47 – فتح الودود بشرح منظومة ابن أبي داود رحمه الله
47 – فتح الودود بشرح منظومة ابن أبي داود رحمه الله pdf
فتح الودود
بشرح منظومة ابن أبي داود
تأليف
أ.د/ عبدالله بن محمد أحمد الطيار
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فحصل به المقصود وتحقق الموعود فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حق الجهاد، وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد:
إن من أعظم المنن التي منَّ الله بها على أمة الإسلام أن حفظ لها قرآنها الذي تستمد منه عقيدتها، وعبادتها، وأخلاقها، وكل ما تحتاج إليه في دينها ودنياها.
ومن عظيم فضله وكرمه أيضاً أن حفظ لهذه الأمة سنة نبيها صلى الله عليه وسلم فسخر لها من يحفظها من أصحابه _ رضوان الله عليهم _ فحفظوا لنا سنته، ثم قام من بعدهم التابعون لهم بإحسان فحفظوها في صدورهم، وعلموها من بعدهم حتى أتت إلينا نقية خالية من الزيادة والنقصان.
لكن لما كانت السُنة غير القرآن في الحفظ من الزيادة والنقصان قام من قام من أهل الزيغ والانحراف فزادوا فيها ما ليس منها ترويجاً لبدعهم وانحرافهم، لكن هيهات هيهات أن يتحقق لهم مقصودهم فقد سخر الله _ تعالى _ أهل المعرفة بالحديث ليظهروا ما عليه أهل الزيغ والتدليس فبينوا للناس خططهم وعرفوا للناس مقاصدهم الخبيثة _ فلله الحمد والمنة _ فسلك الأعداء طريقاً آخر للإفساد على الناس، فلم يهدأ لهؤلاء الأعداء بال حتى قاموا بتشكيك الناس في عقيدتهم، فألفوا الكتب، وانطلقوا في الآفاق يدعون الناس إلى معتقداتهم المنحرفة، وأخذوا على ذلك سنين طوال، فمكن الله _ تعالى _ لهم لحكمة لا يعلمها إلا هو.
لكن لا تزال طائفة على الحق منصورة لا يضرهم انحراف المنحرفين، ولا ضلال المضلين، فها هي الطائفة المنصورة في كل زمان موجودة، وفي كل مكان رايتها عالية محمودة، لأنها تستمد معتقدها من نور الوحيين: الكتاب والسنة.
وها هي مؤلفاتهم قد ملأت الآفاق تبين ما يجب على المسلم اعتقاده، وتحذره من عقائد أهل الزيغ والانحراف كالقدرية، والمعتزلة، والجهمية، والأشاعرة، وسائر الطوائف من أهل الضلال والانحراف.
وممن كان له دور فعال في بيان عقيدة السلف والدعوة إليها، والتحذير من عقائد أهل البدع، وبيان ما يعتقدونه صاحب الحائية المسماة بحائية “ابن أبي داود”.
فقد احتوت هذه المنظومة على معظم ما عليه أهل السنة والجماعة في مسائل الاعتقاد، وبينت ما عليه أهل الزيغ والفساد.
ومن هنا اعتنى علماء أهل السنة بها، فأفاضوا في شرحها، وزادوا عليها ما لم تحو من المسائل التي عليها أهل السنة في جانب الاعتقاد، ومن هؤلاء على سبيل المثال الإمام السفاريني فقد شرحها شرحاً أفاض فيه وأجاد نفع الله بشرحه لها نفعاً عظيماً فجزاه الله خيراً.
ولما كانت هذه المنظومة لها مكانتها عند أهل السنة وأشار عليّ بعض طلاب العلم بشرحها، وبيان ما تضمنته، فاستجبت لطلبهم، وقمت بشرحها شرحاً موجزاً يتناسب مع من حضر من الطلاب بعيداً عن البسط والإسهاب فلم أُفَصِّل في بعض الموضوعات مراعاة للزمن ونوعية المتلقي.
وعلى كل حال فمن رغب في التوسع فليرجع إلى تفصيل شرحها للسفاريني حيث أجاد وأفاد.
ولقد كان شرحها خلال ستة دروس في جامع الشيخ ابن عثيمين في محافظة الزلفي خلال شهري ربيع الأول والثاني من عام 1425هـ، وقد قام الطلاب بتسجيلها، وتفريغها، وألحوا عليّ في طباعتها، وبعد إعادة النظر فيها رأيت من المصلحة تلبية طلبهم لعل في ذلك فائدة لهم ولغيرهم.
أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو محمد
عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
1/ 7/ 1425هـ
التعريف بالمنظومة
هذه المنظومة في علم العقائد في التوحيد، وهي خلاصة معتقد أهل السنة والجماعة تكلم فيها المؤلف رحمه الله عن مجمل معتقد أهل السنة والجماعة وبخاصة المسائل التي حصل فيها خلاف بين أهل السنة والجماعة والمخالفين لهم من أهل البدع .
ومن هذه المسائل:
1_ مسألة القرآن _ كلام الله غير مخلوق _.
2_ مسألة إثبات رؤية الباري سبحانه وتعالى في الآخرة.
3_ إثبات النزول الإلهي على ما يليق بجلاله وعظمته.
4_ إثبات صفة اليد لله _تعالى _.
5_ بيان فضائل الصحابة _ رضوان الله عليهم _.
وغير ذلك مما سنوضحه إن شاء الله _ تعالى _.
وهذه المنظومة تقع في ثلاثة وثلاثين بيتاً هذا هو المتعارف عليه في أكثر المصادر، وما زاد عن هذا العدد فهو إما لابن البنا الحنبلي حيث زاد عليها ثلاثة أبيات تضمنت هذه الأبيات فضائل أم المؤمنين عائشة _ رضي الله عنها _ وكذا فضائل المهاجرين، والأنصار، والتابعين بإحسان.
وإما لابن شاهين حيث زاد عليها أربعة أبيات فبلغت بذلك أربعين بيتاً.
لكنني سأكتفي في شرحي بما جاء في المنظومة فقط أي ثلاثة وثلاثين بيتاً، هذا الذي سيتم شرحه _ إن شاء الله تعالى _.
هذه المنظومة تقبلها العلماء بالقبول، وشرحها بعض الأعلام منهم السفاريني حيث شرحها في مجلدين.
نسبتها للمؤلف:
ذكر نسبتها للمؤلف الإمام الذهبي رحمه الله حينما تكلم عن ترجمة المؤلف وأكد نسبتها إليه، بل إن تلميذه ابن بطة أي تلميذ صاحب الحائية نسبها إليه، وعموماً فأهل السنة والجماعة يشيرون إليها أحياناً حينما يستشهدون بها في ذكر معتقدهم.
التعريف بصاحب المنظومة:
هو أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث، والده صاحب السنن المشهور “بأبي داود السجستاني” رحل مع والده شرقاً وغرباً في طلب الحديث النبوي وتحقق بسعيهما مرادهما.
كان رحمه الله عالماً حافظاً ورعاً يسير على عقيدة أهل السنة والجماعة، وخير شاهد على ذلك هذه المنظومة التي سيتم شرحها.
فقد بيّن فيها عقيدة أهل السنة والجماعة، وبخاصة الأمور التي خالف فيها المنحرفون _ أهل الزيغ والضلال من الجهمية، والمعتزلة، والقدرية، والمرجئة، وغيرهم _ ما عليه سلف الأمة.
توفي رحمه الله سنة ست عشرة وثلاثمائة، وله من العمر ست وثمانون سنة وستة أشهر تقريباً، وصلى عليه خلق كثير، ودفن في بغداد في مقبرة تسمى _ باب البستان _ فرحمه الله وأجزل له المثوبة.
نص المنظومة
قال رحمه الله:
1 | تمسك بحبل الله واتبع الهدى | ** | ولا تك بدعياً لعلك تفلح |
2 | ودِن بكتاب الله والسنن الـتي | ** | أتت عن رسول الله تنجو وتربح |
3 | وقل غيرُ مخلوق كلام مليكنـا | ** | بذلك دان الأتقياء وأفصحوا |
4 | ولا تك في القرآن بالوقف قائلاً | ** | كما قال أتباع لجهم وأسجحوا |
5 | ولا تقلِ القرآن خلق قراءتـه | ** | فإن كلام الله باللفظ يوضَح |
6 | وقل يتجلى الله للخلق جهرة | ** | كما البدر لا يخفى وربك أوضح |
7 | وليس بمولود وليس بوالد | ** | وليس له شِبه تعالى المسبح |
8 | وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا | ** | بمصداق ما قلنا حديث مُصرِّح |
9 | رواه جرير عن مقال محمد | ** | فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح |
10 | وقد ينكر الجهمي أيضاً يمينه | ** | وكلتا يديه بالفواضل تنفَح |
11 | وقل ينزل الجبار في كل ليلة | ** | بلا كيف جل الواحد المتمدح |
12 | إلى طبق الدنيا يمن بفضله | ** | فتفرج أبواب السماء وتفتح |
13 | يقول ألا مستغفر يلق غافراً | ** | ومستمنح خيراً ورزقاً فيمنح |
14 | روى ذاك قوم لا يرد حديثهم | ** | ألا خاب قوم كذبوهم وقُبِّحوا |
15 | وقل: إن خير الناس بعد محمد | ** | وزيراه قِدْماً ثم عثمان الارجـح |
16 | ورابعهم خير البرية بعدهم | ** | عليٌّ حليف الخير بالخير مُنجِح |
17 | وإنهمُ للرهط لا ريب فيهم | ** | على نجب الفردوس بالنور تسرح |
18 | سعيد وسعد وابن عوف وطلحة | ** | وعامرُ فِهْرٍ والزبير الممدح |
19 | وقل خير قول في الصحابة كلهم | ** | ولا تكُ طعاناً تعيب وتجرح |
20 | فقد نطق الوحي المُبِينُ بفضلهم | ** | وفي الفتح آي للصحابة تمدح |
21 | وبالْقَدَرِ المقدور أيقن فإنـه | ** | دِعامة عِقْد الدينِ، والدينُ أَفْيَح |
22 | ولا تنكرن جهلاً نكيراً ومنكراً | ** | ولا الحوض والميزان إنك تُنْصح |
23 | وقل يُخْرِج الله العظيمُ بفضله | ** | من النار أجساداً من الفحم تُطرح |
24 | على النهر في الفردوس تحيا بمائه | ** | كَحِبِّ حَمِيلِ السَّيْل إذ جاء يَطْفَح |
25 | وإن رسول الله للخلق شافع | ** | وقل في عذاب القبر حق مُوَّضح |
26 | ولا تُكْفِرَنْ أهل الصلاة وإن عصوا | ** | فكلهمُ يعصي وذو العرش يصفح |
27 | ولا تعتقدْ رأي الخوارج إنه | ** | مقال لمن يهواه يُردي ويَفضح |
28 | ولا تك مرجياً لعوباً بدينه | ** | ألا إنما المرجيُّ بالدين يمزح |
29 | وقل: إنما الإيمان قول ونيـة | ** | وفعل على قول النبي مُصرَّح |
30 | وينقص طوراً بالمعاصي وتارة | ** | بطاعته يَنْمي وفي الوزن يرجح |
31 | ودع عنك آراء الرجال وقولهم | ** | فقول رسول الله أزكى وأشرح |
32 | ولا تك من قوم تلهوا بدينهم | ** | فتطعن في أهل الحديث وتقدح |
33 | إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه | ** | فأنت على خير تبيت وتصبح |
شرح المنظومة
قال المؤلف رحمه الله:
1 | تمسك بحبل الله واتبع الهدى | ** | ولا تك بدعياً لعلك تفلح |
2 | ودِن بكتاب الله والسنن الـتي | ** | أتت عن رسول الله تنجو وتربح |
3 | وقل غيرُ مخلوق كلام مليكنـا | ** | بذلك دان الأتقياء وأفصحوا |
4 | ولا تك في القرآن بالوقف قائلاً | ** | كما قال أتباع لجهم وأسجحوا |
5 | ولا تقلِ القرآن خلق قرأتـه | ** | فإن كلام الله باللفظ يوضَح |
الشرح :
قوله رحمه الله: “تمسك بحبل الله واتبع الـهدى”:
المؤلف رحمه الله مشى على ما مشى عليه غيره من البدء بالاعتصام بالكتاب والسنة، والاعتماد عليهما، لماذا ؟ لأنهما الأصلان اللذان يبنى عليهما هذا المعتقد، ولهذا مصادر التلقي عند أهل السنة والجماعة هي الكتاب والسنة فالمؤلف رحمه الله يقول:” تمسك” أيها السني الذي يسير على طريقة رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، ومنهجه، وما عليه أصحابه الكرام.
“تمسك بحبل الله واتبع الهدى” حبل الله هو: القرآن الكريم الذي هو الصراط المستقيم، وحبل الله المتين الذي نسأل الله _ جل وعلا _ في كل صلاة فرض ونفل أن يوفقنا لسلوكه والتمسك به {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.
لماذا سُمي حبل الله؟
لأن المتمسك بشرع الله كالمتمسك بالحبــل لا يمكن أن يتيه أو يضل، فإذا وضعت حبلاً في طريق معين، وسلكه سالك، هذا السالك لا يضيع، ولا يضل، كذلك المتمسك بهذا الكتاب العزيز لا يمكن أن يضل أو يزل.
قوله: “واتبع الهدى”:
أي اتبع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والهدى أيضاً هو الطريق المستقيم والمراد به هنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن المؤلف قرنها بحبل الله فحبل الله كما ذكرنا هو الكتاب، والهدى هنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والهداية إذا أطلقت تكون على نوعين :
الأول : هداية التوفيق والإلهام:
وهذه لله وحده قال _ تعالى _:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ..}([1]) فهذه لا يملكها أحد إلا الله سبحانه وتعالى.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ما استطاع أن يهدي أقرب الناس إليه عمه أبا طالب، ما استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يهديه مع أنه حاول واجتهد لكن ما استطاع، ولذا نزلت هذه الآية في شأن أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ..}.
الثاني : هداية الدلالة والإرشاد:
وهذه الهداية للرسول صلى الله عليه وسلم فهذه يملكها النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك أخذ منها أكملها وكذلك أصحابه الكرام ومن سار على نهجهم من العلماء والدعاة هم أيضاً لهم حظ من هذه الهداية يعني دلالة الناس على الخير ودلالتهم على الطريق المستقيم.
قوله: “ولا تك بدعياً لعلك تفلح“:
الشرح: أي أيها المتمسك بحبل الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تكن بدعياً لأن البدعة طريق، وحبل الله، وسنة رسوله طريق آخر.
لهذا قال العلماء في تعريف البدعة: هي أن يُحْدِثْ الإنسان في شرع الله ما لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقصر تعريف للبدعة: هي خلاف السنة.
والبدعة أنواع: فقد تكون في المعتقد، وقد تكون في العمل.
أما ما يكون في المعتقد فسيذكره المؤلف رحمه الله من اعتقاد الجهمية والمعتزلة والخوارج وغيرهم.
وأما في العمل فمثل الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاحتفال بليلة النصف من شعبان، والاحتفال بليلة السابع والعشرين من رجب، وهكذا.
وقوله: “لعلك تفلح”:
لعل: تستعمل للترجي لكن هنا هل معناها للترجي؟ لا، لأن المتمسك بحبل الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا بد أن يفلح، إذاً فمعناها هنا للتحقيق: أي فإنك إذا تمسكت بحبل الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنك ولا بد أن تفلح.
والفلاح: هو جماع الخير، ولهذا ذكر الله _ تعالى _ المفلحين في أشرف المواقع وأكرمها حينما ذكر أنهم هم الفائزون قال: {أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} والفلاح: هو غاية الفوز، وغاية النجاة، وغاية حصول الكرامة من الله _ جل وعلا_ ولهذا لا يتحقق الفلاح إلا للمتقين، وقد أخذ منه السلف أوفر نصيب.
