98 – لقاء حول تقنين الفقه الإسلامي
98 – لقاء حول تقنين الفقه الإسلامي pdf
لقاء حول
تقنين الفقه الإسلامي
تأليف
أ.د عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار
بسم الله الرحمن الرحيم
تقنين الفقه
س 1: هل ترون أن يكون حكم القضاة الشرعيين بناءً على الفقه المقنن بحيث يكون الحكم الشرعي الذي يصدره مبنياً على فقرات في نظام الفقه المقنن، أي يتم الرجوع إليها عند إصدار الحكم؟
ج 1: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الغرار المامين، أما بعد: إن مما يجب الإيمان به أن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه المبين وبعث رسوله ﷺ الصادق الأمين رحمة للناس أجمعين، فقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، فجاء هذا النبي بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء لكن إلى الله المشتكى.
ولقد كان سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين اليد الطولى في الحفاظ على هذا الدين حيث بنوا للناس مجداً شامخاً من فقه دين الشريعة الإسلامية المستنبطة من نصوص الكتاب والسنة، وما تشتمل عليه من العقائد والقواعد والأحكام وأمور الحلال والحرام باذلين في تصحيحها وتمحيصها غاية جهدهم ونهاية وسعهم، فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام.
ولما كانت علوم الأولين والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان مما كتبوه وألفوه غير مبوبة ولا مرتبة قام الجهابذة العدول والأعلام من علماء الإسلام فأفنوا أعمارهم في سبيل الحفاظ على فقه هذا الدين، وعلى صيانة هذا الكنز الثمين، وعلى تهذيبه وترتيبه وتبويبه بحيث يدخل كل طالب علم أو عالم من علماء الأمة على كل قضية من بابها، ويقف على حقيقة العلم بها من وسائلها وأسبابها، فانتفع الناس بما قاموا به أيما انتفاع وخير شاهد على ما بذلوه هذا التراث العلمي المملوء بالمكتبات العامة والخاصة، فهو تراث حافل مملوء بكنوز الحكمة والفقه في دين الله، ولقد مرّ على هذا التراث العظيم أكثر من أربعة عشر قرناً، وكل علماء المذاهب الأربعة متفقون على العمل بأصولها وقواعدها وفرائضها وفضائلها وحلالها وحرامها، وليس فيها مسألة واحدة يمكن حذفها ولا موضوع واحد يحتاج إلى تعديل أو تبديل أو تغييره بغيره أو إزالة شيء من قوانين الشرع عن مكانه أو إلقائه بلا استغناء عنه، فهي باقية ما بقي الدهر، صالحة لكل زمان ومكان لا تتغير بتغير الزمان والمكان.
وما ذكرته هذا كان ولابد منه لأنه مقدمة للإجابة على السؤال الذي طرحته، فمسألة تقنين الفقه وجعله على شكل مواد ونظام مقنن باب الاجتهاد الذي هو أحد مباني الدين العظام والذي عدّه الفقهاء من فروض الكفايات، ولابد للمسلمين من استخراج الأحكام لما يحدث من الأمور، ولهذا لما أرسل النبي ﷺ معاذ بن جبل إلى أهل اليمن لم يقنن له قوانين ليسير عليها في القضاء بين المتنازعين بل قال له كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، أي لا أقصر، قال معاذ: فضرب رسول الله ﷺ صدري وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما ير ضي الله ورسوله.
ثم إن مسألة تقنين الأحكام الشرعية أو تقنين الفقه وجعله على شكل مواد أو قانون يتحاكم إليها له آثار سلبية منها:
(1) تهميش الفقه الإسلامي المتمثل في التراث الضخم الذي تعب أسلافنا في استنباطه وتدوينه والتوسع فيه بحيث لا يوجد حادثة أو يتجدد أمر إلا ويوجد له من النظائر والمسائل بأسهل أو إدراجه معه.
