خطبة بعنوان: (شكر نعمة الله على بلادنا) بتاريخ 17-4-1436هـ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، القائل عنه ربه في كتابه { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ}، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال جل وعلا:{ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ..}(النساء: الآية 131).
عباد الله: إن توفيق العبد وفلاحه دائرٌ في قوة تمسكه بتقوى الله، وشُكرهُ لنعمِ ربه مدارُه التسديد والهدى، فمتى فرط العبدُ في تقواهُ لله خسر التوفيقَ والفلاحَ، ومتى غفل عن نعم ربه التي أسبغها عليه استقلها ثم جحدها وكفرها، فيكِله الله إليها فتكون سبباً في هلاكه، أو يُبدله ربه جلَّ وعلا بضدها فتكون سبباً في عذابه.
والمؤمنُ في هذهِ الدُنيا يتقلبُ بين الصبر والشكر، صبرٌ على المصائبِ والمحن، وشُكرٌ على العطاءِ والمنن، قال جل وعلا:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }(سورة إبراهيم: 7)، وقال صلى الله عليه وسلم:(عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)(رواه مسلم).
ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه شكراً لربه على آلائه ونعمه، فعن المغيرة رضي الله عنه قال:(قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) (متفق عليه). وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم:(رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مِطْوَاعًا، لَكَ مُخْبِتًا، إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا)(رواه أحمد، والترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه).
وقد جعل الله جلَّ وعلا الشكر غاية خلقه وأمره، ومن لوازم الإيمان به، فمن أسمائه الشاكر والشكور، قال تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}، وقال: (وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ).
وقد أمر جل وعلا عباده أن يشكروه، ونهى أن يكفروه، قال تعالى:{وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ}(البقرة: 152)، وقال:{وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}(البقرة: 172)، وأثنى جل وعلا على الشاكرين، ووعدهم بأحسن الجزاء، قال تعالى:{وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(آل عمران: الآية 144)، وجعل سبحانه الشكر حارساً وحافظاً لنعمته، وسبباً لمزيد من عطائه ومننه، قال تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7)، وجعل سبحانه أهل الشكر قليلين، فقال تعالى عنهم: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(سبأ: الآية 13)، وقال عن نوح عليه الصلاة والسلام: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}(الإسراء: الآية 3).
والشكر: هو المجازاة على الإحسان بالثناء على المحسن، وحقيقته: اعتراف المؤمن بحصول النعمة من المنعم، وإقراره بلسانه ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه شهوداً ومحبةً، وعلى جوارحه انقياداً وطاعة.
فالعبد يجب عليه أن يشهد بقلبه بنسبة النعمة للمنعم مع المحبة والخضوع له، قال تعالى {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}(النحل: الآية 53)، وأن يثني على الله بلسانه، وينسب الفضل له وحده، ويتبرأ من حوله وقوته،قال تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى: الآية 11)، وأن يستعمل تلك النعمة ويسخرها في طاعة ربه ولا يستعملها فيما يسخطه، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(سبأ: الآية 13).
عباد الله: ومن أسباب تقصير العبد في شكر المنعم: غفلتُه عن إدراك النعم التي أسبغها عليه، وغُرورُه وإعجابُه بقدراته وشخصيته ووجاهته ومنصبه وغناه، والأخطرُ من ذلك أن ينظر إلى من فضَّله الله عليه في الدنيا فيزدري نعمة الله عليه، ويشغل قلبه بالطمع بما في أيدي الناس عن القيام بشكر الله، وهذا هو حال بعض الناس اليوم، ولذلك نهانا رسُولنا صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله)(رواه مسلم).
وقد أدرك سلفنا الصالح فضل الشكر وحقيقته ومنزلته: وكانوا أحرص الناس على شكر نعم الله وفضله عليهم، وكان ذلك ديدنهم في سائر أحوالهم.
قال مطرف بن عبد الله: (لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أبتلى فأصبر).
وقال الحسن البصري: (إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابا). وقال عمر بن عبد العزيز: (تذاكروا النعم فإن ذكرها شكر).