وقوله رحمه الله:
ودِن بكتاب الله والسنن الـتي | ** | أتت عن رسول الله تنجو وتربح |
بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله مصادر التلقي بدأ الآن يتكلم عما يجب اعتقاده في كتاب الله _ تعالى _.
فقال: “ودن” أي: تعبد.
واهتد “بكتاب الله“ الذي هو القرآن العظيم، والذكر الحكيم فحلِّل حلاله، وحرِّم حرامه، واتبع محكمه، وآمن بمتشابهه فمتى فعلت ذلك كنت مؤمناً مسلماً.
“والسنن التي“: أي كما دنت بكتاب الله على الوجه المطلوب شرعاً فكذلك دن “بالسنن التي جاءت عن رسول الله“.
السنن: جمع سنة، وهي الطريقة، والمقصود بها هنا: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ما جاء عنه من قول، أو فعل، أو تقرير، أو وصف.
وقوله: “أتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “:
أي لا بد أن تكون سنة صحيحة، لأنه قد ينقل عن رسول الله سنناً ليست بصحيحة.
وقوله: “تنجو وتربح”:
لا شك أن من عمل بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا شك أنه سينجو من فتن الدنيا، وعذاب الآخرة.
والنجاة: هي رأس المال، لكن أيضاً من يعمل بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا بد أن يحصل له مع النجاة ربح، فالربح فوق رأس المال، ولهذا إذا ساهم الإنسان بشركة، أو ساهم بمساهمة يرجو الربح لا يكتفي برأس ماله؛ فرأس ماله حاصل بل يتطلع إلى الربح الكثير.
وقوله رحمه الله:
وقل غير مخلوق كلام مليكنـا | ** | بذلك دان الأتقياء وأفصحوا |
“وقل“: أيها السني المتبع لما جاء عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم “غير مخلوق كلام مليكنا“ أي قل أيها السني: إن كلام الله غير مخلوق.
وخلق القرآن قالت به الجهمية، والمعتزلة، وهي بدعة، وفِرْيَة ظالمة أخذ بها الجهم عن الجعد بن درهم عن وائل بن عطاء عن ابن أخت لبيد بن الأعصم عن لبيد بن الأعصم الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأصل هذه البدعة من اليهود، فهم يقولون بخلق القرآن أي أنه مخلوق كغيره من المخلوقات.
ولهذا حمل ابن أبي دؤاد العلماء على هذه البدعة، وأقنع المامون بها ثم ألزم المأمون الناس بها، وتعرفون أن الإمام أحمد رحمه الله ثبت في هذه المحنة العظيمة، ولهذا قيل انتصر الإسلام بأبي بكر يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة ولهذا قيل _ ردة ولا أبا بكر لها رضي الله عنه، ومحنة ولا أحمد بن حنبل لها رحمه الله فقد ابتلي بها، وامتحن، وسجن، وضرب، وجلد، ولكنه صبر وتحمل.
ويقول الإمام أحمد رحمه الله: “إن أعظم ما ثبتني بعد ربي ذلك الرجل الذي جاء إليَّ وأنا أُضْرَب بالسياط فقال: يا أحمد إنما هي كلمة إن أنت قلتها زلت هذه الأمم خارج هذا البيت، اثبت يا أحمد فإن الضرب على البدن وسرعان ما يزول ويفنى البدن، فقال الإمام أحمد: فكان كلامه مثبتاً لي”.
ولكن الله فرج عن المسلمين بعد أن جاء الواثق وألغى هذه المقولة، وسجن أصحابها، وفرج عن أئمة أهل السنة _ رضي الله عنه وأرضاه _.
وتعرفون الجعد بن درهم أحد رؤوس الاعتزال ضحى به خالد بن عبد الله القسرى فلما خطب الناس يوم الأضحى قال: “أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً”.
فنزل وذبحه ذبح الشاة، نسأل الله أن يرفعه بالجنة درجات فقد خدم السنة وأهلها، ونصر الملة، وكبت أهل البدعة.
وقوله: “كلام مليكنا”:
أي هذا كلام الله _ جل وعلا _ ملك الأملاك _ سبحانه وتعالى _ وملك الأملاك له الملك المطلق، ولهذا ينادي يوم القيامة فيقول: أنا الجبار أنا الملك فلا يجيبه أحد.
وقوله: “بذلك دان الأتقياء وأفصحوا”:
الأتقياء: جمع تقي، والتقوى: هي جماع الخير.
قال عمر رضي الله عنه لأبي بن كعب رضي الله عنه: “ما هي التقوى؟
قال: هل سلكت يا أمير المؤمنين وادياً فيه شوك؟ قال: نعم.
قال: ماذا فعلت؟ قال: شمرت، قال: تلك التقوى”.
وقال عليٌّ رضي الله عنه في تعريف التقوى: “التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضى بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل”.
قوله: “وأفصحوا”:
أي بينوا وأظهروا معتقدهم، ولم يتوقفوا كما سيأتينا.
فالأتقياء يفصحون عما يعتقدونه في كتاب الله _تعالى_ من أنه كلام الله حقاً غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
وقوله رحمه الله:
ولا تك في القرآن بالوقف قائلاً | ** | كما قال أتباع لجهم وأسجحوا |
قوله: “ولا تك”: أي أيها المتمسك بالكتاب والسنة لا تكن “في القرآن بالوقف قائلاً“: أي لا تكن مثل الواقفة الذين لما انتصر أهل السنة للقول بأن القرآن كلام الله، وانتصر أهل البدع لبدعتهم في القول بأن القرآن مخلوق توقف جماعة وقالوا: لا نقول بأنه كلام الله، ولا نقول بأنه مخلوق، ولا غير مخلوق، وهم يزعمون بذلك أنهم توقفوا تورعاً. ولهذا قال أحمد رحمه الله في شأنهم أنهم أشَرُّ الأصناف وأخبثها. لماذا كانوا أشر الأصناف وأخبثها؟ لأن الجهمية أمرُهم ظاهر، أما هؤلاء قد يفتتن بهم، ولكن قولهم باطل. وقد رد عليهم أهل السنة والجماعة حتى تم القضاء على بدعتهم، وحكم فيهم أهل السنة أنه من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي، ومن لم يحسن الكلام منهم بل عُلم أنه كان جاهلاً جهلاً بسيطاً فهذا تقام عليه الحجة بالبيان والبرهان، فإن تاب وآمن أنه كلام الله _ تعالى _ وإلا فهو شرٌّ من الجهمية، وقد ذكرنا كلام الإمام أحمد رحمه الله في شأنهم.
وقوله: “كما قال أتباع لجهم وأسجحوا”:
المؤلف رحمه الله جعل الشكاكة: أي الواقفة جعلهم أتباعاً لجهم بن صفوان القائل بخلق القرآن، وهم في الحقيقة فرقة من الجهمية لأنهم ما قالوا ذلك إلا لتأثرهم بقول الجهمية، ودخول هذه البدعة في نفوس هؤلاء الواقفة، ولذا حكم عليهم الإمام أحمد بأنهم جهمية.
وقوله: “وأسجحوا”: أي مالوا، أي أن هؤلاء الواقفة مالوا إلى قول جهم واعتقدوا هذا المعتقد، وإن لم يظهروا ذلك، ويفصحوا به.
وقوله رحمه الله:
ولا تقل القرآن خلق قراءتـه | ** | فإن كلام الله باللفظ يوضح |
قوله: “ولا تقل”: أي أيها السني “القرآن خلق قرأته“ يعني لا تقل قراءتي بالقرآن مخلوقة، ولا إن صوتي هذا بالقرآن مخلوق، كل هذا لا ينبغي.
فالقرآن كلام الله تكلم به بصوت وحرف وتلقاه عنه جبريل _ عليه الصلاة السلام _ وأوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا البيت فيه إشارة إلى الرد على اللفظية الذين يقولون إن قراءتنا بالقرآن مخلوقة، أو تلاوتنا له مخلوقة، أو لفظنا بالقرآن مخلوق.
ولهذا سُمُوا لفظية، وهم في الحقيقة جهمية، وإنما قالوا ذلك من أجل التلبيس على الناس.
ولذلك قال أئمة السنة _ رحمهم الله _ كأحمد بن حنبل، وهارون الفروي وغيرهم قالوا: من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع، يعنون بذلك غير بدعة الجهمية، وذلك لأن اللفظ يطلق على معنيين:
أحدهما: الملفوظ به وهو القرآن، وهو كلام الله ليس فعلا للعبد، ولا مقدوراً له.
الثاني: التلفظ، وهو فعل العبد وكسبه وسعيه، فإذا أطلق لفظ الخلق على المعنى الثاني “التلفظ” شمل الأول، وهو قول الجهمية، وإن عكس الأمر بأن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق شمل المعنى الثاني، وهي بدعة أخرى من بدع الاتحادية.
وما ذكرناه ظاهر عند من له عقل؛ فأنت إذا سمعت رجلاً يقرأ سورة الإخلاص{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}([2])، فبطبيعة الحال تقول: هذا لفظ فلان بسورة الإخلاص، إذ اللفظ معنىً مشترك بين التلفظ الذي هو فعل العبد، وبين الملفوظ به الذي هو كلام الله. ولذلك جاء عن السلف _ رضوان الله عليهم _ قولهم: الصوت صوت القارئ، والكلام كلام الباري.
فالمراد بالصوت هنا فعل العبد لا يتناول المتلو المؤدى بالصوت البتة، ولا يصلح أن تقول هذا صوت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ولا يقول ذلك عاقل، وإنما تقول هذا صوت فلان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ونحو ذلك.
وما ذكرناه فيه كفاية في الرد على هذه الفرقة “أعني اللفظية”.
قوله: “فإن كلام الله باللفظ يوضح”:
كلام الله _ جل وعلا _ هو القرآن يوضح لفظاً وحرفاً وصوتاً.
وقوله: “يوضح”: أي يوضح المعنى، ويبينه، ويظهره، ويُجلى به المقصود.
وفي قوله: “فإن كلام الله باللفظ يوضح”: فيه إشارة إلى بيان ما عليه أهل السنة والجماعة من أن القرآن _ كلام الله _ ألفاظه ومعانيه.
ليس _ كلام الله _ اللفظ دون المعنى، ولا المعنى دون اللفظ.
بل اللفظ والمعنى هما _ كلام الله _ فاللفظ بالقرآن يوضح المعنى، ويبين المراد منه. ولقد اختلف الناس في كلام الله _ تعالى _ على أقوال كثيرة أوصلها شارح الطحاوية إلى تسعة أقوال:
القول الأول: قول الاتحادية القائلين بأن كل كلام في الوجود هو كلام الله نظمه، ونثره، وحقه، وباطله، وسحره، وكفره، والسب، والشتم.
ولذا قال قائلهم:
وكل كلام في الوجود كلامه |
** | سواء علينا نثره ونظامه |
وأصل مذهبهم هو أن الله _ سبحانه وتعالى _ هو عين هذا الوجود؛ فصفاته هي عين صفات الله، وكلامه هو كلام الله.
القول الثاني: قول الفلاسفة المتأخرين من أتباع أرسطو كابن سينا والفارابي والطوسي القائلين بأن كلام الله هو فيض فاض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية بحسب استعدادها، فأوجب لها ذلك الفيض تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته منه.
القول الثالث: قول الجهمية النفاة لصفات الرب _ سبحانه وتعالى _ القائلين بأن كلامه مخلوق ولم يقم بذاته سبحانه وتعالى وقد ذكرنا قولهم.
القول الرابع: قول الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب القائلين بأن القرآن معنى قائم بالنفس لا يتعلق بالقدرة والمشيئة، وأنه لازم لذات الرب كلزوم الحياة والعلم، وأنه لا يسمع على الحقيقة، والحروف، والأصوات حكاية له دالة عليه، وهي مخلوقة.
القول الخامس: وهو قول الأشاعرة ومن تابعهم القائلين بأن القرآن معنىً واحد قائم بذات الرب _ سبحانه وتعالى _.
لأنه ليس بحرف، ولا صوت، ولا ينقسم، ولا له أبعاض، ولا له أجزاء، وغير ذلك مما قالوه في إنكار كون القرآن _ كلام الله _ حقيقة بل قالوا: إنه عبارة عن كلامه.
القول السادس: قول الكرامية: وهم القائلون بأن كلام الله سبحانه وتعالى حروف وأصوات تكلم بها بعد أن لم يكن متكلماً، وهو حادث بعد أن لم يكن.
القول السابع: أنه صفة قديمة قائمة بذات الرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال لا يتعلق كلامه بمشيئته، وقدرته، وهو عندهم حروف، وأصوات، وسور وآيات سمعه جبريل منه.
وكل ما ذكرناه من هذه المذاهب المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة هي كافية لبطلان ما قالوه، والبراهين العقلية، والأدلة القطعية شاهدة ببطلان هذه المذاهب كلها.
قال شارح الطحاوية: وتاسعها: أنه _ تعالى _ لم يزل متكلماً إذا شاء، ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يُسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة”([3]).
وقال رحمه الله:
6 | وقل يتجلى الله للخلق جهرة | ** | كما البدر لا يخفى وربك أوضح |
7 | وليس بمولود وليس بوالد | ** | وليس له شِبه تعالى المسبح |
8 | وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا | ** | بمصداق ما قلنا حديث مُصرِّح |
9 | رواه جرير عن مقال محمد | ** | فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح |
الشرح:
هذه الأبيات الأربعة كلها في مسألة رؤية الله _ تعالى _ في الآخرة، وهذه المسألة من صحيح اعتقاد أهل السنة والجماعة.
فأهل السنة والجماعة يثبتون رؤية أهل الجنة لربهم سبحانه وتعالى بغير إحاطة، ولا كيفية كما نطق بذلك كتاب ربنا _ سبحانه وتعالى _.
ولذا قال المؤلف رحمه الله: “وقل”: أيها السني المخاطب بهذه المنظومة “يتجلى الله للخلق جهرة” يتجلى أي يظهر الله _ تعالى _ للمؤمنين يوم القيامة.
وقوله: “للخلق”:
أي في الجنة تكون رؤية المؤمنين الصادقين له سبحانه، أما في الموقف هل هي لعموم الخلق أم رؤيته خاصة بالمؤمنين فقط، على ثلاثة أقوال لأهل العلم:
القول الأول: أنه لا يراه إلا المؤمنين.
القول الثاني : أنه يراه جميع أهل الموقف مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار لا يرونه بعد ذلك.
القول الثالث: يراه المنافقون دون الكفار.
والصحيح: “أنه سبحانه وتعالى يتجلى للمؤمنيـــن والمنافقيــن في عرصــات القيامـــة، ثم يحتجب عن المنافقين ولا يرونه”([4]).
وقوله: “جهرة”:
أي واضحاً ظاهراً بيناً كما دلت على ذلك النصوص الشرعية وسوف نذكر طرفاً منها إن شاء الله _ تعالى _.
وقوله: “كما البدر لا يخفى وربك أوضح”:
“الكاف” هنا للتشبيه و” ما” زائدة، والمعنى أنه سبحانه وتعالى يتجلى لخلقه كالبدر، وهذا ليس تشبيه الخالق بالمخلوق بل تشبيه الرؤية بالرؤية والمعنى فكما أن رؤية القمر حقيقة فكذلك يرى الناس ربهم يوم القيامة عياناً بأبصارهم حقيقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :”إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر… “([5]).
وقوله: “وربك أوضح”:
أي كما أن البدر لا يخفى على الناس ليلة الرابع عشر لوضوحه وتمامه، فربنا سبحانه وتعالى في الآخرة أوضح وأبين. فالناس يرونه لا يضامون ولا يتضارون في رؤيته .