(2) أن تقنين الفقه فيه تقييد للأمة بقول دون آخر مع أنه قد يكون القول المتروك هو الذي يعتقده المخالف لكون الدليل والحجة والبرهان معه.
(3) أحوال الناس مختلفة وعادتهم متباينة حسب اختلاف زمانهم ومكانهم، ولكن القضاة سيحكمون بقوانين مقننة لا يمكن الخروج عنها، بل يجب إلزام الناس بها مع أنها مخالفة لعاداتهم وأماكنهم وأحوالهم.
(4) أن وضع هذه القوانين ستحد من نظر القاضي وتحد من علمه إذ ما الفائدة من علمه إذا لم ينتفع به، ومن هنا كيف يحكم القاضي بشيء لا يعتقده، بل قد يكون ما يحكم به فيه جور وظلم للآخرين.
ومن هنا كان تقنين الفقه ليكون ملزماً للقضاة الشرعيين أمر له آثاره على المتخصصين في هذا الشأن، أما تسهيل الفقه وجعله صوراً ميسرة يفهمها الناس، ويتناسب مع الزمان الذي نعيشه فيه فهذا أمر لاشك أنه يخدم الفقه الإسلامي، بل يكون واجباً لأن الحاجة داعية إليه، ولهذا ألف الكثيرون كتباً أسموها الفقه الميسر.
س 2: ما جدوى تقنين الفقه الإسلامي في هذا العصر؟
ج 2: ذكرنا في إجابتنا على السؤال السابق أنه لا ينبغي تقنين الفقه الإسلامي وأن الواجب ترك الفقه على ما هو عليه وأن على العلماء وطلبة العلم تبسيط الفقه ليتناسب مع قدرات الناس، وليكون أنفع لهم دينا ودنيا، وعلى طلاب العلم والعلماء أيضاً أن يكونوا رفقاء بالمدعويين وعلى بصيرة بالعقاب والزمان الذي يعيشون فيه، فمن المعلوم أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان وهذا فيه دليل على أن شرعتنا صالحة لكل زمان ومكان.
س 3: ما هي الطرق والوسائل التي يجب فيها تقنين الفقه الإسلامي؟
ج 3: ذكرنا سابقاً أن جعل الفقه الإسلامي على شكل فقرات مقننة كأن تقول الحكم في كذا هو كذا، وهكذا سواء كان فقه عبادات أو معاملات وغيره أمر لا ينبغي، وقد بيّنا آثار تلك السلبية، لكن تيسيره للناس وتبسيطه وتسهيل تناوله لكافة طبقات المجتمع هو المطلوب وهو المأمول من طلاب العلم في هذا الوقت.
س 4: يوجد في الشرع الإسلامي ما يكفي الأمة الإسلامية إلى قيام الساعة مما يفند القوانين الوضعية في الدول الأخرى، فما تعليقكم على ذلك؟
ج 4: لاشك أن الشريعة الإسلامية هي تنزيل الحكيم العليم شرعها الله تعالى وأوجبها على عباده لما فيها من ضمان مصالح العباد في المعاش والمعاد، بل هي سبب سعادتهم في دنياهم وآخرتهم لأن فيها تهذيباً للأخلاق وتطهيراً للأعراق، وإزالة للكفر والشقاق والنفاق، ومدارها على جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، وبالجملة فشريعة الإسلام هي الشريعة الخالدة الصالحة للبشرية في كل زمان ومكان، وإني لأعجب من بعض من ينتسبون إلى هذه الأمة؛ أعني أمة الإسلام في استبدالهم هذه الشريعة الغراء وإقصائهم إياها عن مناهج حياتهم وحكمهم واستبدالهم إياها بأحكام وقوانين وضعية.
وحول سؤالكم فنقول: نعم إن شريعة الإسلام يوجد فيها ما يكفي لأمتها إلى قيام الساعة، فهي صالحة لهم ولكل زمان ومكان، وفي هذه الشريعة أيضاً ما يبطل القوانين الوضعية التي فيها القصور والظلم والانحراف لأن واضعيها يتصفون بذلك، أما الشريعة الإسلامية فهي شريعة رب العالمين، فهي تتناسب مع جلال منزلها وكماله.
