104 – من أحكام الاعتكاف
من أحكام الاعتكاف
إعداد
أ. د/ عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
الأستاذ بكلية التربية بالزلفي جامعة المجمعة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه بعض الأحكام والفوائد المتعلقة بالاعتكاف التي يكثر السؤال عنها أسأل الله تعالى أن ينفع بها فأقول وبالله التوفيق :
* المقصود بالاعتكاف:
هو لزوم مسجد بنية الطاعة لله متفرغاً لذلك على صفة مخصوصة.
* الاعتكاف سنة لا يجب إلا بالنذر:
لقوله تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود} [البقرة:125]؛ ولقوله تعالى:{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون}[البقرة:187] .
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه :« إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ، أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ، فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ» فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَه.(رواه مسلم)
* والاعتكاف مشروع للرجال والنساء:
لحديث عائشة – رضي الله عنها -: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ».(رواه البخاري ومسلم). لكن يشترط في حق المرأة إذن وليها بذلك وأمن الفتنة.
* مقصود الاعتكاف الأعظم:
هو صلاحُ القلب، واستقامته، على طريق سيره إلى الله تعالى، وعكوف القلب على الله تعالى، وجمعيَّتُه عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره، وحبه، والإقبال عليه، في محلِّ هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصيرُ الهمُّ كلُّه به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه، وما يقرِّب منه، فيصير أُنسه بالله بدلاً من أُنْسِهِ بالخلق، فيَعِده بذلك لأُنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.(من كلام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد).
* أجمع الفقهاء على أنه لا يصح اعتكاف إلا في مسجد:
لقوله تعالى:{وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة:187]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا في المسجد فخرج بذلك لزوم الدار، ولزوم المدرسة، بل ولزوم المصلى.
* والاعتكاف مسنون في رمضان وفي غيره:
وأفضله في رمضان وآكده في العشر الأواخر من رمضان.
* ولا حد لأكثره:
إلا أنه يكره إطالته إذا حصل بسببه إضاعة للأهل وانشغاله عنهم، لحديث:« كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ »(رواه النسائي). فمن أطاله كثيراً فإنه يلزم منه ترك طلب المعاش، وتكليف غيره بالإنفاق عليه، وحصول المشقة بإحضار طعامه وشرابه إليه في المسجد، ونحو ذلك من الأغراض.
* واختلف العلماء في أقل زمن للاعتكاف؛
والأظهر أن أقل مدته يوم وليلة. وهو مذهب المالكية، وهذا القول هو الموافق للأدلة؛ فلم يأت في السنة أقل من ذلك.
* المشروع في حق المعتكف أن يدخل معتكفه قبل غروب شمس يوم العشرين من رمضان،
ويخرج منه بغروب شمس آخر يوم من رمضان إن تم ثلاثين يوماً، أو أعلن خبر العيد.
* من نوى الاعتكاف ثم تركه فلا حرج عليه؛
حتى لو دخل معتكفه وبقي فيه مدة؛ لأنه تطوع غير لازم للذمة، ولأنه لم يترك واجباً، لكن يكره له قطعه بعد التلبس به وبعد العزم عليه حتى لا يترك عملاً صالحاً قد نواه بلا عذر فيفوت عليه عمل صالح لعموم قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم}[محمد:33].
* من نوى الاعتكاف في العشر ومنعه مانعٌ:
أستحب له قضاؤه في شوال، لفعله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: ” وَتَرَكَ الاِعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ. “(رواه مسلم ).
* متى مرض المعتكف:
فله الخروج للعلاج ولو كان الاعتكاف واجباً بالنذر فإن المرض عذر في قطعه، فمن لم يستطع إكماله سقط عنه إن كان تطوعاً ولزمه قضاؤه بعد زوال العذر إن كان منذوراً، ويستحب في التطوع إكماله بعد زوال المرض.
* لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد تقام الجماعة فيه؛
لأن الجماعة واجبة واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى ترك الجماعة الواجبة أو تكرار خروجه لها، وذلك مناف للاعتكاف، إذ هو لزوم المُعتكف والإقامة على طاعة الله.
* أفضل المساجد للاعتكاف هي:
المسجد الحرام، ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى، فهذه أفضل المساجد بالترتيب، ثم مسجد جامع، ثم مسجد غير جامع أكثر جماعة، قالوا: ثم ما لا يحوجه لكثرة الخروج أو طول الخروج.
* من نذر أن يعتكف في أي مسجد غير المساجد الثلاثة:
جاز له أن يوفي باعتكافه في أي مسجد آخر؛ لأن البقاع كلها سواء، والقاعدة في هذا:”أنه إذا عين الأفضل تعين ولم يجز فيما دونه”، فمن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لزمه الاعتكاف فيه، ولم يجز فيما دونه؛ لأن كل المساجد دونه في الفضل، وإذا عين المفضول جاز في الفاضل.