اعلم أن الرؤية كما قلنا يثبتها أهل السنة والجماعة، وقد مشى على ذلك الصحابة، والتابعون، ومن بعدهم من سلف الأمة.
استدل أهل السنة بأدلة كثيرة منها:
1_ قوله _ تعالى _:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}([6]). هذه الآية من أظهر الأدلة على ثبوت رؤية الرب سبحانه وتعالى.
قال ابن عباس _ رضي الله عنهما _ في الآية: _:{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}: أي تنظر إلى وجه ربها _ عز وجل _.
2_ قوله _ تعالى _:{ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ([7]) :
قال أهل التفسير في المزيد هنا: المراد به النظر إلى وجه الله _ عز وجل _.
3_ قوله _ تعالى _: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } ([8]):
فقد جاء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية فيما رواه مسلم عن صهيب قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}.
قال: “إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعداً ويريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا، ويُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، ويُدْخِلَنْا الجنَّة، ويُجِّرْنَا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة“([9]).
4_ ومن الأدلة أيضاً قوله _تعالى_:{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}([10]).
فقد احتج بها السلف _ رضوان الله تعالى عليهم _ على ثبوت الرؤية.
قال الشافعي رحمه الله: “لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا”([11]).
أما الأحاديث التي جاءت في الرؤية فهي متواترة فمن ذلك :
1_ ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ناساً قالوا : يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا : لا يا رسول الله، قال: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترونه كذلك“([12]).
2_ ما رواه البخاري ومسلم أيضاً عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: “إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا، ولا تضارون في رؤيته“([13]).
3_ حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم _ تبارك وتعالى _ إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن“([14]).
وأحاديث الرؤية رواها جمٌ غفيرٌ من الصحابة _ رضوان الله عليهم _ فلا ينكرها إلا من أشرب النفاق في قلبه، وحب المخالفة لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد استدل المخالفون للرؤية بأدلة منها:
الدليل الأول: قوله تعالى لموسى _ عليه الصلاة السلام _ حينما طلب رؤيته قال: {لَنْ تَرَانِي}([15]) .
فقالوا:{لَنْ} هنا للنفي المؤبد أي لا يمكن رؤيته في الدنيا، ولا في الآخرة.
وهذا قول غير صحيح في اللغة العربية، لذا قال ابن مالك في ألفيته:
ومن رأى النفي بـ لن مؤبداً | * * | فقوله اردد وسواه فاعضدا |
وقد جاء في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك قال _ تعالى _: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً}([16]) مع قوله _ تعالى _: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ([17]) .
ففي الآية الأولى: نفي لتمنيهم الموت.
وفي الثانية: طلب لتمنيهم الموت. وذلك بالقضاء عليهم لما يرونه من العذاب، فلو كانت {لَنْ} للتأبيد على زعمهم لما حصل منهم طلب الموت.
ومن ذلك أيضاً قوله _ تعالى _:{فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي}([18])، فلو كانت للتأبيد لما جاز تحديد الفعل بعدها، فثبت بذلك أن {لَنْ} لا تقتضي النفي المؤبد.
ثم إن الآية نفسها فيها دليل على ثبوت الرؤية، وكما قال شيخ الإسلام: “ما يأتي المخالف بدليل إلا وكان الدليل حجة عليه لا له”.
ففي الآية ثبوت للرؤية من وجوه:
الأول: أنه لا يظن بكليم الله موسى _ عليه الصلاة والسلام _ أن يسأل ربه شيئاً غير ممكن، ومحال عليه ذلك لأنه أعلم الناس بربه في حينه فكيف يظن به أن يسأل ما لا يجوز سؤاله.
الثاني: أن الرب سبحانه وتعالى قال له: {لَنْ تَرَانِي}، ولم يقل لست بمرئي، أو لا أُرى، والفرق بين الجوابين واضح.
وهذا يدل على أن الرب سبحانه وتعالى مرئي، ولكن موسى _ عليه الصلاة والسلام_ لا تتحمل قواه رؤيته لضعف قوى البشر في هذه الدار.
الثالث: قوله _ تعالى _ لموسى _ عليه الصلاة والسلام _: {وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً}([19]) فيه دلالة من وجهين:
الوجه الأول: أن الجبل مع قوته وصلابته لم يثبت حين تجلى له الرب سبحانه وتعالى في هذه الدار فمن باب أولى البشر.
الوجه الثاني: أنه سبحانه وتعالى تجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته.
الدليل الثاني: عند من قال بعدم الرؤية قوله _ تعالى _:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}([20]) فقد استدل بها القاضي عبد الجبار شيخ الاعتزال، احتج بهذه الآية من وجوه عديدة على نفي رؤية الرب سبحانه وتعالى في الآخرة، وكل وجوه الاستدلال عنده باطلة مبتورة يستطيع طالب العلم المبتدئ الرد عليه فيها.
والحقيقة أن الآية أيضاً دليل لإثبات الرؤية، ويجاب على هذا الاستدلال من وجوه منها:
الوجه الأول: أن قوله _ تعالى _:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} مطلق، وقوله _ تعالى _:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}([21]) مقيد النظر بيوم القيامة، والمطلق يحمل على المقيد فيكون المنفي هو الرؤية في الدنيا، هذا على اعتبار أن الإدراك بمعنى الرؤية، وإلا فهناك فرق بينهما.
فالإدراك قدر زائد على الرؤية، لذلك فمعناه الإحاطة بالشيء، ولا يلزم منها الإحاطة فأنت ترى السماء، وترى البحر، ولا يلزم من رؤيتهما إدراكهما بل يستحيل ذلك.
الوجه الثاني: الاستدلال بها على الرؤية هو أن الله _ تعالى _ إنما ذكر قوله _ تعالى _: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}، والمعلوم أن المدح إنما يكون في الصفات الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به، فقوله _ تعالى _: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} لو كان المراد منه أنه لا يُرى بحال لم يكن في ذلك مدح، ولا كمال لمشاركة المعدوم له في ذلك.
إذاً فإن معنى ذلك أنه يُرى، ولا يدرك ولا يحاط به.
الدليل الثالث: ومن أدلتهم العقلية هو قولهم أنه يلزم من إثبات الرؤية إثبات الجسم، وإثبات الجهة وهذا منفي عن الله تعالى.
نقول: أما قولهم أنه يلزم من إثبات رؤية الله تعالى أن يكون جسماً؛ فيجاب عليه بأمرين :
الأول: أن القول بالجسم نفياً أو إثباتاً ليس في الكتاب والسنة إثباته ولا نفيه، وإنما هو مما أحدثه المتكلمون.
الثاني: أنه إذا كان يلزم من ثبوت الرؤية أن يكون جسماً فليكن ذلك، لكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه وتعالى لا يماثل أجسام المخلوقين كما قال _ تعالى _:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}([22]) .
حكم من أنكر الرؤية:
ذهب بعض العلماء إلى أن من أنكر رؤية الله _ تعالى _ أنه كافر مرتد لأن الأدلة في ثبوت الرؤية قطعية الثبوت، وقطعية الدلالة.
وقد نقل ابن القيم رحمه الله في “حادي الأرواح” كلام الإمام أحمد، وغيره في أن من أنكر رؤية الله _ تعالى _ كافر.
وقال رحمه الله:
وليس بمولود وليس بوالد | ** | وليس له شبه تعالى المسبح |
هذا البيت ذكره المؤلف ليبين أنه لا يلزم من إثبات الرؤية تشبيه الرب سبحانه وتعالى بالمولود أو الوالد، كما زعم ذلك المشبهة نفاة الرؤية حيث يقولون:
لو أثبتنا الرؤية لله حقيقة لأثبتنا له الجسمية، ولشبهناه بالمخلوق الحادث، لأن الرؤية لا تقع إلا على ذي جسم، ومن هنا جاء المؤلف بهذا البيت ليبين أن الله لا يقاس بخلقه، وهذا مأخوذ من قوله _تعالى _:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ([23]).
فالرب سبحانه وتعالى لا شبيه له، ولا مثيل له لا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فمن شبه الرب سبحانه وتعالى بخلقه فقد كفر.
وقوله: “تعالى المسبح”:
“تعالى“: من العلو، وعلوه سبحانه وتعالى ثابت له ذاتاً، وقدراً، وقهراً، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب، والسنة، وإجماع السلف _ رضوان الله عليهم _. والمعنى هنا أنه _ تعالى _ منزه عن الولد، والوالد، فإنه سبحانه لا شبيه له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وقول القائل: “سبحان الله”: يعني أنه نزهه عن النقائص والعيوب.
وقال رحمه الله:
وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا | ** | بمصداق ما قلنا حديث مصرِّح |
“قد“: هنا للتحقيق، والتأكيد فحقيقة قول الجهمية في الرؤية هو إنكارها.
“الجهمي“: نسبة إلى جهم بن صفوان الذي جاء بتعطيل صفات الرب سبحانه وتعالى وقد أخذ مقالته هذه من الجعد بن درهم، لكن الجهم هو الذي أظهر مقالة التعطيل فنسبت إليه. فالجهمية من الطوائف الضالة المبتدعة التي أنكرت رؤية الله _ تعالى _ في الآخرة، والضمير في قوله: ” هذا“: عائد على الرؤية.
قوله: “وعندنا”:
أي نحن أهل السنة والجماعة: “بمصداق ما قلنا“: وذلك بإثبات الرؤية: “حديث مصرِّح”، وفي بعض النسخ “مصحح”: أي جاء التصريح فيه بإثبات الرؤية.
وقال رحمه الله:
رواه جرير عن مقال محمد | ** | فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح |
“رواه جرير عن مقال محمد”:
هذا الحديث هو حديث جرير بن عبد الله البجلي المتفق على صحته حيث قال كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: “إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا، ولا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا“([24]).
قال شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا الحديث: “هذا الحديث من أصح الأحاديث
على وجه الأرض المتلقاة بالقبول المجمع عليها عند العلماء وسائر أهل القبلة”([25]).
وقوله: “فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح”:
يوجه المؤلف نصيحته إلى السُني أي المتمسك بمنهج السلف الصالح أن يكون معتقده وقوله على ما قاله سيد المرسلين _ صلوات الله وسلامه عليه _ في الرؤية لا مثل ما يقوله أهل التعطيل من الجهمية النفاة للرؤية، وهذا هو النجاح الحقيقي والفوز بإذن الله.
وقال رحمه الله:
10 | وقد ينكر الجهمي أيضاً يمينه | ** | وكلتا يديه بالفواضل تنفَح |
الشرح :
في هذا البيت يبين المؤلف موقفاً آخر من مواقف المعطلة الجهمية حيث إنهم ينكرون إثبات اليد لله _ تعالى _.
والصفات كما قلنا في الدرس السابق:
1_ صفات ذاتية.
2_ صفات فعلية.
فالصفات الذاتية: هي التي لا تنفك عن الذات.
والصفات الفعلية: هي التي تنفك، ويفعلها الله متى شاء سبحانه وتعالى .
واليدان من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله سبحانه وتعالى، وكلتا يديه سبحانه وتعالى يمين كما جاء في الحديث. وهل يقال الشمال؟ قال به بعض أهل العلم.
والصواب أن يقال “الأخرى” لما جاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفقه منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض“([26]) .
لكن قد يقول قائل: جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص _ رضي الله عنهما _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا“([27]).
فكيف يجمع بين الروايتين؟
يجاب على ذلك بأنه لما كانت الشمال عند غالب الناس فيها عجز، واليد اليمنى أقوى منها، وقد يتبادر ذلك إلى ذهن بعض الناس أن اليد اليسرى عند الرب أضعف من اليمنى نفى النبي صلى الله عليه وسلم هذا التوهم، وبين أن كلتا يديه يمين في القوة والإعطاء والمنع. والأدلة على إثبات صفة اليد لله _ تعالى _ كثيرة جداً منها:
1_ قوله _ تعالى _ لإبليس:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..}([28]) .
2_ وقوله _ تعالى _: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ..}([29]).
أما الأحاديث: فمنها ما ذكرناه آنفاً، وهو حديث أبي هريرة، وكذا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنهما _ والأحاديث التي جاءت في إثبات اليدين لله _ تعالى _ على ما يليق بجلاله كثيرة جداً.
لكن أهل التحريف والتعطيل لم يعجبهم ذلك فحرفوا هذه الصفة الثابتة لله _تعالى _ على ما يليق بجلاله وعظمته. فقالوا بأن المراد باليد النعمة، أو القدرة، أو الخزائن، وغير ذلك مما سموه تأويلاً، وفي الحقيقة هو تحريف، وتعطيل.
والصواب إثبات هذه الصفة لله _ تعالى _ على حقيقتها بدون تمثيل ولا تشبيه.
وقوله: “وكلتا يديه بالفواضل تنفـح”، وفي بعض النسخ: “تنضح”، والمعنى أنه سبحانه وتعالى يعطي العطاء الواسع، وهذا من تمام إنعامه وكرمه، ومعنى الفواضل: الخير والجود.
وقال رحمه الله:
11 | وقل ينزل الجبار في كل ليلة | ** | بلا كيف جل الواحد المتمدح |
12 | إلى طبق الدنيا يمن بفضله | ** | فتفرج أبواب السماء وتفتح |
13 | يقول ألا مستغفر يلق غافراً | ** | ومستمنح خيراً ورزقاً فيمنح |
14 | روى ذاك قوم لا يرد حديثهم | ** | ألا خاب قوم كذبوهم وقُبِّحوا |
الشرح :
الكلام هنا في مسألة نزول الله _ جل وعلا _.
وأشار إليه بقوله: “وقل ينزل الجبار”: أي قل أيها السني المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “ينزل الجبار” نزولاً يليق بجلاله وعظمته نزولاً بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه ليس كنزول المخلوقين، وإنما هو نزول يليق بجلاله، لا تقل كيف، وإنما قل ينزل ربنا كما جاءت النصوص بذلك.
ولهذا من قال ينزل، وشبه ذلك بنزول المخلوقين كالذي ينزل من المنبر أو ينزل من الدرج، ويقول: ينزل كذلك؛ فنقول هذا تشبيه بالمخلوقين. وهذا لا يجوز لأنه _ سبحانه وتعالى _ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}مع أسمائه، وصفاته، وأفعاله.
وقاعدة أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون من الأسماء والصفات ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله من غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه.
وقوله: “الجبار”: اسم من أسماء الله _ تعالى _ الحسنى التي جاءت نصوص الكتاب والسنة بها. ففي القرآن قوله _ تعالى _: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}([30]).
أما السنة فقد جاء في صحيح البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تزال جهنم يلقى فيها، وهي تقول هل من مزيد، حتى يضع الجبار فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول قط قط“([31]).
وقوله أيضاً صلى الله عليه وسلم: “سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة“([32]).
أما الجبار فقد جاء في تفسيره عدة معان منها: الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره، وهذا ما قاله قتادة وغيره ([33]).
وقيل: الجبار معناه العلي فوق خلقه.
وقيل: الجبار الذي جبر مفاقر الخلق وكفاهم أسباب المعاش والرزق.
والجبار اسم من أسمائه سبحانه وتعالى وهو في حقه سبحانه صفة مدح بخلاف بني آدم فهو في حقهم صفة ذم.
وقوله: “في كل ليلة”: أي أنه سبحانه ينزل في كل الليالي، وقد جاء أنه ينزل في ليلة النصف من شعبان أيضاً ([34]).
وقوله: “بلا كيف“: أي نزولاً يليق بجلاله فلا نكيف نزوله، ونقول بأنه يشبه نزول المخلوقين. ولهذا من سأل كيف ينزل ربنا سبحانه وتعالى نرد عليه ونقول كيف ذات ربنا سبحانه وتعالى فإذا قال لا أعلم، نقول نحن كذلك لا نعلم هذه الصفة.
