا تختلط قطرة منها بأخرى، ولا يتقدم متأخِّرُها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رُسم لَها لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة، قد عُينت كل قطرة منها لجزء من الأرض لا تتعداه إلى غيره، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرة واحدة أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه”.
ثم قال رحمه الله: “فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقاً للعباد والدواب والطير والذر والنمل؟ يسوقه رزقاً للحيوان الفلاني، في الأرض الفلانية، بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا”انتهى كلامه رحمه الله.
3ـ اشتداد البرد، وهو آية عجيبة من آياته جل وعلا؛ وهو جند من جنوده يسلطه على من شاء من خلقه، وهو يتفاوت في قوته، ويختلف في درجاته وحدته، فبعض الدول يصيبها البرد حتى تصل فيها درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر، وهناك ما هو أقل من ذلك، وأشد ما تجدون من البرد إنما هو ناتج عن نفس من أنفاس النار والعياذ بالله، قال صلى الله عليه وسلم:(اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعضاً، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ) (رواه البخاري ومسلم)، والمراد بالزمهرير شدة البرد.
عباد الله: إن قصر النهار، وطول الليل فى الشتاء، نعمتان عظيمتان علم قيمتهما السلف الصالح رحمهم الله، فقصر النهار يعين على الإكثار من الصيام، وطول الليل، يعين على قيام الليل، وهما من الأعمال العظيمة التي يترتب عليها الأجر الكبير.
روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (الشتاء غنيمة العابدين ).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: (مرحباً بالشتاء تتنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام).
وعن الحسن رحمه الله قال:(نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه ).
فعلينا أن نجدّ في الطلب، وأن نستغل ليال الشتاء في الإكثار من الصيام والقيام والصدقة، فالأيام تمر والعمر يمضي، ولا يجد أحدنا عند لقاء الله تعالى إلا ما قدم.
بسم الله الرحمن الرحيم:
{لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} (قريش).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أنكم بين يديه موقوفون، ويوم العرض عليه محاسبون، فاعملوا لهذا اليوم قبل أن تلقوه.
عباد الله: لقد اعتدنا وألفنا في بداية كل شتاء أن نتقي برده بارتداء الملابس الشتوية الثقيلة، وتشغيل أجهزة التدفئة، وإغلاق منافذ الهواء البارد عن البيوت، فنبيت دافئين مطمئنين على أنفسنا وأهلينا، ويمر بنا موسم الشتاء بلا كدر أو مرض، وهذه من نعم الله تعالى التي أنعم بها علينا والتي لا يشعر بها إلا من ذاق لسع البرد وسهر الليالي من شدة الصقيع والجوع، فهل تذكرنا هذه النعمة و الله جل وعلايقول:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } (النحل: 80، 81).
إن هذا الفصل الذي نعيشه ونشعر فيه بالبرودة يعيشه معنا إخوة لنا آخرون ممن يستقبلون قبلتنا، ويصلون صلاتنا، وخاصة في بلاد الشام فهم لا يجدون ما يحميهم من برودة الشتاء أو يحفظهم من قسوة الصقيع، أجسامهم شبه عارية، وأقدامهم حافية، فراشهم الغبراء ولحافهم السماء، منهم من هُدمت داره، وفرّق عياله، الخوف والوجل يحوطهم، والعدو يتربص بهم.
فهؤلاء قد خرجوا من بلادهم ويعيشون في مخيمات لا تكفي حاجتهم من الدفء وتحصيل الغذاء الكافي، فلابد أن نشعر بهم، وأن نقف معهم، وأن نلبي حاجتهم، وأن نبذل وسعنا في قضاء حوائجهم، ونحن ولله الحمد والمنة أبواب الخير عندنا مشرعة على مصراعيها، فالمؤسسات الخيرية في بلادنا ــ حرسها الله ــ تجمع الملابس والبطانيات والتمور والأدوية والطعام والشراب وترسلها إليهم لتخفف عنهم وطأة الأعداء وقسوة الشتاء.أيها الإخوه أليس من هؤلاء اللاجئين من أحرق الكتب ليتدفأ بهاوقد أفنى عمره بجمعها ويغليها كما يغلى أولاده لكن البرد القارس اضطره لإحراقها ألسنا فى وقت مضى نحضر من الشام الملابس التى نتدفأ بها ومنها المشالح الشتوية واليوم هم بأمس الحاجة إليها ليتدفؤ ا بها إن من تمام شكر النعمة بذل الصدقات لهم لعل الله أن يرحمنا ويدفع عنا الشر بسبب ذلك .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له قال: فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)(رواه البخاري ومسلم).
فلا تحقروا من المعروف شيئاً، وقفوا مع إخوانكم بالدعاء والبذل والعطاء، عسى الله تعالى أن يتقبل منكم، وأن يكشف الهم والغم والكرب عنا وعنهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).

الجمعة: 25 / 3 / 1436هـ