* يصح الاعتكاف في ملحقات المسجد:
كرحبة المسجد، ومنارته والغرف الملحقة بالمسجد، ومكتبة المسجد ما دام كل ذلك داخل سور المسجد وملحق به وليس منفصلاً عنه، وأفضلها للمعتكف ما كان داخل المسجد.
* لا ينقطع الاعتكاف بالخروج إلى المنزل لحاجة؛
كقضاء حاجة، ووضوء، وغسل واجب، وأكل وشرب إذا كان هناك من لا يأتيه به، وكذا لو دُعي لأمر ضروري في المنزل فله الخروج لذلك ثم يعود بعده إلى معتكفه، ويكمل ما بقي، ولا يلزمه استئناف المدة من أولها إلا إن كان الاعتكاف واجباً بالنذر فإنه يقضي ما تركه.
* يجوز للمعتكف أن يشترط في اعتكافه؛
لقوله صلى الله عليه وسلم : “الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ” (رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه الألباني).
وهذا عام يشمل الاعتكاف. ولحديث ضباعة بنت الزبير رضي الله عنهما، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لها: “حُجِّي وَاشْتَرِطِي” (رواه البخاري ومسلم). والاشتراط في الاعتكاف كأن ينوي الاعتكاف ثم يقول: ” يا رب استثني من اعتكافي عيادة مريض أو شهود جنازة”، ونحو ذلك من دون نطق، أما لو اشترط الخروج للبيع والشراء، أو الإجارة، أو التكسب بالصناعة، ونحو ذلك فلا يصح الشرط بلا خلاف عند الفقهاء.
* المحافظة على الاعتكاف بلا اشتراط أفضل وأولى:
إلا إذا كان المريض من أقاربه الذين يعتبر عدم عيادتهم قطيعة رحم، فهنا يستثنى، وكذا شهود جنازته.
* الخروج من المعتكف لأمر لا بد منه طبعاً أو شرعاً:
كقضاء حاجة البول والغائط، والوضوء الواجب، والغسل الواجب لجنابة أو غيرها، والأكل والشرب، فهذا جائزٌ إذا لم يمكن فعله في المسجد، فإن أمكن فِعُلُه في المسجد فلا. مثل أن يكون في المسجد حمَّام يمكنه أن يقضي حاجته فيه، وأن يغتسل فيه، أو يكون له من يأتيه بالأكل والشرب، فلا يخرج حينئذٍ لعدم الحاجة إليه.
* الخروج لأمر طاعة لا تجب عليه:
كعيادة مريض، وشهود جنازة، ونحو ذلك فلا يفعله إلاَّ أن يشترط ذلك في ابتداء اعتكافه، مثل أن يكون عنده مريض يحب أن يعودَه، أو يخشى من موته فيشترط في ابتداء اعتكافه خروجه لِذلك فلا بأسَ به.
* ليس للمعتكف الخروج لقربة من القرب إلا بشرط الاستثناء؛
فإن تعين خروجه لأمر لابد منه كصلاة على جنازة، أو تغسيل ميت، أو دفنه فلا حرج. فعن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: ” السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لاَ يَعُودَ مَرِيضًا وَلاَ يَشْهَدَ جَنَازَةً وَلاَ يَمَسَّ امْرَأَةً وَلاَ يُبَاشِرَهَا وَلاَ يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إِلاَّ لِمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ وَلاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ بِصَوْمٍ وَلاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ”(رواه أبو داود، وحسنه الألباني)
* من مبطلات الاعتكاف:
الجماع، أما دواعيه كاللمس، والقبلة، ونحو ذلك. فإذا أنزل بذلك أفسد اعتكافه، فإن لم ينزل لم يفسد اعتكافه، وهذا هو الصحيح.
* لا يبطل الاعتكاف بالاحتلام، أو الإنزال بسبب التفكر، والغيبة والنميمة
مع إثمهما وعظم جرمهما، ولكن تنقص قدره ويأثم صاحبها.
* يجوز للمعتكف:
غسل رأسه، وتسريحه، ودهنه، وقص شاربه، ونتف إبطه، وحلق عانته، وتقليم ظفره، لأن هذا من باب النظافة والطهارة بشرط عدم تلويث المسجد.
* إذا خرج المعتكف من المسجد لعذر من الأعذار:
فله عيادة المريض، والصلاة على الجنازة ما لم يقف لانتظارها، أو يعدل عن طريقه إليها، وهو قول جمهور أهل العلم.
* يباح للمعتكف:
أن يزوره أهله، وغيرهم ممن يريد زيارته، وأن يتحدثوا معه، كما في حديث صفية، وفيه زيارة نسائه له صلى الله عليه وسلم ، وحديثه صلى الله عليه وسلم معهن.
* يكره للمعتكف:
كل ما يُخل بمقصود الاعتكاف ويخرج به عن مقصوده وحكمته، ومن ذلك: الخلطة مع الناس إلا في الصلاة وما لابد منه، والإسراف في الطعام والشراب، وطول النوم، والكلام إلا فيما يعني، وغير ذلك مما لا فائدة منه وما لا نفع فيه.