ونزول الله _ تعالى _ من الصفات الفعلية كما ذكرنا ذلك سابقاً، وقلنا إن صفات الله _ تعالى _ على ثلاثة أقسام:
1_ صفات ذاتية: لا تنفك عن الذات كصفة السمع، والبصر، واليد، والقدم، والأصابع، والسـاق، والوجـه، والعلـو، وغير ذلـك من الصفـات الثابتة لله _ تعالى _ ذاتاً.
2_ صفات فعلية: يفعلها الله متى شاء كصفة النزول، والاستواء.
3_ صفات ذاتية فعلية: كصفة الكلام فهو باعتبار نوع الكلام هو صفة ذات، وباعتبار تعلقها بإرادة الله U ومشيئته فهو صفة فعل، فربنا _ جل وعلا _ لم يزل متكلماً إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، كما تكلمنا عن ذلك سابقاً.
وقوله: “جل الواحد المتمدح”:
” جل”: أي تنزه سبحانه وتعالى عن وصف الذين يتنقصونه.
“الواحد”: وهو الإله الفرد الصمد المنفرد بالعبودية.
والفرق بين “الواحد“، و”الأحد“: أن الأحد هو المتفرد بالذات، والواحد هو المتفرد بالمعنى لا يشاركه فيها أحد، ولهذا لا يثنى الواحد، ولا يجمع، فالواحد هو الله سبحانه وتعالى. وهل يقال وحيد؟ الجواب: لا، لأن هذه الصفة نقص، لأن معنى الوحيد المنفرد عن أصحابه المنقطع عنهم، فلا ينبغي إطلاقه على الله سبحانه وتعالى.
“المتمدح”: صفة للواحد: يعني الذي تمدحه الخلائق لجزيل إنعامه، وعظيم هباته، وإكرامه لهم سبحانه وتعالى.
وقوله رحمه الله:
إلى طبق الدنيا يمن بفضله | ** | فتفرج أبواب السماء وتفتح |
“إلى طبق الدنيا”: أي ينزل ربنا سبحانه وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا فإن الطبق غطاء كل شيء، والسماء هي غطاء الأرض، ونزوله _ جل وعلا _ نزول يليق بجلاله وعظمته.
“يمن”: أي ينعم فيعطي، ويحسن، ويهب.
“بفضله”: متعلق بــ “يمن”: أي بفضله يمن على عباده .
“وتفرج”: أي تنشق وتنكشف وتنفتح.
“أبواب السماء وتفتح”: أي تفتح أبواب السماء لنزول ربنا سبحانه وتعالى فتنزل رحمته، ويصعد إليه العمل الصالح، والدعاء وغير ذلك.
والمعنى أنه سبحانه وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا فيمنّ بفضله فيعطي، ويغفر، ويجيب سؤال السائلين، وهو القائل سبحانه وتعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ} ([35]) .
وقوله رحمه الله:
يقول ألا مستغفر يلق غافراً | ** | ومستمنح خيراً ورزقاً فيمنح |
أي “يقول “: أي الرب سبحانه وتعالى إذا نزل إلى سماء الدنيا يقول ” ألا “ أداة تحضيض كقوله _ تعالى _:{أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} ([36]).
قال أبو بكر رضي الله عنه: “بلى نحب يا رب”، وكذلك في هذا البيت.
ولذا قال المؤلف “مستغفر”: أي هل أحد يطلب المغفرة “يلق غافـراً” يلق من يغفر له ذنوبه كما قال _ تعالى _: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} ([37]) .
“ومستمنح”: يعني طالب المنح، والعطايا، والهبات.
“خيراً”: فضلاً وعملاً صالحاً، ودعاء، وهبات، ومغفرة، ورحمة.
“ورزقاً”: يطلب الرزق، والرزق هو ما ينعم الله به على العبد وهو يشمل مكتسبات العبد من المال الحلال، والحرام.
وحتى المال الحرام يسمى رزقاً لكنه يحاسب عليه العبد، وأما المعتزلة فيرون أن الحرام ليس برزق، وإنما هو عمل خبيث يحاسب عليه العبد.
وقوله: “ويمنـح”: أي أعطيه، فأنا الذي أعطي، وأجيب دعوة الداعي، وسؤال السائل.
وقوله رحمه الله:
روى ذاك قوم لا يرد حديثهم | ** | ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا |
هذا هو دليل المؤلف في إثبات النزول الإلهي للرب سبحانه وتعالى، وقد روى حديث النزول أكثر من ثمانية وعشرين صحابياً _ رضوان الله عليهم _ كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله، فمن هذه الأحاديث:
1_ ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ينزل ربنا _ تبارك وتعالى _ كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له” ([38]).
2_ وفي رواية لمسلم: “ينزل الله U إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول أنا الملك من الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر“([39]).
3_ ما رواه أحمد ومسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة _ رضي الله عنهما _ عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أن الله _ تعالى _ يمهل حتى إذا كان ثلث الليل الأخير نزل إلى سماء الدنيا فينادي هل من مستغفر، هل من تائب، هل من سائل، هل من داع حتى ينفجر الفجر“([40]).
4_ وروى أحمد في مسنده، والترمذي، وابن ماجه في سننهما، وصحح إسناده الألباني في الصحيحة عن عائشة _ رضي الله عنها _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب“([41]).
وقوله: “لا يرد حديثهم”: وذلك لشهود أهل العلم لهم بصحة النقل والأمانة فيه، وتحريهم النقل عن سيد المرسلين، ومن هنا فإنه ينبغي أن لا يرد حديثهم.
وقوله: “ألا خاب قوم كذبوهم”: أي كذبوا هؤلاء القوم الذين رووا أحاديث النزول.
“وقبحوا”: وذلك لأن فعلهم هذا مخالف لما كان عليه سلف الأمة _ رضوان الله عليهم _ جميعاً.
وقال رحمه الله:
15 | وقل: إن خير الناس بعد محمد | ** | وزيراه قِدْماً ثم عثمان الارجـح |
16 | ورابعهم خير البرية بعدهم | ** | عليٌّ حليف الخير بالخير مُنجِح |
17 | وإنهمُ للرهط لا ريب فيهم | ** | على نجب الفردوس بالنور تسرح |
18 | سعيد وسعد وابن عوف وطلحة | ** | وعامرُ فِهْرِ والزبير الممدح |
19 | وقل خير قول في الصحابة كلهم | ** | ولا تكُ طعاناً تعيب وتجرح |
20 | فقد نطق الوحي المُبِينُ بفضلهم | ** | وفي الفتح آي للصحابة تمدح |
الشرح :
هذا ما يتعلق بمذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة _ رضوان الله عليهم_ فمذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة _ رضي الله عنهم _ هو:
1_ أنهم خير القرون بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
2_ أنهم أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين، ويثبتون تفاضلهم فيما بينهم فيقدَّمون في الفضل على تقدمهم في الخلافة، فأفضلهم عند أهل السنة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم باقي العشرة المبشرين بالجنة، كما سيذكرهم المؤلف.
وعندهم _ أيضاً _ أي أهل السنة تقديم المهاجرين على الأنصار، وذلك لتقديم القرآن لهم.
3_ سلامة قلوب أهل السنة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الحقد، والحسد والاحتقار، والعداوة، والكراهية لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً.
4_ سلامة ألسنة أهل السنة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الطعن، والسب، والشتم والوقيعة فيهم لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تسبوا أصحابي“([42]).
5_ أن أهل السنة يعتقدون فضل الصحابة _ رضوان الله عليهم _ وسابقتهم للإسلام كما ذكرنا.
ولذا يترحمون عليهم، ويترضون عنهم، ويستغفرون لهم.
6_ أن أهل السنة يعتقدون أن الصحابة غير معصومين من الخطأ، بل خطؤهم مغفور لهم لدلالة السنة على ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم“([43]).
7_ أن أهل السنة يقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع في فضائلهم ومراتبهم، ويعتقدون أن كل ما جاء في الأحاديث في ذمهم أو التنقص منهم، أو شتمهم، أو سبهم هو محض افتراء مكذوب وضعه الوضاعون للنيل من شريعة الإسلام.
8_ أن أهل السنة والجماعة يسكتون عما شجر بين الصحابة _ رضوان الله عليهم _ من حروب قتل فيها الخلق الكثير.
فهذه جملة من اعتقاد أهل السنة والجماعة في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
والمخالفون لأهل السنة والجماعة في الصحابة فرقتان هما:
الروافض والنواصب:
أما الروافض: فقد نُسبوا لذلك لرفضهم وتركهم واستهانتهم بالشيخين أبي بكر وعمر _ رضي الله عنهما _ فزعموا أنهما ظلما علياً، واغتصبوا الخلافة منه، وبذلك تراهم يسبونهما سباً شديداً ويكفرونهما _ نعوذ بالله من شرهم، ومن شر ما يدعون إليه _.
أما عن عائشة وحفصة أمهات المؤمنين فعقيدتهم فيهما من أخبث ما يكون بل عقيدتهم في جميع الصحابة أنهم ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفر قليل منهم.
والروافض أقسام كثيرة _ لا كثرهم الله _ منهم:
1_ السبئية:
وهم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي _ قبحه الله _ حيث كانوا يعتقدون في علي رضي الله عنها لألوهية كاعتقاد النصارى في عيسى _ عليه السلام _وهؤلاء حرقهم علي رضي الله عنه بالنار.
2_ النصيرية:
هم أتباع محمد بن نصير البصري، وهو من غلاة الروافض الذين زعموا وجود جزء إلهي في علي، وألهوه.
ولذا قال شاعرهم:
أشهد أن لا إلـــه إلا | * * |
حيدرة الأذرع البطـــين |
ولا سبيـــل إليــه إلا | * * | محمد الصادق الأمين |
ولا حجاب عليه إلا | * * | سلمان ذو القوة المتــين |
3_ ومن الروافض أيضاً من يدعي في علي الرسالة، وأن جبريل خانها فنزل بها على محمد صلى الله عليه وسلم.
4_ ومنهم من يدعي فيه العصمة، ويرى أن خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان باطلة، ويشتمون طلحة، والزبير، وعائشة، ويرمونها بما رماها به ابن سلول _ قبحه الله _.
5_ ومنهم من يدعي أن علياً رفع إلى السماء كما رفع عيسى، وسينزل كما ينزل عيسى وهم أصحاب الرجعة.
6_ الزيدية: وهم الذين يدعون أنهم أصحاب زيد بن علي وأتباعه. فهؤلاء لا يشتمون الشيخين، ولا عائشة، ولا سائر العشرة، ولكنهم يفضلون علياً رضي الله عنه ويقدمونه في الخلافة، ثم يأتي بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم يسكتون عن عثمان رضي الله عنه، ويسبون معاوية _ غفر الله له _.
أما عن الشيعة الروافض في باب العقيدة فقد جمعوا من الشر منتهاه ، فهم في العقيدة معتزلة جهمية قدرية، وغيرها من الفرق الضالة نراهم أتباعاً لهذه الفرق.
ولذا قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “شر من وطئ الحصى”. وقال عنهم _ أيضاً _:”أنهم أفراخ المجوس”.
ومن هنا كان ولا بد من التحذير من شرهم، ومن شر ما يدعون إليه فهم كُثر _ لا كثرهم الله _ وأصبحوا يمثلون خطراً على أهل السنة في كل مكان فيجب التنبه، والتنبيه على خطرهم _ وقانا الله وإخواننا المسلمين شرهم _.
أما الطائفة الأخرى المخالفة لأهل السنة والجماعة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهم النواصب الذين نصبوا العداوة لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وذلك حينما رأوا الروافض غلو في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. قال النواصب: إذاً نبغض آل البيت، ونَسُبُّهُم مقابلة لهؤلاء الذين بالغوا في محبتهم، والثناء عليهم، والغُلو بهم.
لكن كما ذكرنا أهل السنة والجماعة هم الوسط بين الفرق كلها، فهم وسط بين الروافض، والنواصب، وقد ذكرنا جملة معتقدهم في ذلك.
وقول المؤلف: “وقل إن خير الناس بعد محمد”:
أي أيها السني قل بلسانك وبقلبك لنفسك ولغيرك إن خير الناس بعد نبيها محمد “وزيراه” والوزير هو المعين.
يقال اسْتَوْزَر فُلانٌ فلاناً: أي جعله وزيراً له يستشيره، ويأخذ برأيه، ويمده بما يحتاج إليه، وأحياناً يحمل عنه بعض أعبائه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم اتخذ أبا بكر، وعمر _ رضي الله عنهما _ وزيران له.
وقوله: “قِدماً”: يعني منذ القدم، لأنهم من بداية الدعوة، وهما ينافحان ويكافحان عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما أبو بكر فهو: “عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن مرة التيمي”.
أول الرجال إسلاماً، وأسبقهم لنصرة دين الله _ تعالى _.
ومن هنا رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدره، وشرفه، فذكر في فضله نصوصاً كثيرة من ذلك:
1_ أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس حين مرض فقال: “مُروا أبا بكر فليصل بالناس”([44]) قالها ثلاثاً، وفي رواية: “يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر“([45]). وذلك حين راجعته زوجته عائشة _ رضي الله عنها _ في شأن أبيها.
2_ ومن ذلك أيضاً ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: “إن الله _ تعالى _ خيَّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله U، قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخيَّر الله عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فيختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أمنّ الناس عليَّ، في صحبته وماله أبا بكر رضي الله عنه، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أُخوة الإسلام ومودته ولا يبقين في المسجد باب إلا سُد إلا باب أبي بكر رضي الله عنه“([46]).
3_ ومن ذلك _ أيضاً _ حينما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب النساء إليه؟ فقال: عائشة. فقيل له: من الرجال؟ فقال: أبوها“([47]) .
والأحاديث التي جاءت في فضله كثيرة، وقد نوه الكتاب العزيز على فضله كما قال _ تعالى _ في وصفه بالصحبة لنبيه صلى الله عليه وسلم:{إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}([48])، وقوله سبحانه وتعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ}([49])، وقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}([50]) .
قال جماعة من المفسرين: إن هاتين الآيتين نزلتا في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ومن هنا عرف الصحابة _ رضوان الله عليهم _ فضله.
ولذا قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في أبي بكر رضي الله عنه:
إذا تذكرت شجواً أخا ثقة | * * | فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا |
خير البرية أوفاها وأعدلها | * * | بعد النبي وأولاها بما حملا |
والتالي الثاني المحمود مشهده | * * | وأول الناس منهم صدَّق الرسلا |
فعاش حميداً لأمر الله متبعاً | * * | بأمر صاحبه الماضي وما انتقلا |
أما الوزير الثاني فهو: “أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن كعب العدوي” ثاني الخلفاء الراشدين، وإمام الحنفاء بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ونصوص السنة كثيرة في فضله فمن ذلك:
1_ قوله صلى الله عليه وسلم عنه: “والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط إلا سلك فجاً غير فجك“([51]).
2_ وقوله صلى الله عليه وسلم: “لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر“([52]).
3_ الآيات التي وافق عمر رضي الله عنه الوحي فيها كآية الحجاب، وآية النهي عن الصلاة على المنافقين، وكذا قصته في أُسَارى بدر معروفة لدى الجميع.
وقول المؤلف: “ثم عثمان الارجح”:
أي يأتي بعد ذلك في الفضل عثمان رضي الله عنه ذو النورين ففضيلة أبي بكر وعمر _ رضوان الله عليهما _ بالاتفاق.
فأبو بكر رضي الله عنه عند ذِكْرِنا أنه أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم كما قيل: “لو وُضِعَ إيمان أبي بكر في كِفَّة، وإيمان الأمة في كفة لرجحت كفة أبي بكر“([53]).