عباد الله: ومن أعظم ما يعين على شكر الله جل وعلا ما يلي:
أولاً: استحضار كمالِ قدرةِ اللهِ وغناهِ المطلق، وكمالِ رَحمتهِ ولُطفهِ، وكَمالِ حِلمهِ وسِتره، وأنه تعالى يتفضل على عباده بنعمه، ويدفع عنهم النقم، ويجود عليهم بعطائه وكرمه، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ }(النحل: الآية 53)، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.. }(لقمان: الآية 20).
ثانياً: التفكر في كثرة النعم التي أسبغها الله تعالى من أمن، وإيمان، وسلامة في الأبدان والأهل والأولاد والأموال، وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى، وصدق الله العظيم: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(النحل: الآية ).
ثالثاً: تفكر العباد في أنهم لا يستطيعون أن يعبدوا ربهم حق عبادته، وأنهم لا يقومون بحقوقهِ لضعفهم وعجزهم وغفلتهم وجهلهم؛ فيجتهدون في تحقيق الشُكر على حَسَب طاقتهم ووسعهم.
رابعاً: التأمل في عظيم جزاء من شكر في الآخرة، وثوابه العاجل في الدنيا، وصدق الله العظيم:{وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}(لقمان: الآية ).
خامساً: الحرص على الدعاء، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع معاذ حينما قال له: (والله يا معاذ إني لأحبك فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)(رواه أحمد، وأبي داود، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني)، ويستحب أن يقال هذا الدعاء في دبر كل صلاة، وفي السجود، وفي جميع أحواله.
سادساً: النظر إلى أحوال الفقراء والمساكين وما أصابهم من الفقر والحاجة، وينظر إلى أصحاب العاهات والمصائب، وما حل بهم من أمراض وابتلاءات، فيدرك عظيم نعمة الله عليه، فيحدث ذلك انكساراً وتواضعاً لله، وشكراً له على كثير نعمه.
وصدق الله العظيم:{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }(إبراهيم: الآية 7).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون: واعلموا أن ما نعيش فيه ـ في بلادنا ـ من أمنٍ، وأمانٍ، وسلامةٍ، وعافيةٍ في الأنفسِ والأهلِ والأولاد، وصحةٍ في الأبدانِ، وتطبيقِ شريعةِ الله، وتحكيمها في جميع شؤون حياتنا، واستقرارِ الأوطان، ووحدةِ الكلمة، واجتماعِ الصف، ورحمةَ الراعي برعيته، والتفافِ الرعية حول الراعي، ورغدِ العيش، والسكينةِ والاطمئنان، وغير ذلك من نعم الله علينا، كل ذلك فضلٍ ومنَّة منه جل وعلا، وهو وحده المتفضل بها علينا، فنحمده سبحانه على ما أولانا من هذه النعم، ونشكره سبحانه على ما أفاض به علينا من جزيل الفضل والإحسان.
ولعل أقرب مثال ما حدث في الأيام الماضية من انتقال السلطة في بلادنا من حاكم إلى آخر بيسر وسهولة، وهذه والله نعمة عظيمة تستوجب الشكر، وهو سبب عظيم لثبوت النعم وزيادتها: قال تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}(إبراهيم: الآية7).
وقال عمر بن عبد العزيز: (قيدوا نعم الله بشكر الله).
فكلما شكرنا الله جل وعلا على نعمه وعطائه زادنا من هذه النعم، وبارك لنا فيها، وحفظها علينا، وأحدث لنا نعماً أخرى حسية ومعنوية، فهو سبحانه المتفضل على خلقه بجوده وإنعامه.
وأما كفر النعم وجحودها فهو سبب عظيم لزوالها: قال تعالى:{وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(إبراهيم: الآية 7). وكم زالت النعم وذهب الأمن، وحل الهلاك والخوف والجوع، ووقع التفرق والتشرذم، وسقطت الدول، وتسلط الأعداء على أقوام لما كفروا بنعم الله تعالى، وتركوا دينه، وأظهروا الفواحش والمنكرات، واحتكموا إلى غير شرع الله، وأمنوا مكر الله وفرحوا بالحياة الدنيا وزينتها، وانشغلوا بها عن الآخرة.
أسأل الله تعالى أن يديم علينا نعمه، وأن يرزقنا شكرها، وأن يعيننا على ما يرضيه عنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
الجمعة: 17-4-1436هـ