* يحرم على المعتكف:
البيع والشراء، والإجارة، والصرف، والرهن، وعقد الشركة، وغير ذلك من عقود المعاوضات في المسجد. أما خارج المسجد: فيجوز للمعتكف أن يخرج ويشتري ما لا بد له منه، كقوته وقوت عياله إذا لم يكن أحد يقوم به غيره.
* يكره للمعتكف:
إخراج الريح في المسجد على القول الصحيح، وهو قول جمهور أهل العلم.
* يستحب للمعتكف:
رجلاً كان أو امرأة أن يستتر بشيء، كخباء وغيره ويتأكد ذلك في حق المرأة إذا اعتكفت في مسجد الجماعة؛ لكيلا يراها الرجال.
* يجوز للمرأة المستحاضة الاعتكاف على القول الصحيح:
فكما أنه يجوز لها الصلاة، ويجوز لها الصيام، ويجوز أن يقربها زوجها، فكذلك يجوز لها أن تعتكف بشرط أن تتحفظ، حتى لا تؤذي ولا تلوث المسجد.
* يجوز للمعتكف أن يتصل بالهاتف:
لقضاء بعض حوائج المسلمين إذا كان الهاتف في المسجد الذي هو معتكف فيه؛ لأنه لم يخرج من المسجد، أما إذا كان خارج المسجد فلا يخرج لذلك، وقضاء حوائج المسلمين إذا كان هذا الرجل معنياً فالأولى له عدم الاعتكاف؛ لأن قضاء حوائج المسلمين أهم من الاعتكاف لأن نفعها متعدٍّ، والنفع المتعدي أفضل من النفع القاصر إلا إذا كان النفع القاصر من مهمات الإسلام وواجباته.
* يلاحظ عند بعض المعتكفين:
كثرة الولائم والإسراف في المأكول والمشروب، وهذا فيه نوع إسراف وهو منهي عنه، وفيه نوع من شبع البطن التي تؤدي إلى الكسل عن العبادة، وهذا أمر ملاحظ ومشاهد، فالذي تمتلئ معدته بكل مأكول ومشروب تراه يتكاسل عن أداء العبادة، وإن أداها فهي خالية من خشوع القلب الذي هو لب العبادة، فعلى المعتكفين أن يقللوا من الأكل والشرب وأن يتذكروا قوله صلى الله عليه وسلم : « مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
* لا يجوز أن يعتكف الشاب بغير إذن وليه،
بل على الابن أن يستأذن والديــه في الاعتكــاف، فإن أذنـــا له فحسن، وإلا فلا يجوز له أن
يعتكف بغير رضاهما.
* ومن الأمور التي تعد منافية لروح الاعتكاف:
ما يحصل من اجتماع الشباب داخل المعتكف لغير فائدة، إما لكلام بلا فائدة، أو باللعب بما في أيديهم من الجوالات، وغيرها مما ليس نفع، وهذا بلا شك مخالف لمقصود الاعتكاف، بل على الشباب أن يجتهدوا في طاعة الله، وأن لا يضيعوا وقت الاعتكاف فيما لا خير فيه ولا نفع.
* لا يجوز للمرأة الاعتكاف إلاَّ إذا تحقق شرطان:
إذن المحرم، وأمن الفتنة.
* بعض الموظفين يرغب الاعتكاف، لكن يشترط الخروج للدوام:
وهذا خلاف المقصود من الاعتكاف، والأولى لمثل هؤلاء أداء الواجبات عليهم ومتى انتهت أعمالهم اعتكفوا في المسجد حسب الاستطاعة.
* بعض الناس يكون إماماً أو مؤذناً في مسجد لكن يرغب الاعتكاف في مسجد آخر لاعتبارات أخرى:
فيترك جماعته ويعتكف، وهذا خطأ، وإن لم يستأذن من الجهة المسؤولة فهو آثم لأنه ترك واجباً وفعل مستحباً.
* لا يبطل الاعتكاف إن ارتكب المعتكف شيئاً من المكروهات أو المحرمات،
أيًّا كانت غير الجماع، وأما المحرمات: كالغيبة، والنميمة، والسب، وشتم الناس، ونحو ذلك من المحرمات فلا يبطل الاعتكاف بها، بل تنقص الأجر، وتنافي ما شرع من أجله الاعتكاف.
* إذا كان يقام في المسجد دروس علم ونحوه، فهل الأفضل له أن يحضر هذه الدروس؟
نقول: إن كانت حلقات العلم ليست بكثيرة بحيث لا تنافي مقصود الاعتكاف فالأفضل له حضورها، أما إن كانت كثيرة بحيث تشغله عن القراءة والذكر فالأفضل الانشغال بالقُرب كقراءة القرآن، والذكر، والصلاة في غير وقت النهي، وما شابه ذلك.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.