فأهل السنة يقولون بأنه أفضل البشر بعد الأنبياء، ثم يتلوه في الفضل عمر رضي الله عنه، ولا يفضل أحد علياً على أبي بكر، ولا يفعل ذلك إلا رافضي حاقد متعصب في قلبه غل، وحقد، وحسد.
قال الإمام أحمد رحمه الله: “لا يفضل علياً على أبي بكر وعمر إلا رافضي حاقد متعصب”.
أما عثمان بن عفان رضي الله عنه قال الناظم عنه في الترتيب: “ثم عثمان الارجح“: أي يأتي بعد أبي بكر، وعمر في الأفضلية، وهذا هو ما عليه أهل السنة والجماعة.
وعثمان هو: “عثمان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف” من السابقين الأولين في الإسلام.
وزوجته هي: “رقية بنت رسول الله، ولما توفيت _ رضي الله عنها _ أعني زوجته رقية _ زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته أم كلثوم _ رضي الله عنها _ وبذلك سُمِّيَ “ذو النورين”.
هاجر رضي الله عنه الهجرتين بزوجته رقية، وتخلف عن بدر لمرضها وضرب له صلى الله عليه وسلم بسهمه، وأجره، وفضائله، ومناقبه معروفة فمن ذلك:
1_ استحياء الملائكة منه: فعن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحالة، فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه، قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تَهْتَشَّ له ولم تباله، ودخل عمر ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ” ([54]).
2_ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان بعد تجهيزه جيش العُسرة: “ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم“([55]).
3_ ومن ذلك _ أيضاً _ شراؤه بئر رومة من خالص ماله، وجعلها بين المسلمين، وذلك حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولم يكن فيها غير بئر يستعذب منها إلا بئر رومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، وله خير منها في الجنة“([56]) فاشتراها عثمان من خالص ماله.
4_ ومن مناقبه أيضاً رضي الله عنه جمعه للقرآن الكريم، وذلك لما خشي اختلاف الناس في القرآن، وخصامهم فجمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على القراءة الأخيرة.
5_ ومن ذلك أيضاً بشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بالشهادة، وذلك حينما تحرك جبل أحد فقال صلى الله عليه وسلم: “اسكن أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان يعني عمر وعثمان“([57]).
فهذه جملة من فضائله، ومناقبه رضي الله عنه، وقد ابتلى رضي الله عنه، وضيق عليه، وأوذي، وحوصر في داره مدة طويلة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه قميصاً، وقال: “لا تنزعه وإن نزعوه منك” ثم قتل رضي الله عنه.
وقد جاء في كتب السيرة أنه قتل وهو يقرأ القرآن حتى نزلت بعض قطرات الدم على قوله _ تعالى _:{فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}([58]) وقد قيل _أيضاً _ إنه قتل وهو صائم. وهكذا الفتن إذا جاءت ونزلت بالناس فإنها تعمي وتصم _ عياذاً بالله من شرها _.
ولهذا خاض الناس وماجوا في هذه الفتنة، ولكن خيار الصحابة _ رضوان الله عليهم _ ما دخلوا في هذه الفتنة.
ولذا قال بعض التابعين فتنة طهر الله أيدينا منها، فنطهر ألسنتنا فرضي الله عن عثمان بن عفان.
وقول المؤلف: “الأرجح”:
أي الأرجح عند أهل السنة في تقديمه على عليّ رضي الله عنه فهناك خلاف في مسألة تقديم عثمان على عليّ _ رضي الله عنهما _ في الفضل.
فذهب البعض إلى تقديم عليّ على عثمان، وقال آخرون بتقديم عثمان على عليّ، وجماعة توقفوا، لكن استقر الأمر عند أهل السنة والجماعة على أن تقديمهم في الفضل كتقديمهم في الخلافة، ومن هنا كان عثمان رضي الله عنه مقدماً على عليّ في الفضل، والخلافة.
ورابعهم خير البرية بعدهم | ** | عليٌّ حليف الخير بالخير مُنجِح |
وقوله: “ورابعهم خير البرية بعدهم”:
أي بعد الثلاثة الذين تقدم ذكرهم “أبو بكر_ عمر_ عثمان”.
رابعهم في الفضل عليّ رضي الله عنه أمير المؤمنين أبو السبطين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم رضي الله عنه ابن عم رسول الله، كفله النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، فلما بعث آمن به، وهو ابن ثمان سنين، فكان أول من آمن من الصبيان، كما أن أبا بكر أول من آمن من الرجال، وخديجة أول من آمن من النساء، وورقة بن نوفل أول من آمن به من الشيوخ، وزيد بن حارثة أول من آمن به من الموالي، وبلال أول من آمن به من الأرقاء _ رضي الله عنهم جميعاً _.
ومناقب هذا البطل المغوار وفضائله كثيرة، فقد كان رضي الله عنه صاحب دعوة قريش حين نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}([59]) فأمر علياً أن يدعوهم له فيجتمعون للنذارة، وهو الذي فداه بنفسه فنام على فراشه يوم أن فكرت قريش في قتله، وهو الذي أدى الأمانات عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته، وهو الذي برز يوم بدر مع حمزة، وعبيدة لخصمائهم، وشهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها إلا تبوك، وهو الذي فتح الله على يديه خيبر، وهو الذي كان مع حماة النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان صاحب النداء بسورة براءة تبليغاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم في موسم الحج، وشريكه في هديه في حجة الوداع وخليفته في أهله في غزوة تبوك، وصاحب تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي مع جماعة من أهل البيت _ رضي الله عنهم _ جميعاً.
لكن ليس معنى ذلك أن نرفعه فوق منزلة أبي بكر، وعمر، وعثمان كما فعل ذلك الروافض، وذلك بكذبهم عليه وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقولهم عليه ما لم يقل كما ذكرنا مذهبهم فيه _ قبحهم الله _.
وقوله: “عليٌّ حليف الخير بالخير منجح”:
هذه صفة لعليّ رضي الله عنه فإنه رضي الله عنه كان حليفاً للخير دائماً فينطلق الخير من لسانه، ويده. كيف لا يكون كذلك، وقد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وسام، وهو ثبوت محبة الخالق له، ومحبته لخالقه _ سبحانه _ قال صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: “لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يده؛ فلما أصبحوا جاء الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن ينال هذا الوسام والشرف العظيم. فقال صلى الله عليه وسلم أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأُتِىَ به فبصق النبي صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له فبرأ رضي الله عنه كأن لم يكن به وجع، ثم أعطاه الراية _ صلوات الله وسلامه عليه _ ثم جاء فتح خيبر على يديه _ رضوان الله عليه _ فهو حقاً حليف للخير.
وقوله رحمه الله:
وإنهمُ للرهط لا ريب فيهم | ** | على نجب الفردوس بالنور تسرح |
في بعض النسخ: “والرهط“: ولعله الأقرب لأن الناظم رحمه الله في البيت الذي الذي بعد هذا جاء ببيان هذا الرهط، فيكون الضمير في “وإنهم” عائد على “أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي”_ رضي الله عنهم _ والرهط معطوف عليه، ويَعْني به الستة المذكورين بعدهم.
وقوله: “لا ريب فيهم”: أي لا شك فيهم عند أهل السنة من كونهم أصحاب فضل، وأصحاب منازل في الجنة.
وقوله: “على نجب الفردوس”: النجب النوق الكريمة، والفردوس أعلى الجنة، ووسط الجنة، كما جاء ذلك في الحديث.
وقوله: “بالنور تسرح”: بالجنة، وفي بعض النسخ: “بالخلد” فهؤلاء الأربعة، والرهط وهم باقي العشرة المبشرين بالجنة يسرحون على النوق الكريمة كيف شاءوا. ونحن لا نشهد بالجنة أو النار إلا لمن شهد له الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فقد شهد لهؤلاء العشرة بالجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: “أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة“([60]).
وقوله رحمه الله:
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة | وعامر فهر والزبير الممدح |
فقوله: “سعيد”: يعني “سعيد بن زيد بن نفيل” وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقوله: “وسعد”: يعني سعد بن أبي وقاص خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فداه الرسول صلى الله عليه وسلم بأبويه فقال: “من يحرسني…“؟ فقام سعد رضي الله عنه بحراسته وهذا قبل أن ينزل الله عليه صلى الله عليه وسلم:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}([61]).
ولهذا كان سعد يفخر بأمور منها ما ذكرناه، ولقد كان رضي الله عنه مجاب الدعوة، وله قصة مشهورة في ذلك.
وقوله: “وابن عوف”: أي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
وقوله: “وطلحة”: بن عبيد الله حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الشجاع البطل مناقبه معروفة يوم أحد رضي الله عنه.
وقوله: “وعامر”: هو “أبو عبيدة عامر بن الجراح الفهري” أمين هذه الأمة رضي الله عنه.
وقوله: “والزبير الممدح”: يعني “الزبير بن العوام” صاحب المدائح والمحامد العظيمة.
فهؤلاء الستة من خيار الصحابة _ رضي الله عنهم _ ولذلك لما توفي أبو بكر رضي الله عنه عهد بالخلافة إلى عمر رضي الله عنه فقيل له كيف تعهد بها إلى عمر؟ قال: إذا سألني ربي عن ذلك قلت له عهدت بها إلى خير الناس عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ولما طُعن عمر وطعنه عبد الرحمن بن ملجم _ قاتله الله _ قال عمر رضي الله عنه: إن أنا حييت فأنا خصمه، فإن مت فخذوه بي. أما عن الخلافة من بعده فقال: الأمر شورى بين من مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وهم هؤلاء الستة، ويكون معهم عبد الله يعني “ابن عمر” وهو ليس الأمر فيه، بل فقط يستشيرونه.
وقوله رحمه الله:
وقل خير قول في الصحابة كلهم | ** | ولا تك طعاناً تعيب وتجرح |
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة كما ذكرنا سابقاً، والمعنى قل أيها السني خير قول في الصحابة كلهم، لأنهم عدول لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: “خير القرون قرني ثم الذين يلونهم..”([62]). وقد رضي الله عنهم وأثنى عليهم في كتابه سبحانه وتعالى .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: لأهل بدر: “إن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم“([63]).
وقوله: “ولا تك طعاناً تعيب وتجرح”:
أي لا تكن ممن يطعنون فيهم من أهل الرفض وغيرهم ويعيبونهم ويقدحون في صحبتهم فهذا مذهب الرافضة.
فقد نطق الوحي المُبِينُ بفضلهم | ** | وفي الفتح آي للصحابة تمدح |
وقوله: “فقد نطق الوحي المبين بفضلهم”: أي نطق القرآن الكريم بفضل
هؤلاء الصحابة فنفى ذلك عنهم والقدح فيهم هو في الحقيقة تكذيب لنصوص
الكتاب والسنة .
وقوله: “المبين”: أي الواضح البين فدلالة القرآن واضحة بينة في فضل الصحابة _ رضي الله عنهم _ أجمعين.
وقوله: “وفي الفتح آي للصحابة تمدح”: أي في سورة الفتح آيات تدل على فضل الصحابة _ رضوان الله عليهم _ منها:
1_ قوله _ تعالى _: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ..}([64]).
2_ وقوله _ تعالى _:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ..}([65]).
3_ وقوله _تعالى_:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}([66]).
4_ وقوله _ تعالى _:{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ..} ([67]) .
5_ وقوله _ تعالى _:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ..}([68]) .
وليعلم كما ذكرنا سابقاً أن مذهب أهل السنة والجماعة الذي بيَّنا طرفاً منه سابقاً هذا المذهب هو وسط بين الرافضة والخوارج “النواصب” فالرافضة غلو في آل البيت، وطعنوا في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والخوارج كفروا علي بن أبي طالب، وكفروا معاوية بن أبي سفيان، وكفروا كل من لم يكن على طريقتهم واستحلوا دماء المسلمين. لكن أهل السنة كانوا وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء، فقالوا نحن ننزل أهل البيت منزلتهم ونرى أن لهم حقين علينا:
الأول: حق الإسلام والإيمان.
الثاني: حق القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذان الحقّان ليس معناهما أننا نغالي فيهم ونجعلهم غير معصومين.
أما باقي الصحابة _ رضي الله عنهم _ فلهم الحق علينا بالتوقير والإجلال والترضي عنهم ولا يعادون أحداً منهم أبداً لا آل البيت ولا غيرهم، فهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة في الصحابة _ رضوان الله عليهم _.
وقال رحمه الله:
21 | وبالْقَدَرِ المقدور أيقن فإنـه | ** | دِعامة عِقْد الدينِ، والدينُ أَفْيَح |
الشرح:
هنا يبين المؤلف رحمه الله ويقرر عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بالقدر فيقول أيها السني المتمسك بالكتاب والسنة المتبع لسلف الأمة:
“أيقن”: أي آمن بالقدر المقدور أي الذي كتبه الله _ تعالى _ على خلقه قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة. كما جاء ذلك في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنهما _ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء“([69]). والإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان الستة، وأصل من أصول الدين.
ولذا نبه عليه المؤلف هنا فقال في شأنه :“دعامة عقد الدين”: أي أصل وأساس الدين.
أما نصوص الكتاب، والسنة، والإجماع في وجوب الإيمان بالقضاء والقدر، فهي كثيرة معلومة لدى القاصي والداني، فمن ذلك:
1_ قوله _ تعالى _:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ([70]) .
2_ وقال _ تعالى _:{.. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً}([71]) .
3_ وقال _ تعالى _:{.. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً}([72]).
4_ وقال _ تعالى _:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا..}([73]) .
أما أدلة السنة فهي كثيرة منها:
1_ حديث جبريل u الطويل وفيه قوله صلى الله عليه وسلم حينما سُئل عن الإيمان فقال: “أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره“([74]) .
2_ وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صفحتها، ولتنكح فإن لها ما قُدِّر لها“([75]).
3_ وروى مسلم أيضاً عن طاووس أنه قال : “أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر”. قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل شيء بقدر حتى العجز والكيس“([76]).
4_ وفيه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}([77]) .
5_ وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان“([78]).
6_ وفي سنن الترمذي وغيره من حديث ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قول النبي صلى الله عليه وسلم: “واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك“([79]) ، والأحاديث في باب القدر كثيرة جداً.
ومن خلال النصوص الواردة في القضاء والقدر ذكر العلماء أن للإيمان بالقضاء والقدر أربع مراتب:
المرتبة الأولى : مرتبة العلم:
وهي الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء من الموجودات، والمعدومات، والممكنات والمستحيلات، فعلمه _ سبحانه وتعالى _ ما كان ويكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. ومن ذلك علمه ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم، وآجالهم وأحوالهم، وأعمالهم، وشقيهم، وسعيدهم. كما دل على ذلك قوله _ تعالى _:{.. لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}([80]). وقال _ تعالى _:{عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ([81]) .
وقال _ تعالى _: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى}([82]) .
والآيات في إثبات علم الله السابق للأشياء قبل وقوعها كثيرة جداً.
أما الأحاديث فمن ذلك:
1_ قال البخاري رحمه الله: “باب الله أعلم بما كانوا عاملين _ وساق حديث ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: “الله أعلم بما كانوا عاملين“([83]).
2_ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما مـن مولـود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه، كما تنتجون البهيمة هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها” قال: يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: “الله أعلم بما كانوا عاملين“([84]).
3_ وعن عمران بن حصين قال: قال رجل يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: “نعم“، قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: “كل يعمل لما خلق له، أو لما يسر له“([85]).
والأحاديث في هذه المرتبة يطول ذكرها.
المرتبة الثانية : الكتابة:
والمراد بها كتابة الله مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، ودليل هذه المرتبة من الكتاب:
1_ قوله _ تعالى _:{.. مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}([86]) .
2_ وقوله _ تعالى _:{.. وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}([87]) .
3_ وقوله _ تعالى _:{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ* وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ}([88]).