وبالجملة فالقوانين الوضعية نظرت إلى عمل الإنسان ولم تنظر إلى العقيدة والأخلاق، والإسلام نظر إلى الإنسان نظرة شاملة في عقيدته وعمله وخلقه، بل إن القوانين الوضعية في أرقى صورها اليوم لم تستطع أن تجلب السعادة والأمن للمجتمعات المتحضرة، فأكثر بلاد العالم إجراماً هي تلك الدول التي تدعي أن عندها أرقى ما وصل إليه الإنسان من قوانين، وأكثر بلاد العالم أمناً هي التي لا تزال تطبق شيئاً من شريعة الله، ومن هنا كانت شريعة الإسلام هي التي ينبغي أن يتحاكم الناس إليها، ولهذا أمر الله تعالى نبيه ” أن يحكم بها إذا تحاكموا إليه من أهل الكتاب فقال:{وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}، فالواجب على أمة الإسلام أن تتحاكم إلى شريعة رب العالمين، فلا عذر لها عند الله بتركها ولتعلم أنها بتطبيقها شرع ربها تعود إلى مجدها وعزتها ورقيها، نسأل الله تعالى لحكام المسلمين العمل بكتابه وسنة نبيه.
س 5: ما منزلة المتفقه في الدين في الإسلام؟
ج 5:منزلة الفقه في الدين بيّنها ربُّ العزة سبحانه وتعالى وكذلك نبيه محمد ﷺ ، قال تعالى:{قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، وقال تعالى:{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}، والآيات في بيان فضل العلم كثيرة كلها تبين فضل ومنزلة أهل العلم، وهم أهل الفقه والمعرفة بدين الله تعالى هذا بإجماع أهل العلم.
ومن هنا أمر الله تعالى بأن يكون هناك من يتفرغ للتفقه في دين الله تعالى فقال: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}، فأمر تعالى بأن يكون هناك نفر في كل قبيلة أو قرابة أو مدينة ونحو ذلك هذا النفر يعلمهم دينهم، ثم يبين العلة في ذلك فقال:{لعلهم يحذرون}، أي يحذرون عقابه والوقوع فيما يخالف امره.
أما النبي ﷺ فقد بين عظم شأن المتفقه في دين الله فقال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، فإذا أراد الله تعالى بعبده خيراً وفقه إلى طلب العلم الشرعي والفقه في دينه.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه والعمل به.
س 6: إلى ماذا تعزون اختلاف الأمة في المسائل الفقهية؟ وما هي الحلول في نظركم؟
ج 6: أخي الكريم لتعلم وليعلم القارئ أن الاختلاف بين الناس قدر إلهي وطبيعة بشرية، لكن هذا الخلاف منه ما هو سائغ ومنه ما هو غير سائغ، لكن التعامل مع الخلاف يحتاج إلى بصيرة وإلى علم وفقه وإلا كان الإنسان في حيرة، ومن هنا كان ولابد على العلماء وطلبة العلم أن يبينوا للناس فقه الخلاف لأن الحاجة أصبحت ضرورية إليه.
أما عن أسباب الاختلاف في المسائل الفقهية فهو ناشئ عن أمرين أحدهما حق والآخر باطل.
أما الحق فهو الاختلاف الناشئ عن الاجتهاد فهذا له أسبابه من هذه الأسباب:
- أن الشرع المنزل من قبل الله تعالى لم يجعل دليلاً قطعياً على كل المسائل، بل جعل دليل بعضها ظنياً يحتاج لبحث واجتهاد ونظر يقوم به من حصّل مقومات البحث والنظر والاجتهاد، ومن هنا ينشأ الخلاف لأن باب الاجتهاد مفتوح لمن هو أهله، فهذا العالم يرى أن الحكم في المسألة كذا، وهذا يرى خلافه لأن المسألة مبناها على الاجتهاد، وهذا الاختلاف ليس فيه ذم لأن الصحابة حصل بينهم ذلك، واتفق الصحابة على إقرار كل مرتفع من المتنازعين.