4_ وقوله _ تعالى _:{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى* قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ..}([89]). إلى غير ذلك من الآيات التي ربط الله _ تعالى _ العلم فيها بالكتاب.
أما الأحاديث على هذه المرتبة فمن ذلك:
1_ ما رواه البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عود ينكت به في الأرض وقال: “ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو الجنة، فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال:لا اعملوا فكل ميسر، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}“([90]).
2_ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء سراقة بن مالك قال: يا رسول الله بيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم نعمل اليوم أفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟. قال: “ لا بل فيمـا جفـت بـه الأقــلام، وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر“([91]).
وروى البخاري ومسلم أيضاً في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كتب على ابن آدم نصيبه من الزنــا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناها النظر، والأذنان زناها الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدان زناها البطـش، والرجل زناها الخطـــا، والقلـب يهـوى ويتمـنى، والفرج يصدق ذلك ويكذبه“([92]).
والإيمان بكتابة المقادير يدخل فيه خمسة مقادير:
الأول: التقدير الأزلي قبل خلق السماوات والأرض:
كما دلت عليه نصوص القرآن السابقة، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنهما _، وكذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة“([93]).
الثاني: كتابة الميثاق:
وذلك يوم أن قال الله _ تعالى _ لبني آدم يوم خلقهم: {..أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}([94]) .
الثالث: التقدير العمري:
وذلك عند خلقه سبحانه وتعالى النطفة في الرحم، فيكتب للجنين وهو في بطن أمه ذكر أو أنثى، شقي أو سعيد، ويكتب أجله، وعمله، ورزقه، وجميع ما يلقاه في دنياه دل على ذلك قوله _ تعالى _:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}([95]).
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: “إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة“([96]).
الرابع: التقدير الحولي:
وهو الذي يكون في ليلة القدر، فإن ليلة القدر يكتب فيها ما يكون في تلك السنة،
قال _تعالى_:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}([97]).
المرتبة الثالثة: من مراتب الإيمان بالقدر الإيمان بالمشيئة:
والمراد بها الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وليس من حركة، ولا سكون، ولا هداية، ولا إضلال إلا بمشيئة الله _ سبحانه وتعالى _.
وهذه المشيئة تجتمع مع القدرة الشاملة فيما كان، وفيما سيكون، وتفترقان فيما لم يكن وليس بكائن، فما شاء الله كونه فهو كائن بقدرته لا محالة، وما لم يشأ كونه فإنه لا يكون لعدم مشيئته لا لعدم قدرته عليه قال الله _تعالى_:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}([98]) .
أما أدلة هذه المرتبة أعني مرتبة المشيئة فكثيرة منها:
1_ قوله _ تعالى _:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}([99]) .
2_ وقال _ تعالى _:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ}([100]) .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنهما _ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء..” ([101]).
المرتبة الرابعة : الخلق:
وهذه هي المرتبة الأخيرة من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، وهي الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ساكن وسكونه، فلا خالق غيره، ولا رب سواه.
ومن الإيمان بهذه المرتبة الإيمان بأن للعباد قدرة على أعمالهم ولهم مشيئة، والله _ تعالى _ خالقهم، وخالق قدرتهم، ومشيئتهم، وأقوالهم، وأعمالهم، وهو _ سبحانه _ الذي منحهم إياها، وأقدرهم عليها، وبحسبها كُلفوا، وعليها يثابون ويعاقبون. وقد خالف أهلَ السنة والجماعة في الركن السادس من أركان الإيمان أي “القضاء والقدر” كلٌ من الجبرية، والقدرية.
الفرقة الأولى: الجبرية:
وهؤلاء غلو في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته وأنكروا أن يكون للعبد فعل، فهو كالريشة في مهب الريح تتصرف فيها الريح كيف تشاء.
وقالوا أيضاً: إن كل ما خلقه الله فقد رضيه وأحبه وعلى هذا فالله _ تعالى _ خلق إبليس، وفرعون، وهامان، وقارون، وسائر الكفرة الطغاة خلقهم، ورضي بكفرهم، وأحبهم بناء على قولهم الفاسد.
وقالوا أيضاً: إن العباد ليسوا بحاجة إلى العمل ولا إلى الأخذ بالأسباب لأن ما قدَّر عليهم سوف يأتيهم وهذا كله فساد وضلال فالله تعالى أمر بالأخذ بالأسباب ودعا إليها.
وقالوا أيضاً: إن الإنسان ليس له القدرة التي تؤثر في الفعل، بل هو كالريشة في مهب الريح، وبذلك تراهم تاركين للعمل احتجاجاً بالقدر، وإذا عملوا أعمالا مخالفة للشرع احتجوا بالقدر على وقوعها.
وكل هذه الأقوال مصادمة للشريعة الإسلامية، والفطرة، والعقل السليم، ومن هنا قام علماء السنة بالرد على هذه الفرقة المنحرفة الضالة.
الفرقة الثانية: القدرية:
وهذه الفرقة أيضاً قد ضلت في مسألة الإيمان بالقضاء والقدر فقالوا:
1_ إن الله _ تعالى _ لا يعلم الأشياء قبل وقوعها.
2_ إنه _ تعالى _ إذا أمر عباده لا يعلم المطيع منهم والعاصي إلا بعد صدور ذلك منه.
3_ قالوا أيضاً إن الإنسان هو الذي يوجد عمل نفسه من غير إرادة الله تعالى أو علمه به.
وهذه الأقوال وغيرها مما يقولونه كفر بالله صريح نعوذ بالله من ذلك.
ولما ظهرت هذه الفرقة أعني القدرية في عصر الصحابة _ رضوان الله عليهم_ أنكروا عليهم هذه الضلالات ونهوا الناس عن الاستماع لبدعهم.
شبهة القدرية في ذلك:
لعل من أبرز شبههم في قولهم هذا هو أنهم قصدوا بذلك تنزيه الله _ تعالى_ فزعموا أن الله _ تعالى _ شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر وحجتهم في ذلك أن ذلك يؤدي إلى الظلم، إذ كيف يشاء الله الكفر من الكافر ثم يعذبه عليه؟. وهذه من أعظم الشبه التي وقعوا فيها ومن هنا أرادوا أن ينزهوا الله فوقعوا في شر أعظم منه، وهو أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، وهذا من أقبح الاعتقاد.
وقوله رحمه الله:” دعامة عقد الدين والدين أفيح”:
“أفيح”: يعني أوسع، والدين يشمل أموراً كثيرة ومنها هذا، وهو الإيمان بالقضاء والقدر.
وقال رحمه الله:
22 | ولا تنكرن جهلاً نكيراً ومنكراً | ** | ولا الحوض والميزان إنك تُنْصح |
23 | وقل يُخْرِج الله العظيمُ بفضله | ** | من النار أجساداً من الفحم تُطرح |
24 | على النهر في الفردوس تحيا بمائه | ** | كَحِبِّ حَمِيلِ السَّيْل إذ جاء يَطْفَح |
25 | وإن رسول الله للخلق شافع | ** | وقل في عذاب القبر حق مُوَّضح |
الشرح:
هذه الأبيات المذكورة هي جملة مما يجب الإيمان به في اليوم الآخر، وذلك من حين خروج الروح إلى حصول العرض على الله _ تعالى _. فمازال المؤلف يخاطب صاحب السُنَّة ليبين له المعتقد الحق في الإيمان باليوم الآخر.
فذكر هنا أشياء منها قوله: “ولا تنكرن جهلاً نكيراً ومنكراً” أي أيها السني لا تكن مُنْكراً، ولا يوقعك جهلك بإنكار منكرٍ ونكيرٍ.
ولهذا قال: “جهلا“: وهي هنا مفعولٌ لأجله يعني لا تنكر من أجل الجهل منكراً ونكيراً. ومنكرٌ ونكيرٌ ملكان جاء ذكرهما في السُنة من حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم عند الترمذي، وغيره، وفيه: “.. أتاه منكر ونكير أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي البقر _ أي قرونها _ وأصواتهما مثل الرعد القاصف” ([102]).
وهذان الملكان هما اللذان يسألان الميت في قبره حين يفتن بالسؤال، فيقولان له من ربك؟، ما دينك؟، من نبيك؟، فإذا كان مؤمنا حقاً أجاب: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان منافقاً أو كافراً _ عياذاً بالله من ذلك _ قال: ها ها لا أدري، فيقال: لا دريت ولا تليت فيُضْرب بمرزبة من حديد، أما المؤمن فيفتح له بابٌ من الجنة، والمنافق أو الكافر يفتح له باب من النار؛ فيبقى المؤمن في سعادة إلى أن تقوم الساعة، والكافر يبقى في عذاب وجحيم إلى أن تقوم الساعة.
والإيمان بعذاب القبر ونعيمه جاءت به نصوص السنة فهو واجب ولذا ذكره المؤلف هنا، واستعاض بذكر الملكين هنا عن عذاب القبر لاشتمال ذكرهما على ذلك. فعذاب القبر وإحياء الموتى في قبورهم وسؤالهم من قبل منكر ونكير كل ذلك ثابت وواجب القول به.
وخالف أهلَ السنة هنا المعتزلةُ فأنكروا عذاب القبر وإحياء الميت في قبره وأنكروا منكراً ونكيراً وغير ذلك مما يحصل للميت في قبره، وهذا ليس بغريب على هؤلاء المنحرفين فهم من قبل جحدوا أسماء الله وصفاته، وجحدوا ما صرح به _ تعالى _ في محكم آياته وردوا ما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله، وأفعاله، وتقريره، وحَكَّمُوا العقل على الشرع، فمتى وافق العقلُ الشرعَ أخذوا به، ومتى خالف الشرعُ العقلَ قدموا العقلَ على الشرع، ولذا قالوا بعقولهم الفاسدة.
إننا نرى الرجل يصلب ويبقى مصلوباً إلى أن تذهب أجزاؤه ولا نشاهد فيه إحياء ومسألة، وأبلغ من ذلك من أكلته السباع والطيور، وتفرق في بطونها وحواصلها، وأبلغ من ذلك من أحرق بالنار وصار رماداً وفتت أجزاؤه وذريت في الرياح العاصفة، كل هذا عقلاً لا يحصل فيه عذاب ولا نعيم، ولا سؤال، ولا غير ذلك.
وهذه خلاصة شبههم السخيفة، ومحصل آراءهم الفاسدة التي قاسوا بها عالم الدنيا بعالم الآخرة، وهذا من أعظم ضلالهم، والآيات التي جاءت في إثبات عذاب القبر، وكذا الأحاديث متواترة لا ينكرها إلا جاحد منكر لنصوص الكتاب والسنة.
فمن هذه النصوص قوله _ تعالى _ :
1_{وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ..}([103]). قال أئمة التفسير في قوله تعالى {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} أي بالضرب والنكال، وأنواع العذاب حتى تخرج نفوسهم من أجسادهم.
2_{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}([104]). هذه الآية نص في عذاب القبر بصحيح السنة، واتفاق أئمة التفسير من الصحابة، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
3_{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ}([105]). جاء في تفسيرها العذاب الأدنى هو عذاب القبر، والعذاب الأكبر يعني في النار.
4_ وقال _ تعالى _ عن آل فرعون:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}([106]). ففيها دلالة واضحة على ثبوت عذاب القبر لآل فرعون، والآيات في هذا الأمر كثيرة.
أما الأحاديث فهي متواترة نذكر منها حديثين فمن ذلك:
1_ قال البخاري رحمه الله: _ باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف _: وساق بسنده عن أم المؤمنين عائشة _ رضي الله عنها _ زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة _ رضي الله عنها _ رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعذب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عذاب القبر حق” قالت عائشة: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى إلا تعوذ من عذاب القبر”([107]).
2_ عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين قال: “إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله..”([108]).
والأحاديث في عذاب القبر متواترة كما ذكرنا ذلك آنفاً.
وقوله رحمه الله: “ولا الحوض والميزان إنك تُنصح”:
أي أيها السني لا تكن أيضاً ممن ينكر الحوض، يعني حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا الميزان لأن نصوص الكتاب والسنة جاءت بهذا.
أولاً: الحوض:
أما الحوض فهو مما اتفق أهل السنة والجماعة على وجوب الإيمان به، كما قال ابن عبد البر رحمه الله: “الأحاديث في حوضه صلى الله عليه وسلم متواترة صحيحة ثابتة كثيرة والإيمان بالحوض عند جماعة علماء المسلمين واجب، والإقـــرار به عند الجماعة لازم..”([109]).
أما أدلة أهل السنة على ثبوت الحوض منها:
قوله _ تعالى _:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}([110]). وفي تفسير “الكوثر” جاء في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينا الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسماً فقلت: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: ” أنزلت عليَّ آنفاً سورة فقرأ:{سبحانه وتعالىjk* إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي _ عز وجل _ عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء فيُخْتَلج العبد منهم فأقول ربِّ إنه من أمتي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك“([111]). هذه السورة أثبتت الحوض، وهو مجمع مصب ماء نهر الكوثر في عرصات القيامة.
ومن الأدلة أيضاً على ثبوت الحوض قوله صلى الله عليه وسلم: “أنا فرطكم على الحوض من ورد شرب، ومن شرب لم يظمأ بعده أبداً، ليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم“([112]).
فالأحاديث التي جاءت في ثبوت الحوض مشتهرة ومستفيضة، بل تواتر ذكره في كتب السنة من الصحاح، والمسانيد، والسنن.
ثانياً: الميزان:
الإيمان بالميزان من جملة ما يجب الإيمان به فيما يكون يوم القيامة. والميزان هو ما يوزن به أعمال العباد. وهل الذي يوزن العباد أنفسهم أم توزن أعمالهم أم توزن الصحائف؟
أقوال ثلاثة: أصحها كما قال شيخ الإسلام: “إن الذي يوزن الأعمال والصحائف والعباد جميعاً كلها توزن بهذا الميزان”. فأهل السنة يُثْبِتُون أن الله _ تعالى _ ينصب الميزان يوم القيامة فتوزن حسنات وسيئات العباد إظهاراً للعدل، ومن أدلتهم في ذلك:
1_ قوله _ تعالى _:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}([113]) .
2_ وقوله _ تعالى _:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}([114]) .
3_ وقوله _ تعالى _:{فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}([115]).
أما السنة: فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم“([116]).
وقوله رحمه الله:
وقل يخرج الله العظيم بفضله | ** | من النار أجساداً من الفحم تطرح |
مازال المؤلف رحمه الله يواصل وصاياه القيمة المفيدة لصاحب السنة فيقول له : أيها السني قل واعتقد أن الله _ تعالى _ يخرج من النار عصاة الموحدين الذين يدخلون النار، يخرجهم الله _ تعالى _ من النار بعد أن يعذبوا على قدر ذنوبهم، فالذين يدخلون النار إما كفرة مخلدون فيها والعياذ بالله، وإما عصاة من عصاة الموحدين، فهؤلاء يعذبون على قدر ذنوبهم سواء كانت كبيرة أو صغيرة.
والأدلة على خروج عصاة الموحدين من النار مستفيضة، وخالف في ذلك الخوارج والمعتزلة وقالوا: بأن من أتى بكبيرة من الكبائر فإنه يدخل النار ولا يخرج منها أبداً، وإن مات على التوحيد. وهذا قول باطل مصادم لنصوص الكتاب والسنة، ولهذا قام أهل السنة على هاتين الفرقتين وضللوهما، وجاءوا بالأدلة الدالة على خروج عصاة الموحدين من النار. ومن هذه الأدلة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:”… حتى إذا فرغ الله تعالى من فصل القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أنه يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله _ تعالى _ أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر سجودهم تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون تحته كما تنبت الحبة في حميل السيل…”([117]) .
فهذا الحديث وغيره فيه بيان خروج عصاة الموحدين من النار.
وقول المؤلف: “أجساداً من الفحم تطرح”: أي تفحمت هذه الأجساد “تطرح”: أي تُلقى في نهر الحياة .
على النهر في الفردوس تحيا بمائه | ** | كَحِبِّ حَمِيل السيل إذ جاء يطفح |
وقوله: “على النهر في الفردوس تحيا بمائه”
أي نهر الحياة حينما تطرح فيه أجساد العصاة من أهل التوحيد عندها يحييها الله _ تعالى _ كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن العصاة “فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحياة“([118])
وقوله: “كَحِب حميل السيل”:
أي كحب، وهو البذر، وحميل السيل الذي يحمله السيل “إذ جاء يطفح“: أي يظهر، ألا ترون السيل إذا مر يحمل معه من البذر والأشياء الكثيرة، ثم يطرحها في مكان، ثم تنبت هذه الحبة التي حملها السيل وتبقى هشة. هذا الذي ينبت بعد تفحمه ينبت نباتاً جديداً كحبة حميل السيل التي تطفح من جراء السيل.
وقوله رحمه الله:
وإن رسول الله للخلق شافع | ** | وقل في عذاب القبر حق موضح |
في هذا البيت ذكر المؤلف شيئين مما يجب الإيمان به، أحدهما: عذاب القبر وقد تقدم الكلام عليه، والثاني ثبوت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأهل السنة والجماعة يثبتون شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، والملائكة، والمؤمنين وفق ما جاءت بذلك نصوص الكتاب والسنة.
أما المعتزلة والخوارج فهم على النقيض من ذلك فهم لا يثبتون الشفاعة لأنهم يرون أن فاعل الكبيرة مخلد في النار حاله كحال من أشرك بالله، فمن زنى، وشرب الخمر، وغيره من الكبائر حاله كحال من أشرك بالله لا تنفعه الشفاعة، ولن يأذن الله لأحد بالشفاعة له، وذلك لأن إنفاذ الوعيد واجب عندهم فكذبت بذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ونفتها مع ثبوت أدلتها من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
قال الله _ تعالى _:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}([119]). وقال _ تعالى _:{يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً}([120]) . وقال _ تعالى _:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}([121]) . فهذه بعض الآيات في ثبوتها.
أما الأحاديث فهي متواترة ولله الحمد، فمن ذلك قوله _ تعالى _ لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: “…. يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول: يارب أمتي يا رب أمتي…”([122]).
وقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا”([123])، والأحاديث في إثباتها كثيرة جداً.
وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة قسمان:
القسم الأول: ما اختص به صلى الله عليه وسلم عن غيره من الأنبياء وغيرهم وهي كالآتي:
1_ الشفاعة العظمى: وهي شفاعته لأهل الموقف أن يتخلصوا من هول الموقف، وليقضي بينهم فيقول صلى الله عليه وسلم حينما يأتي إليه الخلائق فيسألونه الشفاعة عند ربهم فيقول: “أنا لها” بعد اعتذار جميع الأنبياء عنها.
2_ شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة: ليدخلوها بعد الفراغ من الحساب.
3_ شفاعته صلى الله عليه وسلم لتخفيف العـذاب عن عمه أبي طالب: لما كان يقوم به من حمايته والدفاع عنه فجعل في ضحضاح من نار، ولولا ذلك لكان في الدرك الأسفل منها.
4_ شفاعته لقوم استحقوا دخول النار ألا يدخلوها.
5_ شفاعته في قوم تساوت حسناتهم مع سيئاتهم فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة.
6_ شفاعته في رفع درجات بعض المؤمنين من أهل الجنة.
7_ شفاعته في دخول بعض المؤمنين إلى الجنة بغير حساب ولا عذاب كدعائه لعكاشة بن محصن.
القسم الثاني: الشفاعة المشتركة: وهي التي يشاركه فيها الملائكة، والنبيون، والمؤمنون، وهي نوع واحد فقط، وهي الشفاعة في أهل الكبائر ممن دخل النار كما قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله يخرج قوماً من النار بالشفاعة“([124]).
فهذه هي أنواع الشفاعة التي تحصل يوم القيامة، والتي ضل المعتزلة والخوارج فيها فنفوها _ نسأل الله تعالى السلامة والعافية _.
وقال رحمه الله:
26 | ولا تُكْفِرَنْ أهل الصلاة وإن عصوا | ** | فكلهمُ يعصي وذو العرش يصفح |
الشرح :
يعني المؤلف بكلامه هذا بيان ما يجب اعتقاده في أصحاب المعاصي فيقول: أيها السني لا تكفر أهل القبلة ممن صلى لا تكفره وإن وقع في المعصية.
وهذا رد على الطوائف الضالة في تكفير أصحاب الكبائر، فالناس في أصحاب الكبائر طرفان ووسط.
الخوارج قالوا: إن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار.
والمعتزلة قالوا: بأنه في منزلة بين المنزلتين فلا نقول كافر، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، لكنهم وافقوا الخوارج في تخليده في النار.
أما أهل السنة والجماعة فقالوا: بأن مرتكب الكبيرة الحق فيه أنه لا يكفر وإنما يقال مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو يقال مؤمن ناقص الإيمان ولا يخلدونه في النار.
ومن هنا نبه المؤلف على هذه المسألة التي ضل فيها المعتزلة والخوارج.
وقوله: “ولا تُكْفِرَنْ أهل الصلاة”: فيه إشارة إلى تكفير تارك الصلاة كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة قال _ تعالى _:{ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}([125]) . وقال _ تعالى _:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}([126]). وقال صلى الله عليه وسلم: “بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة“([127]).
وقال _ أيضاً _ صلى الله عليه وسلم: “العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر“([128]) ، وغير ذلك من الأدلة التي أتت بالتنصيص على كفر تارك الصلاة، وهذا هو الراجح فيمن تركها بالكلية، ويرى شيخنا عبد العزيز بن باز أن من ترك وقتاً واحداً فقط حتى خروجه من غير عذر فإنه يكفر، فهذا من أشد وأقوى أقواله _ عليه رحمة الله _.
وقوله: “وإن عصوا”: أي وإن وقعوا في المعصية صغيرة كانت أو كبيرة.
وقوله: “فكلهم يعصي”: أي كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون فلا يسلم أحد من الذنب.
“وذو العرش“: أي خالق العرش هو صاحب العفو والصفح عن عباده فمن تاب تاب الله عليه، ومحا عنه ذنوبه فضلاً منه ورحمة، فسبحان من لا يتعاظمه شيء.
وقال رحمه الله:
27 | ولا تعتقدْ رأي الخوارج إنه | ** | مقال لمن يهواه يُردِي ويَفْضَح |
الشرح:
أي أيها السني لا تعتقد رأي الخوارج لأنهم يرون أن صاحب الكبيرة خالد مخلد في النار كما ذكرنا ذلك سابقاً، ولهذا تراهم كفَّروا الصحابة، وسُمُّوا خوارج لأنهم خرجوا على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بعد مقتل عثمان رضي الله عنه فكفَّروه، وقالوا لما رضي التحكيم: لا نرضى به. فقاتلوه وتسببوا في قتله على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم _ عليه من الله ما يستحق _.
والمهم أن المؤلف رحمه الله يحذر السني من الوقوع في منزلق الخوارج.
ثم بين الحكمة من النهي عن الوقوع في قولهم بقوله: “مقال لمن يهواه يردي ويفضح”: يعني أن اتباع قولهم ومعتقدهم يردي ويفضح، ويوقع في الحرج.
ولهذا جاءت نصوص السنة تحذر من الوقوع في قولهم قال صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: اتق الله واعدل فقال له صلى الله عليه وسلم: “ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله..” ثم ولى الرجل ، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لعله أن يكون يصلي. فقال خالد: فكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم، ثم نظر صلى الله عليه وسلم إلى الرجل وقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتـاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقـون من الدين كما يمرق السهم من الرمية“. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه راوي الحديث: أظنه قال: “لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود“([129]).
والخوارج لهم معتقدات ذكرنا منها طرفاً ونجملها فيما يلي :
1_ تكفير صاحب الكبيرة: وذلك بناء على سوء فهمهم لكتاب الله _ تعالى_ حيث أنزلوا الآيات التي نزلت في الكفار أنزلوها على المؤمنين العصاة وتمسكوا بظواهر النصوص من غير اعتبار للآيات الأخرى.
2_ وجوب الخروج على الأئمة: إذا وقعوا في معصية باعتبار أنهم كفار بناء على تكفيرهم مرتكب الكبيرة.
3_ إنكار الشفاعة: وذلك بناء على أن صاحب المعصية كافر وبالتالي لا تنفعه الشفاعة.
4_ تكفيرهم للصحابة _ رضوان الله عليهم _ كعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وأم المؤمنين عائشة _ رضي الله عنها _ وكذا من رضي بالتحكيم.
5_ أما في جانب العقيدة فهم جهمية ينكرون صفات الله _ تعالى _، فهم يقولون بخلق القرآن، وينكرون الرؤية في الآخرة.
سؤال يطرح نفسه: هل هناك من يتبنى فكرهم؟
نقول: نعم، هناك من يتبنى فكر الخوارج ويعتنق مبادئهم، ومن أشهر من تبنى فكرهم في العصر الحاضر جماعة تدعى “جماعة التكفير والهجرة” التي ظهرت في بعض بلدان المسلمين، فقد تبنت هذا الفكر وأطلقت حكم التكفير على الحكام لأنهم لا يحكمون بما أنزل الله من غير تفصيل، وكذلك حكمها على المحكوم بذلك لكونه رضي بهذه الأحكام، وكفروا من لم ينضم إلى جماعتهم، ومن انضم إليهم ثم تركهم وتبين له ضلالهم فهو عندهم مرتد حلال الدم، ولا يزال هذا الفكر ينخر في جوف الأمة يكفرون المسلمين ويستحلون دماءهم، نسأل الله أن يرد كيدهم في نحورهم.
وهكذا الشيطان يجر أعوانه وقرناءه من حال سيئ إلى حال أسوأ.
ولهذا جاء تحذير الناظم من هذه الفرقة الضالة ومما تتبناه من عقائد.
وقال رحمه الله:
28 | ولا تك مرجياً لعوباً بدينه | ** | ألا إنما المرجيُّ بالدين يمزح |
الشرح :
هنا يحذر المؤلف رحمه الله السني من فرقة أخرى منحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة، وهي المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة. وسُمُّوا مرجئة لأنهم أرجؤوا العمل أي أخروه وأبعدوه عن الإيمان، وقالوا إن الإيمان هو التصديق فقط، والأعمال ليست داخلة فيه، وإذا كنت مؤمناً فأنت إيمانك كإيمان أبي بكر، بل يستوي إيمانك بإيمان الأنبياء.
ولذلك عندهم الزاني، والسارق، وشارب الخمر، والقاتل مؤمنون كاملوا الإيمان _ إيمانهم كإيمان الصديق رضي الله عنه بل كإيمان جبرائيل، ولأن الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، وغير ذلك من الأقوال الباطلة التي تتبناها هذه الفرقة المنحرفة.
والمرجئة فرق متعددة، فمنهم من يقول:
الإيمان هو: المعرفة فقط. ومنهم من يقول: الإيمان هو: مجرد التصديق.
ومنهم من يقول: إنه مجرد النطق. ومنهم من يقول: إنه مجرد النطق والاعتقاد.
وكلهم مع اختلاف أقوالهم في الإيمان إلا أنهم متفقون على إخراج العمل عن مسمى الإيمان . ولما كان هذا هو معتقدهم حذر المؤلف من الأخذ بعقيدتهم فقال: “ألا إنما المرجي بالدين يمزح” وذلك لأن أهل الإرجاء يلعبون بالدين لعباً من جهة أن أصحاب المعاصي والذنوب إيمانهم كإيمان الأنبياء والمرسلين، وهذا في الحقيقة لعب بالشريعة.
من قال هذا؟ لا يقوله صاحب عقل على الإطلاق.
ولذلك ترى أهل الإرجاء شجعوا الناس على ترك الطاعات، وفعل المنكرات فكم من تارك للصلاة، وتارك للزكاة، وغيره من الطاعات بحجة أن الإيمان مجرد النطق فقط، وهذا كله ضلال مبين .
ومن هنا كان أهل السنة وسطاً بين الخوارج الذين جعلوا الأعمال شرطاً في الإيمان مَنْ تَركها كفر، وأن المعاصي تُذْهب الإيمان بالكلية، وبين المرجئة الذين قالوا بعدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
فأهل السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فأهل السنة يقولون إن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان.
وقال رحمه الله:
29 | وقل: إنما الإيمان قول ونيـة | ** | وفعل على قول النبي مُصرَّح |
30 | وينقص طوراً بالمعاصي وتارة | ** | بطاعته يَنْمِي وفي الوزن يرجح |
الشرح :
هنا بيّن رحمه الله عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان، وينصح السني باعتقادها، والتمسك بها، والدعوة إليها. فيقول: “وقل إنما الإيمان قول ونية”: أي أيها السني قل إنما الإيمان “قول ونية وفعل على قول النبي مصرح”. هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان وهي أربعة أشياء:
الأول: قول القلب، وهو تصديقه وإيقانه.
الثاني: قول اللسان، وهو النطق بالشهادتين، والإقرار بلوازمها.
الثالث: عمل القلب، وهو النية، والإخلاص، والمحبة، والانقياد، والإقبال على الله، والتوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه.
الرابع: عمل اللسان والجوارح، عمل اللسان كتلاوة القرآن، والتسبيح والتحميد، وغير ذلك، وعمل الجوارح مثل القيام، والركوع، والسجود، والمشي في مرضات الله، وغير ذلك من أعمال الجوارح.
هذا هو معتقد أهل السنة في الإيمان.
وقوله: “ونية”: أي فلا بد من النية لقوله صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات“([130]).
وقوله: “على قول النبي مصرح”: أي هذا مصرح به على قول النبي صلى الله عليه وسلم “على قول” جار ومجرور خبر مقدم، و”مصرح” مبتدأ مؤخر، وكأنه قال هذا هو معنى الإيمان مصرح به على قول النبي صلى الله عليه وسلم.
وينقص طوراً بالمعاصي وتارة | ** | بطاعته يَنْمِي وفي الوزن يرجح |
وقوله: “وينقص طوراً بالمعاصي وتارة ……. بطاعته ينمي”: أي أن الإيمان ينقص ويزيد، وهذه من المسائل التي تعلقت بالإيمان. ولذا نجد أهل السنة يأتون بها في تعريفهم للإيمان فيقولون الإيمان قول وعمل: قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان والجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
استدل أهل السنة والجماعة على أن الإيمان يزيد وينقص بأدلة من الكتاب:
1_ قوله _ تعالى _:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}([131]).
2_ وقال _ تعالى _:{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً}([132]).
3_ وقال _ تعالى _:{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً}([133]).
4_ وقال _ تعالى _:{لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ}([134]).
أما السنة:
فقد جاء في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”([135]).
قال الترمذي رحمه الله: باب في استكمال الإيمان والزيادة والنقصان وساق حديث عائشة _ رضي الله عنها _ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله”([136]).
وهناك أدلة أخرى كثيرة تدل دلالة واضحة على زيادة الإيمان ونقصانه.
فقوله: “وينقص”: أي الإيمان.
“طوراً”: أي ينقص بعدم العمل الصالح، وبفعل السيئات.
“بالمعاصي”: أي كلما عصى الإنسان ربه نقص إيمانه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
“لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن“([137]). فالذي يفعل المعصية ينقص إيمانه، ويضعف، ويقل على ما ذكرناه من أدلة سابقة.
وقوله: “وتارة ….. بطاعته ينمي”: يعني يزيد ويقوى، ويعظم، ويثبت هذا الإيمان بالطاعات.