- ومن أسبابه أيضاً اختلاف أفهام العباد، فالعباد أفهامهم مختلفة متفاوتة قد فضل بعضهم على بعض فيها، فما يدركه هذا لا يفهمه هذا، وما يراه الواحد قد يغيب عن الآخرين.
- ومن أسبابه أيضاً اختلاف قدرات العباد على البحث والاجتهاد مختلفة فيما يقدر عليه البعض يعجز عنه البعض، وكذا الاختلاف في ثبوت النص عند البعض وعدم ثبوته عند الآخر، وكذا الاختلاف في وسائل الجمع والترجيح وأصول المذهب، فهذه هي بعض الأسباب الظاهرة لاختلاف المجتهدين.
أما الاختلاف الناشئ عن الباطل فهو الخلاف الذي جاءت الشريعة بالنهي عنه، وذم أهله، وهذا الخلاف أسبابه عديدة منها:
- البغي والتنافس على الدنيا ورئاستها.
- الجهل وتقصي العلم، وظهور البدع، واختلاف المناهج.
- ظهور رؤوس الضلال، الدعاة على أبواب جهنم.
- التعصب المذموم للأسماء والأشخاص، وضعف الولاء للكتاب والسنة.
فهذه هي جملة منشأ الخلاف الباطل على سبيل الإجمال.
أما عن الحلول لمعالجة هذا الخلاف الفقهي فنقول: إذا كان الاختلاف الناشئ عن اجتهاد فهذا لا يمكن إزالته لأن اجتهاد العالم لا يمكن أن يلغى اجتهاد غيره، لكن نحن نعلم أن المسائل الاجتهادية يسع فيها الخلاف، فالواجب على طلاب العلم أن يكونوا منصفين، وأن لا يكون ترجيح عالم لقول من الأقوال يخالف قولهم أن لا يكون ذلك سبباً في ضيق صدورهم، بل عليهم أن يتقبلوا ذلك بكل رضا وقناعة لأنه من الخلاف السائغ.
أما الحلول لمسائل الخلاف فنقول:
إذا كان الخلاف منشأه باطل على ما ذكرته فيكون ترك أسبابه التي تفضي إليه، وأما إن كان منشأ الخلاف هو المنشأ الحق فلا يكن إطلاقاً ودعوى توحيد الأمة في كل المسائل على قول واحد هي دعوى مردودة ردها الإمام مالك حين طلب منه أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على كتابه الموطأ، فقال له: “لا تفعل هذا؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث وروايات، وأخذ كل منهم بما سبق إليهم وعملوا به، ودانوا به مع الناس، وغيرهم وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم”.
س 7: ألا ترون أن الأخذ بالسياسة الشرعية فيه من الخير الكثير للإسلام والمسلمين؟
ج 7: نعم مراعاة السياسة الشرعية مطلوب لدى العالم والفقيه والأمراء والسلاطين، لكن يكون ذلك وفق ضوابط وأسس من أهمها سيادة شريعة الإسلام لأنها هي الأصل التي يستمد منه الأحكام الشرعية، والناس مأمورة باتباعها.
وليس معنى قولنا سيادة شريعة الإسلام حرمان ولي الأمر أو حكامهم من اتخاذ القرارات والأنظمة التي لابد منها لتسيير أمور الدولة، بل على الإمام وولي الأمر ونحوهم مواجهة كل ما يستجد في العصور من الحوادث، وتطور الحياة، وكذا المسائل التي تواجه الأمة والدولة معاً مراعية كذلك مبادئ الإسلام وقواعده، وأن لا يخالف النصوص الشرعية، ولا يكون ذلك إلا بعد الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص من الفقهاء وغيرهم.
وهذا من شؤون ولي الأمر وحسب ترتيبه لهذه المسائل ونصوص الشريعة ولله الحمد قابلة لمثل هذا.