وقوله: “وفي الوزن يرجح”: يعني يثقل الميزان، ولا شك أن العبد بالعمل الصالح يثبت إيمانه ويقوى يقينه، ويكون أقرب إلى ربه _ سبحانه _ بخلاف من كان متلبساً بالمعصية، ألا ترى أن المعصية لها أثرها على العبد في وجهه، ولهذا كانت الطاعة، والتقرب إلى الله يزيد العبد محبةً وقرباً من الله _ تعالى _.
وقال رحمه الله:
31 | ودع عنك آراء الرجال وقولهم | ** | فقول رسول الله أزكى وأشرح |
32 | ولا تك من قوم تلهوا بدينهم | ** | فتطعن في أهل الحديث وتقدح |
33 | إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه | ** | فأنت على خير تبيت وتصبح |
الشرح :
يختم الناظم رحمه الله وصاياه لصاحب السنة المتمسك بمنهج أهل الحق أهل السنة والجماعة، بوصيتين جامعتين لمعاني الخير وأزكاها وأجملها، فمتى تمسك بهاتين الوصيتين نجا من شبهات المنحرفين.
فالوصية الأولى: يقول له فيها:
“ودع عنك آراء الرجال وقولهم”: أي أيها السني المتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اترك عنك آراء الرجال، واحذر من الأخذ بالآراء التي تنبعث من الهوى لا من الحق.
وقوله: “وقولهم”: فأي قول ينبني على الهوى ويكون مبعثه أيضاً التعصب لجهة أخرى لرجل أو لمذهب فاطرحه عنك، واتركه، واهجره، ولا تأخذ به.
فلا تهتم بآرائهم وأقوالهم ولا تجعلها لك مذهباً لأن أقوال الرجال عرضة للخطأ، وإذا أردت النجاة لنفسك والأخذ بنفسك إلى ما فيه صلاحك وخلاصك فكن متمسكاً بقول رسولك محمد صلى الله عليه وسلم.
لماذا قال رحمه الله: “فقول رسول الله أزكى وأشرح”: وذلك لأن قول رسول الله
أطهر، وأطيب، وأوسع، وأفضل، وأثبت لك من قول غيره.
وفي هذا البيت يرد الناظم على أصحاب الآراء، والملل، والنحل المنحرفة والمحرفة لنصوص الكتاب والسنة.
فهو رحمه الله: يقول له اترك أصحاب الباطل، والرجال الذين بنوا أقوالهم على الرأي دون الاستناد إلى الأدلة الشرعية، اتركهم لأنهم على غير هدى .
ومن هنا جاءت الأدلة على وجوب اتِّباع قول الله، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم دون الأخذ بآراء الرجال، أو أقوالهم التي بنيت على تقديم العقل على النقل.
قال صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي“([138]).
الوصية الأخيرة وهي قوله رحمه الله:
ولا تك من قوم تلهوا بدينهم | ** | فتطعن في أهل الحديث وتقدح |
لما حذر المؤلف رحمه الله السني من أقوال وآراء الرجال حذره من أمر خطير وهو قوله: “ولا تك من قوم تلهوا بدينهم”: أي إياك أن تكون من هؤلاء النفر الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، فهم أصحاب الهوى، والبدع الذين يبتدعون في دينهم، ويدخلون فيه ما ليس منه، فهم يلعبون بالدين، ويتبعون الهوى ولذلك تراهم يطعنون بصاحب الدليل الشرعي، ويقدحون فيه، ومن هنا جاء المؤلف بالتحذير من ذلك فقال:
“فتطعن في أهل الحديث وتقدح”: فأهل الحديث حري بك أيها السني أن توقرهم، وتحترمهم لأنهم حملة الرسالة والذابون عنها بعد موت نبيك صلى الله عليه وسلم المتبعون لهديه، الواردون على حوضه، الذين لم يغيروا ولم يبدلوا، نسأل الله _ تعالى _ أن يجعلنا منهم.
وبعد ذكر هذه الوصايا كلها يبين المؤلف رحمه الله نتيجة هذا الاعتقاد المبارك فيقول:
إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه | ** | فأنت على خير تبيت وتصبح |
قوله: “إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح”:
أي يا صاحبي إذا اعتقدت في حياتك كلها هذه العقيدة التي وضحتها لك، وبينتها لك من خلال هذه المنظومة، إذا ما اعتقدتها وتمسكت بها، ومت عليها “فأنت على خير” إن شاء الله “تبيت وتصبح”.
وهذه المنظومة القصيرة على قصر أبياتها وقلتها التي هي ثلاثة وثلاثون بيتاً فقد حوت معظم تفاصيل معتقد أهل السنة والجماعة.
كما مر معنا في مسألة القرآن، وكلام الله، والرؤية، والصحابة _ رضوان الله عليهم _ وكذلك القدر، وما يتعلق باليوم الآخر، والقبر، والبعث، والحوض، والميزان، وكذلك إخراج عصاة الموحدين من النار، وكذا الشفاعة، ومذهب أهل السنة والجماعة في أهل الكبائر، وكذلك توسط أهل السنة والجماعة بين الخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، وكذلك موقف أهل السنة في باب الإيمان، وكذلك _ أيضاً _ اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أصحاب الهوى، وغير ذلك مما ذكر المؤلف.
ونصيحتي لكل طالب علم أن يهتم بهذه المنظومة حفظاً وشرحاً، وغير ذلك مما يحتاج إليه طالب العلم. نسأل الله _ تعالى _ أن يرحم مؤلفها، ويسكنه فسيح جناته، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الزلفي
مساء الأربعاء: 17/ 6/ 1425هـ
الفهرس
الموضوع |
الصفحة |
المقدمة | |
التعريف بالمنظومة | |
نسبتها للمؤلف | |
التعريف بصاحب المنظومة | |
نص المنظومة | |
شرح المنظومة | |
تمسك بحبـــل الله واتبع الهـــدى | |
الأول: هداية التوفيق والإلهام | |
الثاني: هداية الدلالة والإرشاد | |
ودن بكتـــاب الله والســـنن التي | |
وقل غير مخلـوق كـلام مليكنــــا | |
ولا تك في القرآن بالوقف قائــلاً | |
ولا تقل القرآن خلق قراءتـــــــه | |
وقل يتجلى الله للخلــق جهـــرة | |
حكم من أنكر الرؤية | |
وليس بمولود وليــس بوالـــــــــد | |
وقد ينكر الجهمي هذا وعندنـــــا | |
رواه جريــر عن مقــــال محمــــد | |
وقد ينكر الجهمي أيضــاً يمينـــــه | |
وقل ينزل الجبــار في كل ليـــــــلة | |
إلى طبق الدنيـــا يمن بفضـــــــــله | |
يقول ألا مستغفراً يلق غافــــــــراً | |
روى ذاك قـــوم لا يرد حديثهـــم | |
الروافض والنواصب | |
1-السبئية | |
2-النصيرية | |
وقل: إن خير النــــاس بعد محمــد | |
ورابعهم خير البريــــة بعدهـــــــم | |
وإنهم للرهـــط لا ريب فيـهــــــم | |
سعيد وسعد وابن عوف وطلحـــة | |
وقل خير القول في الصحابة كلهــم | |
فقد نطق الوحي المبين بفضلهـــــم | |
وبالقدر المقــــدور أيقن فإنــــــــــه | |
المرتبة الأولى: مرتبة العلم | |
المرتبة الثانية: الكتابة | |
المرتبة الثالثة: من مراتب الإيمان بالقدر الإيمان بالمشيئة | |
المرتبة الرابعة: الخلق | |
الفرقة الأولى: الجبرية | |
الفرقة الثانية: القدرية | |
شبهة القدرية في ذلك | |
ولا تنكرن جهــــلاً نكيـراً ومنكـراً | |
أولاً: الحوض | |
ثانياً: الميزان | |
وقل يخرج الله العظيـــم بفضـــــله | |
على النهر في الفردوس تحيـــا بمائـه | |
وإن رسول الله للخلـــق شـــــــافع | |
ولا تُكْفِرَنْ أهل الصلاة وإن عصوا | |
ولا تعتقد رأي الخــــــــوارج إنــــه | |
ولا تك مرجياً لعوبــــــــــاً بدينــــه | |
وقل إنما الإيمــــان قول ونيـــــــــــة | |
وينقص طــــوراً بالمعاصي وتــــارة | |
ودع عنك آراء الرجــــال وقولهــم | |
ولا تك من قوم تلهـــوا بدينهـــــم | |
إذا ما اعتقدت الدهر يا صـــاح هذه | |
الفهرس |
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([5]) رواه البخاري برقم (554) ، ومسلم برقم (633).
([11]) رواه البيهقي (1/419) في مناقب الشافعي.
([12]) أخرجه البخاري برقم (7437)، ومسلم برقم (182).
([13]) أخرجه البخاري برقم (554) ومسلم برقم (633).
([14]) أخرجه البخاري برقم (4878)، ومسلم برقم (180).
([25]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6/421).
([26]) رواه البخاري برقم (7411)، ومسلم برقم (993).
([31]) رواه البخاري برقم (4848)، ومسلم برقم (2848).
([32]) رواه أبو داود برقم (873)، والنسائي (2/177).
([33]) انظر تفسير ابن جرير (38/55).
([34]) رواه الترمذي برقم (739)، وصححه الألباني في (الصحيحة) رقم (1144).
([38]) رواه البخاري (13/473)، ومسلم برقم (858).
([40]) أخرجه أحمد في مسنده (2/383)، ومسلم (1/523).
([41]) رواه أحمد (1/238)، والترمذي (739) ، وابن ماجه (1389)، وقال الترمذي: حديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه إلى أن قال: وسمعت محمداً يعني البخاري يضعفه لكن صححه الألباني لمجموع طرقه في (الصحيحة) (1144).
([42]) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة _ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم “لو كنت متخذا خليلا” (3470)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة _ رضي الله عنهم _ باب تحريم سب الصحابة (2540).
([43]) المستدرك على الصحيحين _ ذكر فضائل أهل بدر_ (6968).
([44]) صحيح البخاري _ كتاب الجماعة والإمامة _ باب حد المريض أن يشهد الجماعة (633)، ومسلم _ كتاب الصلاة _ باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض، وسفر، وغيرهما من يصلي بالناس، وأن من صلى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام لزمه القيام إذا قدر عليه ونسخ القعود خلف القاعد في حق من قدر على القيام (420).
([45]) المستدرك على الصحيحين _ ذكر مناقب عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما (6016).
([46]) صحيح البخاري _ كتاب الصلاة _ باب الخوخة والممر في المسجد (454).
([47]) صحيح البخاري _ كتاب فضائل الصحابة _ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم “لو كنت متخذا خليلا” قاله أبو سعيد (3461)، ومسلم _ كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم _ باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2384).
([51]) صحيح البخاري _ كتاب فضائل الصحابة _ باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه (3480)، ومسلم _ كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم _ باب من فضائل عمر رضي الله عنه (2396).
([52]) صحيح البخاري _ كتاب فضائل الصحابة _ باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه (3486).
([53]) ذكر معناه إسحاق بن راهوية في مسنده من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3/672).
([54]) صحيح مسلم _ كتاب فضائل الصحابة _ باب من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه (2401).
([55]) سنن الترمذي _ كتاب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم _ باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه (3701).
([56]) سنن الدار قطني _ كتاب الأحباس _ باب وقف المساجد والسقايات (4/5).
([57]) صحيح البخاري _ كتاب فضائل الصحابة _ باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوى رضي الله عنه (3483).
([60]) سنن الترمذي _ كتاب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم _ باب مناقب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه (3747).
([62]) صحيح البخاري _ باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد برقم (2509)، ومسلم _ باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم برقم (2533).
([63]) صحيح البخاري _ باب الجاسوس برقم (2845)، ومسلم _ باب من فضائل أهل بدر برقم (2494).
([69]) رواه مسلم _ باب حجاج آدم وموسى _ عليهما السلام _ برقم (2653).
([74]) صحيح مسلم _ كتاب الإيمان _ باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى _ وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر وإغلاظ القول في حقه (8).
([75]) صحيح البخاري _ كتاب القدر _ باب وكان أمر الله قدرا مقدورا (6227).
([76]) صحيح مسلم _ كتاب القدر _ باب كل شيء بقدر (2655).
([78]) صحيح مسلم _ كتاب القدر _ باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله (2664).
([79]) رواه الترمذي _ باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره برقم (2144).
([83])صحيح البخاري _ كتاب الجنائز _ باب ما قيل في أولاد المشركين (1318)، ومسلم _ كتاب القدر_ باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (2659).
([84]) سنن البيهقي الكبرى _ كتاب اللقطة _ باب الولد يتبع أبويه في الكفر فإذا أسلم أحدهما تبعه الولد في الإسلام (11920).
([85]) صحيح البخاري _ كتاب القدر _ باب جف القلم على علم الله (6223).
([91]) صحيح ابن حبان _ ذكر ما يجب على المرء من قلة الاغترار بكثرة إتيانه المأمورات، وسعيه في أنواع الطاعات (337).
([92]) صحيح البخاري _ كتاب الاستئذان _ باب زنا الجوارح دون الفرج (5889)، ومسلم _ كتاب القدر _ باب قدر على بن آدم حظه من الزنا وغيره (2657).
([93]) سنن أبي داود _ باب في القدر برقم (4700).
([96]) صحيح البخاري _ كتاب بدء الخلق _ باب ذكر الملائكة ( 3036).
([101]) رواه مسلم برقم (2655).
([102]) رواه الترمذي في الجنائز _ باب ما جاء في عذاب القبر برقم (1071)، وقال الترمذي إسناده حسن، وحسنه أيضاً الألباني في (الصحيحة) برقم (1391).
([107]) صحيح البخاري _ أبواب الكسوف _ باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف (1049).
([108]) صحيح البخاري _ كتاب الجنائز _ باب عذاب القبر من الغيبة والبول (1312)، ومسلم _ كتاب الطهارة _ باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه (292).
([109]) التمهيد لابن عبد البر (2/291).
([111]) رواه مسلم _ كتاب الصلاة _ باب حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة _ برقم (400).
([112]) فتح الباري برقم (6583)، ومسلم _ كتاب الفضائل _ باب إذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها _ برقم (2290).
([116]) رواه البخاري برقم (6406)، ومسلم برقم (2694).
([117]) صحيح البخاري _ كتاب صفة الصلاة _ باب فضل السجود (773)، ومسلم _ كتاب الإيمان _ باب معرفة طريق الرؤية (182).
([118]) صحيح البخاري _ باب صفة الجنة والنار (6192)، ومسلم _ كتاب الإيمان _ باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار (184).
([122]) رواه البخاري برقم (4712)، ومسلم برقم (184).
([123]) رواه البخاري برقم (6305)، ومسلم برقم (199).
([128]) رواه أحمد برقم (2622)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (2622).
([129]) رواه البخاري برقم (3344)، ومسلم برقم (1064).
([130]) صحيح البخاري _ كتاب بدء الوحي _ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسلم _ كتاب الإمارة _ باب قوله صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنية”، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال (1907).
([135]) رواه البخاري _ كتاب الإيمان _ باب أمور الإيمان _ برقم (9)، ومسلم _ كتاب الإيمان _ باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياة وكونه من الإيمان _ برقم (35)، واللفظ لمسلم.
([136]) سنن الترمذي _ كتاب الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم _ باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه (2612).
([137]) صحيح البخاري _ كتاب الحدود _ باب ما يحذر من الحدود كالزنا وشرب الخمر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ينزع منه نور الإيمان في الزنا (6390)، ومسلم _ كتاب الإيمان _ باب نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله (57).
([138]) صحيح مسلم _ كتاب الإمارة _ باب قوله “:=لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم+ (1920).